تشومسكي ومورو يحدثاننا عن "أسرار الكلمات" وحدود فهمنا
في المحادثة التي يتضمنها كتاب "أسرار الكلمات"، يغري مورو تشومسكي بالكلام حول الابتهاج الذي نشهده اليوم إزاء الذكاء الاصطناعي والذي يراه تشومسكي في غير محله.
في كتابهما الجديد "أسرار الكلمات"(الصادر في أيار/مايو 2022 عن دار نشر ""MIT Press)، ينخرط عالم اللغويات المؤثِّر نعوم تشومسكي وزميله القديم أندريا مورو في محادثة غير متكلّفة وواسعة النطاق، متناولين مواضيع متنوعة مثل اللغة وعلم اللغة، تاريخ العلم، والعلاقة بين اللغة والدماغ. تشومسكي، (1928-)عالم لغة أميركي كتب في اللغويات، ,الفلسفة، والسياسة، وله أكثر من مائة كتاب في حقول عديدة. وقد سمي "أبو اللغويات الحديثة" لإسهاماته الإيجابية في الحقل ولمناقشاته مع أشخاص مثل بورهوس سكينر وميشال فوكو.
أما أندريا مورو (1962-) فهو عالم لغة إيطالي متخصص في علم اللغة العصبي، وقد استكشف بحثه حتى الآن الجوانب النظرية والتجريبية للنحو (علم بناء الجملة).
في المحادثة التي يتضمنها كتاب "أسرار الكلمات"، يغري مورو تشومسكي بالكلام حول الابتهاج الذي نشهده اليوم إزاء الذكاء الاصطناعي والذي يراه تشومسكي في غير محله. يرى تشومسكي أن "الكثير من الضجة الإعلامية والبروباغندا" آتيةٌ من وادي السيليكون، ويعبّر عن تردده إزاء "الابتهاج" الناجم عن الابتكار التكنولوجي وإمكانياته، بسبب ما يفترضه ذلك الابتكار حول طبيعة اللغة والإدراك البشري. كذلك، يدعوه مورو للحديث حول اكتساب اللغة عند الأطفال، وحول دراسة المخ. يشير تشومسكي إلى أن الاكتشافات في مجال دراسات المخ في خمسينيات القرن العشرين لم تصل أبداً إلى مستوى علم نفس تلك الفترة.
تشومسكي في المقابل يدعو مورو إلى وصف تجاربه الخاصة التي أثبتت وجود لغات مستحيلة بالنسبة إلى الدماغ؛ لغات تُظهر خصائص تبعث على الدهشة وتكشف أسراراً غير متوقعة عن العقل البشري.
يقول تشومسكي عن كتاب "أسرار الكلمات": "بالنسبة إلي، كانت محادثاتنا بهجة خالصة. فمن الممتع أن تكون قادراً على الانخراط مع عقل متسائل وأصيل حول اهتمامات مشتركة وبحث مستمر يراه كلانا قادراً ربما على رفع بعض الحجب عن ألغاز اللغة والفكر".
أما مورو فعند سؤاله عمّ إذا كان كتاب "أسرار الكلمات" يحمل أي رسالة إنسانية، احتج قائلاً: "لقد كان التعارض بين مذهب الإنسانية والعلم فعالاً في تحرير العلم من اللاهوت. لكن الآن أعتقد أن مصطلحات "إنسانية" و"علم" باتت عقبة أمام فهم الواقع. ويبدو لي أن هذه التعابير تفصّل ما يبدو أكثر اتحاداً من أي وقت مضى؛ لا يمكن أن يكون هناك تمييز فعلي بين ما هو إنساني وما هو حقيقي. ولهذا بات أمامنا تحدٍ جديد: التخلي عن هذا التقسيم _إنساني وعلمي_ ورأب الصدع بينهما منهجياً ومعرفياً. يجب علينا أن نستخدم كل الأدوات من أجل فهم الواقع".
