"المقاعد الخالية".. يوميات حصار كفريا والفوعة
على الرغم من مرارة كتاب "المقاعد الخالیة"، إذ يروي قصة حرب بين حياة وموت أناس لم يكن لديهم حتى الخبز ليأكلوه، لكن من بين سطورها يمكنك أن ترى الأمل والرغبة في إنهاء حصار كفريا والفوعة.
كنت أعمل على رسالتي حين طلب مني طالب سوري يتابع مرحلة الدكتوراه في إيران ترجمة يوميَّات كتبها أحد سكان كفريا والفوعة المحاصرتَين إلى الفارسيَّة. أراد أن يُعرّف الشعب الإيراني على ما يحدث داخل قريتَي كفريا والفوعة في ظلّ الحصار. لم يكن لدي وقت، ولكنَّني لم أستطع أن أرفض طلبه فقلت له: "فقط هذا النصّ، لا أکثر". ولكن عندما بدأت بالترجمة، وجدت قصَّة مؤلمة لا يمكن نسيانها. كنتُ قد سمعتُ أشياء عن حصار كفريا والفوعة، لكنني لم أكن أعرف الكثير عن تفاصيل الحياة هناك في تلك الأيام. بعد هذه المقالة قرَّرتُ أن أجد "لیلی الأسود" لأنَّ ما كتبته كان توثيقاً ليوميات الحصار بكل ما فيها من تفاصيل، وهو نوع نادر من الأدب المقاوم يتطلب شرطين لا يجتمعان عادةً: أن تكون في ظروف الحصار، وأن تكون قادراً على الكتابة.
في تلك الیومیَّات يمكنك رؤية تفاصيل صغيرة عن الحرب بأم عينيك، وكيف أصبحت الأشياء التي كانت يوماً ما طبيعية بالنسبة للجميع، أمنية، حتى مصَّاصات الأطفال:
"إلى أن مررنا بالقرب من أحد اﻷطفال الواقفين في الشّارع، انتبهتُ أنّه ينظر نحو بناتي بدهشة، وفهمت بسرعة أنّه ﻻحظ المصَّاصات بأيديهن، وأنّه كأيّ طفل محروم هنا من أكلات اﻷطفال، اشتهى، نظرته ذبحتني لكنّني لم أستطع أن أفعل له شيئاً، فليس معي مصّاصة زائدة أعطيه إياها، ولم أستطع أن أحرم إحدى بناتي من مصَّاصتها، فاستعجلت بالمشي كي أهرب من نظراته التي حاكمتني وجعلتني أشعر أنني أرتكب جريمة، وأمرت بناتي أن يأكلن المصَّاصة بسرعة حتى ﻻ نقهر أطفالاً آخرين في طريقنا.."
على الرغم من مرارة كتاب "المقاعد الخالیة"، إذ يروي قصة حرب بين حياة وموت أناس لم يكن لديهم حتى الخبز ليأكلوه، لكن من بين سطورها يمكنك أن ترى الأمل والرغبة في إنهاء هذا الحصار.
"أكبر أحلامنا ومنتهى غايتنا وهاجسنا اﻷكبر هو حلمنا أن يصل إلينا الجيش ويفتح لنا الطّريق رغماً عن كل مسلح معتد كي يوقظنا من هذا الكابوس المستمر منذ سنة وشهرين، متى نغمض عيناً ونفتح أخرى فنرى سوريا قد عادت كما كانت آمنةً مستقرة، أحلامنا هي ما يصبّرنا على هذا الوضع. هي حبوب المسكن التي نتناولها ليلاً ونحن نائمون، نحن صابرون ولسنا يائسين، نعرف أنّ الله سيأتي بالفرج ﻷنّه وعدنا بهذا. ألم يقل "وبشّر الصابرين"؟ وما زلنا متمسّكين باﻷمل لعلّه يتحقق، ما أضيق العيش لوﻻ فسحة اﻷمل".
على الرغم من كل الصعوبات، كان حبّ الحياة لا يزال يتدفق: "تذّكرت اليوم عندما كنّا نركض إلى الملجأ على صوت صفارة الإنذار العبارة الشهيرة في إحدى قصائد محمود درويش: "ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا".
