بيتر فرانكوبان: محاولة واشنطن إيقاف التحول العالمي وهم

رسالة بكين للعالم أن المبادرة ليست تحالفاً جيوسياسياً أو عسكرياً ولا نادياً للصين، بل عملية مصمّمة لتحسين أنماط التنمية العالمية.

  • كتاب
    كتاب"طرق الحرير الجديدة: حاضر العالم ومستقبله" لبيتر فرانكوبان

تستعيد آسيا موقعها الطبيعي كقوة اقتصادية عالمية ومركز بديل لصنع القرار العالمي، لتقول لنا إن ماضي العالم تشكّل من خلال ما يحدث على طول طرق الحرير وكذلك الحاضر والمستقبل.

أهم ما في كتاب"طرق الحرير الجديدة: حاضر العالم ومستقبله" The New Silk Roads: The Present and Future of the World، الصادر عن دار Bloomsbury في لندن، لمدير مركز الدراسات البيزنطية في جامعة أكسفورد المؤرخ البريطاني بيتر فرانكوبان أنه يؤكد لنا بجرأة أن القرارات التي تهم العالم اليوم لا يتم اتخاذها في الغرب بل في بكين وموسكو ودلهي وطهران ودمشق وأنقرة. 

ويقوم المؤلف بتقييم الصدى العالمي لتحوّل اتجاه مركز الثقل الاقتصادي والسياسي العالمي من الغرب إلى الشرق، والذي تجلّى في إعادة تنشيط طرق الحرير الموجودة في كل مكان، ويسلّط الضوء على التقدّم الذي أحرزته مبادرة "حزام واحد طريق واحد"، أكبر منصة للتعاون الدولي في العالم، والتي تشكّل القوة الدافعة للجغرافيا السياسية اليوم. 

إقرأ أيضاً: المستقبل آسيوي": عن صعود آسيا في القرن الحادي والعشرين

ويقارن ذلك برؤيته للغرب الذي فقد اتجاهه وطريقه في هذا العالم المتغيّر، كما ينتقد بشدة سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين بشكل عام، ومبادرة الحزام والطريق بشكل خاص، مشيراً إلى أن التوقّعات الحالية قاتمة ولا تقدّم حلولاً سهلة للولايات المتحدة.

وتبعاً لذلك نعرض أهم الأفكار التي تلقي الضوء على التاريخ الآسيوي الحديث في كتاب فرانكوبان المكوّن من خمسة فصول. 

تحوّل العالم نحو الشرق

لاحظ المؤلف بدقة الاتجاهات الاقتصادية والعالمية التي يشهدها العالم الحالي، وكيف غيّرت الجغرافيا السياسية والموارد الطبيعية وجه العالم من الغرب إلى الشرق، ووصف هذا التحوّل التاريخي بأنه شبيه لما حدث في العقود التي تلت عبور كولومبوس للمحيط الأطلسي... والدوران شبه المتزامن للطرف الجنوبي لأفريقيا بواسطة فاسكو دا جاما.

وأشار إلى أن طرق الحرير لم تكن معروفة على هذا النحو في أوجها، وكان هذا مصطلحاً صاغه الجغرافي الألماني فرديناند فون ريشتهوفن في أواخر القرن التاسع عشر، لوصف شبكات التبادل التي تربط الصين في عهد أسرة هان بالعالم قبل ألفي عام.

وعلى الرغم من أن التحرّكات على طول طرق الحرير كانت محدودة النطاق إلى حد ما، وحجم التجارة كان ضئيلاً وفقاً لمعايير اليوم، لكنها كانت وسيلة لتبادل الأفكار والثقافة.

كان الناس يسافرون سيراً على الأقدام أو بوسائل بسيطة أخرى مثل الجِمال، وتراجعت أهمية طرق الحرير التاريخية في نهاية القرن الخامس عشر، تقريباً مع ظهور السفر البحري كوسيلة نقل أكثر فعالية من حيث التكلفة.

ماذا عن "طرق الحرير الجديدة"؟ 

من قوانين العالم القديم التي وضعها الملك حمورابي والإمبراطورية الفارسية الجبّارة، إلى الهون المرعبة، وصعود أوروبا، والحربين العالميتين، والسياسة اليوم، تنهض طرق الحرير من جديد لتخبرنا بأن نبحر شرقاً.

تعد طرق الحرير الجديدة، التي تربط البحر الأبيض المتوسط ​​بالمحيط الهادئ، مركزاً عالمياً جديداً للقوى الاقتصادية والسياسية الذي تُعتبر فيه الصين وروسيا وإيران ثلاثاً من أكبر وأهم الدول في العالم، بينما تقف موضوعات العزلة والتشرذم التي تتغلغل في العالم الغربي في تناقض حاد مع هذه الأحداث منذ عام 2015. 