يتناول كتاب "أسرار الكلمات" الكثير من المواضيع المتنوعة، لكن يمكن هاهنا استعراض بعض الرؤى الرئيسية التي يركّز عليها:
أولاً: لا يوجد "نظام لغة مكتمل" قابل للاكتشاف
منذ بدايات القرن العشرين وحتى منتصفه، كان في الأوساط الأكاديمية افتراضٌ ضمني بالاختزالية؛ بمعنى أن كل حقل يمكن في مرحلة ما أن يصبح "مكتملاً"، كل مبحث يمكن أن يُختزل إلى أجزائه ويُشرح بشكل كامل، كل سؤال يمكن الإجابة عنه، كل لغز سيُكتَشف، وكل مشكلة ستُحَّل. وكان هذا ينطبق أيضاً على علم اللغة (اللسانيات)؛ في مرحلة ما، كل اللغات الممكنة يمكن إخضاعها للتنظيم والمنهجة. غير أن عمل تشومسكي في علم أعصاب تشكيل اللغة أتى ليغيّر هذا الإطار المفهومي. لقد رفض تشومسكي افتراض أن اللغة يمكن شرحها بشكل كامل. وأشار إلى أن اللغة تشبه ندفة ثلج؛ تتطور وتتكشّف وفق القوانين الطبيعية كشيء واضح ومدرَك. وعلى الرغم من أن للغة أنماطاً معقدة، لا يعني هذا أن فهمنا لهذه الأنماط سيصبح يوماً ما مكتملاً.
يرى تشومسكي أيضاً حدوداً لاستقصاءاتنا والتي قد تكون، أو لا تكون، حدوداً حقيقية للمعرفة البشرية. وعمل تشومسكي في مجال تشكيل اللغة داخل بنى الدماغ يمثّل أحد هذه الحدود. فعلى الرغم من أننا نمتلك بعض المعرفة عن المناطق المختلفة للدماغ ووظائفها، إلا أننا نفتقر إلى معرفة الكيفية التي يعالج بها الدماغ اللغة ويفهمها. بالتالي، يُظهر كتاب "أسرار الكلمات" أنه من الممكن أن تكون بعض الأجوبة التي نسعى إليها في مجال تقاطع علم اللغة مع علم الأعصاب أجوبةً بعيدة المنال.
ثانياً: اللغة ليست مجرد ميثاق ثقافي اعتباطي، بل إن لها نوعاً من الأساس البيولوجي يسبق التجربة
أحد أهم إسهامات تشومسكي في علم اللغة هي نظرية القواعد التوليدية التي تقول بأن الأطفال قادرون على التقاط لغتهم الأصلية من خلال حديث والدَيهم، ومن دون معرفة القواعد التي تعمل بها اللغة، لأن هنالك بنية بيولوجية في الدماغ يعالج بها البشرُ اللغةَ. وقد أعطى البحث العلمي العصبي الذي قام به مورو مزيداً من الثقل التجريبي لنظرية تشومسكي.
ثالثاً: يجب أن نكون حذرين من ابتهاجنا بالتكنولوجيا والمعرفة البشرية
إن ابتهاجنا الحالي بالابتكار والبحث العلمي يعطينا انطباعاً بأننا نملك إجابة لكل شيء. إنما الحقيقة، كما يوضح تشومسكي، أنه ليست لدينا ولا يمكن أن تكون لدينا إجابة لكل شيء. ولا يجب بالتالي أن نجعل تفاؤلنا يبالغ في تبسيط واقعنا. إن هذا الابتهاج سائد على وجه الخصوص في الاندفاع الملاحظ حول الذكاء الاصطناعي والتعلّم العميق. وغالباً ما تفترض الجهود لخلق كائنات اصطناعية أن منطقة ما داخل الدماغ سوف تكشف سر إعادة خلق الذكاء. غير أن تشومسكي، كعالم لغة، يرى أن هذا بعيد عن الصورة الكاملة للمشكلة. إذ يجب ألا نضع بعين الاعتبار مشكلة الـ"أين" هذه وحسب فيما يخص الدماغ، بل كذلك مشكلة الـ"ماذا" حول ما هي المعلومات بالفعل.
ووفقاً لشومسكي، يوضح هذا كيف أننا نبالغ في تبسيط المشكلة التي تواجهنا، في حين أننا، في الوقت ذاته، نبالغ في تقدير حقل المعرفة البشرية. بالنتيجة، يرى تشومسكي في "أسرار الكلمات" أنه من الضروري أن نتفادى العواطف المبتهجة ونعطي مزيداً من الزخم لمنهج أكثر واقعية.