ستنتهي كل الحروب يوماً ما ولن يبقى سوى الذكريات، ومع مرور الوقت حتى الذكريات ستصبح قديمة، وربما تبقى التحليلات الأكاديميَّة والكتب العلميَّة والسياسيَّة فقط. لكن هذا الكتاب هو تفاصيل حياة وسط الحصار، مقاتلة الموت بالأظافر من أجل البقاء. لم تعتبر مؤلفة هذه المذكرات نفسها كاتبةً وقد أكدت ذلك مرَّات عديدة في مقدّمة الكتاب، لكن الحقيقة هي أن الحرب يمكن أن تحوّل المحاصَرين إلى كتّاب ومؤرّخين.
"في الحقيقة لست كاتبة ولم أكتب يوماً، ولم أتوّقع أنّي سأكتب يوماً، لكنْ ما لفت نظري أنّ الموجودين خارج الحصار لا يعرفون سوى رؤوس أقلام عن حياتنا، وأنّ تفاصيل حياتنا اليوميّة لا تصل إليهم، هم يعرفون فقط أنّنا نُقصف، فخطر لي أن أكتب شيئاً ما، يوميّات مثلاً، تُسهِم ولو بشكل صغير في إيصال صورة حقيقية لِما يحصل معنا هنا، فتفاصيل حياتنا الصغيرة تقتلنا".
بعد أن وجدتُ ليلى، طلبتُ منها أن تكتب ما تبقى من ذكريات، أي ذكرياتها بعد خروجها من الحصار والانفجار الرهيب في "الراشدين". في هذه الكتابات الجديدة، ستلاحظ أنَّ قلم الكاتبة بعد الحصار يختلف عن قلمها في وسط الحصار، وهذا یدل على أنَّ الحياة تحت الحصار تعني ظهور المواهب. لم تكن ليلى تعرفني. لم تكن تعلم أنني سأترجم مذكراتها. هي لم تكتب مذكراتها بقصد نشرها أصلاً، ولم تكن تعلم أن هذه الكتابات ستصبح يوماً ما كتاباً، كانت ليلى تحاول فقط نقل بعض تفاصيل هذا الحصار إلى الخارج.
هي تفاصیل صغيرة، ولكن الحياة تحت الحصار ليست أبداً كالحياة الطبيعية حتى في أصغر تفاصيلها، حتى حفلات أعياد الميلاد وهدايا أعياد الميلاد لم تكن كما كانت قبل الحصار، لكن هؤلاء الناس يبحثون عن سبب لاستمرار الحیاة.
"تركتهنّ وذهبت إلى المطبخ، ووقفت قبالة الرفوف وسندت خاصرتي بيدي، وحملقت بالمرطبانات واﻷواني الفارغة، حملقت وحملقت، وسهوت وسهوت، ووقفت ووقفت، حتى أحسست بتعب في رجلي من طول الوقوف فسحبت كرسياً وجلست عليه وبقيت في المطبخ، نظرت نحو كمية الطحين القليلة، فقلت: "نعم"، ثمّ قلت: "ﻻ. ممنوع الاقتراب من الطحين فهو خط أحمر. هو حصراً للخبز"، فمحوت فكرة الكعك من ذهني وأصلاً ﻻ سكّر عندنا منذ ثلاثة أشهر ونصف، إذاً ماذا أفعل، ورحت أتذكّر ماذا كنّا نصنع في أعياد الميلاد، عصير؟ ﻻ عصير لدينا، تبّولة؟ من أين يا حسرة، مقرمشات (شيبس وبوشار) هاها هيهات، كاتو.. آه.. آه رحلت أيام الكاتو، وهنا أحسست بالغمّ وشيئاً فشيئاً بدأت أشعر بالضيق، ثمَّ بدأت أبكي، بكيت في هدوء، أين كنا وأين أصبحنا، ذهبت أيّام السّعادة والسّعة وجاءت أيّام الكرب والبلاء، دخل زوجي المطبخ وعرف ما بي وفهم أنّني أشعر بالعجز، أعجز عن صنع أيّ شيء بسيط، فقال لي بغصَّة "الحق عليكِ. لماذا ذكرتِ عيد الميلاد؟".