رابعاً: اللغويات حقل علمي جزئياً، ويجب أن يعامَل على هذا الأساس
يجب أن ندرك أن المنهج الذي نزاول به العلم مهم بقدر الأشياء التي ندرسها. إن معظم عمل تشومسكي ومورو يهتم بالتداخل بين علم اللغة وعلم الأعصاب. على سبيل المثال، أشار تشومسكي، دفاعاً عن القواعد التوليدية، إلى الأساس البيولوجي لمقدرتنا اللغوية. بالتالي، إن وجود معرفة لغوية أكبر مرتبط بمعرفة علمية عصبية أكبر. مع هذا، يرى تشومسكي أن اللغة أكثر تعقيداً من أن يتم اختزالها إلى علم أعصاب.
خامساً: يجب أن ندرك حدودنا، في علم اللغة كما في المعرفة البشرية
على الرغم من أننا تقدمنا كثيراً خلال القرون القليلة الماضية فيما يخص الابتكار والعلوم التجريبية، فلا يجب أن نستمر بافتراض أن تقدمنا لا حدود له. ويجب أن ندرك أن الأجوبة التي نكتشفها بكثير من الجهد إما تفشل في الإجابة عن الأسئلة التي لدينا أو تطرح أسئلة جديدة في أعقابها. مع هذا، يشير تشومسكي إلى أنه بدلاً من اليأس جراء هذا، يجب أن ندرك أن هذا هو واقع الوجود البشري ويجب أن نقبل أن الأسئلة سوف تظل على الدوام موجودة. إن كل مقدرة على القيام بشيء ما تقتضي ضمناً الافتقار إلى المقدرة على القيام بشيء آخر. على سبيل المثال، ما نعرفه في علم اللغة يطرح أسئلة حول طرق العمل الداخلية للدماغ. بالنتيجة، لا يمكن معرفة كل شيء؛ ثمة ألغاز دائمة، حول اللغة وحول شؤون أخرى. ولن تفصح كل الكلمات عن أسرارها.
سادساً: من المهم أن نتعلم كيف نتفاجأ بالحقائق البسيطة
لقد شكّل هذا التعبير الذي يعود إلى تشومسكي نقطة تحوّل في حياة مورو، كما يقول مورو. يريد تشومسكي أن يؤكد أننا يجب أن ننمي اندهاشاً دائماً بالعالم بكل ألغازه، وأنه من ذلك التعجب، سيبزغ شغف باكتشاف الحقيقة. يعني هذا، في حالة الابتكار التكنولوجي مثلاً، تقدير التفاصيل الدقيقة لتكنولوجيا الكمبيوتر أكثر من الاهتمام بالصورة الكبيرة لما قد يبدو عليه الذكاء الاصطناعي. ووفق كتاب تشومسكي ومورو، يمكّننا الفهم العميق للحقائق الأصغر والأبسط لموضوع ما أن نغدو أكثر اتصالاً بالحقل الذي نزاوله. وبهذا، لا ندرك تعقيد الموضوع الذي نبحث فيه وحسب، بل كذلك أهمية كل حقيقة بسيطة اكتشفناها حتى الآن. كما يرى العالمان أن لهذا أثرين مهمين: أولهما إشعال فضولنا للسعي وراء مزيد من الحقيقة. وثانيهما، أن ذلك يغرس فينا تواضعَ إدراكِ أننا نسعى للحقيقة جزءاً فجزء، خطوة بخطوة، لحظة بلحظة. في دراسة علم اللغة، على سبيل المثال، يعني هذا التركيز على الكلمات التي غالباً ما نُغفلها لصالح نظام أكبر. وبفعل هذا التركيز، سوف نفيد من الأسرار التي تحملها الكلمات.
أخيراً، ليست هذه الرؤى الست بالطبع إلا مقدمة. أما إذا أردتَ أن تغوص أعمق، فما عليك إلا قراءة الكتاب كاملاً. لكن الواضح بالطبع أن تشومسكي ومورو يحتفيان بتغيّر العلم وبما تعلّمه البشر حتى الآن. وأنهما يثمّنان الأحاجي، المفاجآت، الألغاز، والأسرار التي تبقى، والتي قد يدوم بعضها إلى الأبد.
ترجمة وإعداد: سارة حبيب