تحاول المؤلفة جاهدةً أن تُفهّم من هم خارج الحصار تفاصيل الحياة: "لذا أتمنى من كلّ شخص يقرأ كلماتي أن يجرّب اﻵتي ليوم واحد فقط، أنا أرجوكم ليوم واحد فقط جرّبوا اﻵتي:
أوﻻً: ﻻ تشربوا قهوة الصباح وﻻ تتذوّقوا أيّ نوع من البسكويت أو "البتي فور" وﻻ تسمعوا فيروز، أحضروا تنكة واغلوا عليها إبريق الشّاي، أشعلوا حطباً وضعوا فوقه بلاستيك أو نايلون وشمّوا الرائحة جيداً، وأرجو أن تضعوا القليل من السّكّر في اﻹبريق. القليل فقط ليس ﻷنّكم تتبعون ريجيماً بل ﻷنّكم ستشربون الشّاي قليل الحلاوة تضامناً معنا، ﻻ تضعوا على الفطور سوى صحني الزيتون والعطون .
ثانياً: أرجو أن تخبزوا على الصّاج، جرّبوا لمرة واحدة أن تعجنوا الطحين الموجود لديكم وليس لدينا، فالموجود عندكم هو طحين حقيقيّ ناعم، وأَجلِسوا رجالكم أمام النار، استخدموا "الشوبك" ومدّوا العجين، وبعد اﻻنتهاء اغسلوا الصّحون بالسطل ليس ﻷنّ خزانكم فارغ بل ﻷنّكم ستشعرون حينها بما نشعر، وأرجو أن تنظّفوا اﻷواني جيّداً من السّخام (الشحوار) العالق بها.
ثالثاً: سخّني يا سيدتي الماء على النّار ثم أفرغيه في الطّشت واغسلي بيديك النّاعمتين الّلتين ﻻ تنامين قبل أن تدهنيهما بالكريمات المطريّة التي حرمنا منها هنا.. اغسلي جيّداً.. افركي وادعكي واعصري ثمَّ اشطفي، طبعاً أرجو أن تغسلي بالصابونة وليس بمسحوق الغسيل الذي يذوب وحده".
أحيانًا تكون لغة الكاتب قريبة من السخرية، وهذا لا يعني أنَّه سعید بل شدَّة الحزن لغة تأخذ الكاتب إلى ضحكة مريرة.
"نعم نحن في زمن صار فيه جرس المعزاة أهم من جرس المدرسة!"
"ثمَّ صعدت إلى السقيفة وبحثت فوقعت يديّ على صناديق كتبي الجامعية فأمسكتها بيدي وقلت: أهذه تحرق؟ وتذكّرت أيّام الدّراسة وكم كانت هذه الكتب مهمة وكم سنة مرّت عليها وأنا أنقلها معي من بيت إلى بيت بعناية وكم هي سميكة وكم هي مناسبة للحرق".
أيام الحصار المريرة لم تقتل أحلام هؤلاء الناس فهم کانوا يحلمون في قلب المشقة ويتمنى الجميع أن تكون الطائرات قد أحضرت معهم ما يحتاجون إليه:
"فقد قالت أم علي: "أكيد أكيد الطيارة طبّت مصاري.. ﻷنّو ﻻزم هالعالم تقبض بقى والله ما ضل معنا"، فقاطعتها أم حسن قائلة: "ﻷ أكيد الطيّارة جابت شاي.. يا ربّ كمان دبس بندورة بلكي منطبخ هالفاصوليا يلي جابوها بالمعونة"، وقال أبو محمد الجالس على مصطبة داره: "أكيد جابولنا دخان أو تتن.. فقالت زوجته: إنشالله تكون جابت متة وقهوة، والله قلبي ناطف عليها"، فقاطعتها أم علي التي جاءت تحمل طفلها على صدرها قائلة: "المتة والقهوة مو مهمين بس بدنا حليب وفوط أطفال"، أما أماني ابنة جيراني فقالت: "إنشالله سكر منشان ماما تعملنا كعك والله اشتقنا ﻷكلة حلو"، ثم جاءت سلوى راكضة نحوي وهي تقول: "إنشالله مازوت." فسألتها وماذا ستفعلين بالمازوت؟ فقالت لي: "يا جارتي مشان يشغّلوا المياه وتجي المي والله خزّاني فاضي وحق متر المي ما فتح ورزق". أمّا أبو أحمد فتنحنح قائلاً: "أكيد ذخيرة.. ﻻزم يجيبوا ذخيرة، يعني استعداداً لكل اﻻحتماﻻت".
ومن أمام بيتها قالت أم حسين بصوتها المتعب: "إنشالله تكون جابت دوا والله المرض أكلني أكل وما عاد أقدر أتحمل من دون الأنسولين ودوا القلب"، ثم قالت أم محمود المعروفة بخفة دمها: "إنشالله ملح الليمون والله مشتهية على شوربة العدس بحامض وكمان بدّي شحّاطة إنتو أكبر قدر ﻷنّو شحاطتي اهترت"، وضحكنا جميعاً واستمر الجميع بالدعاء والتكهنات".
ترى الأطفال يكبرون بسرعة عجیبة. جعلتهم المشقة رجالاً فتجاوزوا مرحلة الطفولة.
في "المقاعد الخالية" نری الحياة والموت والأمل واليأس وحب الحیاة والأسرة جنباً إلى جنب. تستطيع أن ترى تفاصيل الحياة. تفاصيل الحصار.
نهایة الكتاب حزینة تجبر القارئ على التفكّر في كل ما جری. بل لربما أهم جزء في الكتاب هو نهایته، فبينما ينتظر القارئ خروج السكان من الحصار نشهد الانفجار الدموي في الراشدين، لكن النهاية المريرة تجبر القارئ على التفكير، فمرحلة انفجار الراشدين المرعب وقصَّة النساء والأطفال، بعد كل ما تحمَّلوه في ذلك الحصار وظلال الموت والجوع، جلّ أملهم تذوّق طعم الحرية :
"حوالى الساعة الثالثة جاءت سيّارة تحمل أكياس شيبس للأطفال وصاروا ينادون الأطفال كي يأخذوها، وفعلاً ركض أطفالنا الجائعون منذ ليلتين ونهارين نحو السيّارة، ركضوا كي يتذوّقوا من جديد طعمة الشيبس التي نسوها منذ بدأ الحصار اللعين، وفجأة سمعنا صوت انفجار قويّ جداً وبسرعة شديدة لفّنا دخان أسود كثيف ودبّ الرّعب في قلوبنا، وصار الجميع يصرخ ويركض يمنة ويسرة، والرّجال تصرخ على النّساء حتّى يتجمّعن، والمسلّحون يتراكضون وأسلحتهم بأيديهم.. والسيّارة التي انفجرت كانت متوقّفة إلى جانب الباصات التي في المقدمة، طبعاً هذه الباصات احترقت بمن فيها، وكلّ المنظر كان مروعاً ولا يمكن لقلم أن يصف ما جرى، فالدماء والأشلاء والجثث غطّت المكان، واندفع الناس ليبحثوا عن أولادهم وهم يصرخون ويعوّلون ويضربون وجههم.."
لعل أهمّ ما يميّز هذا الكتاب أنَّ المؤلفة تتحدَّث فقط عن حياة الناس وتفاصيلهم. نظرة من داخل الحصار تختلف عن آلاف التحليلات والمراجعات التي تأتي من خارج الحصار.
كتاب "المقاعد الخالیة" الذي نشر في إيران تحت اسم "خمسمئة مقعد خالٍ" لقي استحساناً وتمَّ تكريمه كأفضل ترجمة في العام 2022 في مهرجان "أفضل كتاب دولي فی طهران" (جايزة سرخ نگاران)، ولعله من الكتب النادرة التي نشرت مترجمةً قبل نشرها بلغتها الأصليَّة.
كتاب "المقاعد الخالیة" ليس مجرَّد قصَّة معاناة ومشقة ومحطة حياة لقريتين تبعدان آلاف الكيلومترات عن بلدي. إنَّه جزء من تاريخ الإنسانيَّة، والتاريخ إذا لم يتمّ تسجيله بكل تفاصيله، سيُنسى إلى الأبد.