كما أن تحديد الطرق التي يرتبط بها العالم، وتقييم كيفية ربط النقاط يسمح بفهم أفضل لما يجري حولنا، ويوفّر منصة لوجهة نظر أكثر دقة أيضاً، ويساعد في تأطير عملية صنع القرار بشكل أفضل.

إقرأ أيضاً: "عودة التاريخ" في تحدٍ للأحادية الأميركية

ومما لا شك فيه أن الصين هي المحفّز في نشوء روابط جديدة، وتجديد الروابط القديمة على طول طرق الحرير، إلى جانب الفهم الواضح لما تريده وتحتاجه في الحاضر والمستقبل، فتحت الأبواب في أماكن أخرى للمشاركة في التكامل الاقتصادي الإقليمي، وتشكيل هذا الجزء من العالم الذي يؤدي الآن دوراً مهماً في تاريخ البشرية.

ويستشهد المؤلف برغبة الرئيس الصيني شي جين بينغ في تعزيز التعاون الآسيوي الأوسع والاحترام والسلام المتبادل، "لقد كتبت شعوب مختلف البلدان الواقعة على طول طرق الحرير القديمة فصلاً من الصداقة التي تمّ نقلها إلى يومنا هذا".   

إقرأ ايضاً: تقرير صيني: لماذا لا يقبل الغرب القرن الآسيوي؟

ومن خلال رؤية شمولية توضح أهمية طرق الحرير الجديدة، وكيف تشكّلت الروابط العميقة عبر العمود الفقري لآسيا الذي يربط الصين وروسيا وإيران والشرق الوسط بوسط وجنوب آسيا: 

توفّر إيران اليوم ثلث النفط الهندي، وتضخ أذربيجان الغاز إلى جنوب شرق أوروبا، وتقوم أفغانستان ببناء خط أنابيب يصل إلى باكستان والهند. "ميناء جاف" في خورجوس على الحدود الصينية مع كازاخستان يعمل كمركز إرسال عملاق للبضائع المشحونة من السواحل التي تبعد أكثر من 1000 ميل، في حين يقع ميناء بحري جديد على شواطئ بحر قزوين في تركمانستان، إنه أكبر ميناء في العالم تحت مستوى سطح البحر، والممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.

ويشير المؤلف إلى أنّ تحوّل مركز ثقل الاقتصاد العالمي من منطقة الأطلسي إلى منطقة المحيط الهادئ كان مذهلاً من حيث الحجم والسرعة، وتجلّى هذا في مبادرات مثل مبادرة الحزام والطريق الصينية، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وصعود شركات تكنولوجيا المعلومات الهندية مثل إنفوسيس، وشركات الطيران من دول الخليج الصغيرة، مثل الخطوط الجوية القطرية وطيران الإمارات والاتحاد للطيران.

وبفعل زيادة السكان في الصين والهند وتركيا وتايلند ودول آسيوية أخرى، فإن عدد المسافرين جواً سيصل إلى 7.8 مليارات في عام 2036، وفق اتحاد النقل الجوي الدولي. وزيادة عدد المسافرين تعني زيادة الإنفاق، وبالتالي ازدياد فرص الاستثمار والعمل في قطاعات الخدمات والمواصلات والسياحة، إضافة إلى زيادة هائلة في الطلب على الموارد الطبيعية والثروات الزراعية، المتوفرة بكثرة في بلدان طريق الحرير.

إقرأ ايضاً: هل باتت آسيا - المحيط الهادئ القلب الجديد للعالم؟

وبالنظر إلى أهمية آسيا الاقتصادية فإنّ لديها ما يقرب من 65% إلى 70% من موارد النفط والغاز الطبيعي- وهو رقم لا يشمل تركمانستان "قلب طريق الحرير العظيم" -، التي تشمل حقول غاز "جالكينش" الموجودة في منطقة الشرق الأوسط وروسيا وآسيا الوسطى، ونصف إنتاج القمح في العالم، وما يقارب من 85% من إنتاج الأرز العالمي، ونحو ثلاثة أرباع السيليكون، و85% من العناصر الأرضية النادرة مثل الإيتريوم، والديسبروسيوم، والتيربيوم، والتي تعتبر ضرورية لصناعة المغناطيسات الفائقة والبطاريات والمحرّكات وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، إضافة إلى 80% من إنتاج الهيروين العالمي.

 تنافس لا مفرّ منه

وعلى الرغم من كلّ الفرص والموارد هناك الكثير من التحديات التي تواجه طرق الحرير من الأمن ونقص المياه والتلوّث... إضافة إلى التحديات الخارجية.

أدى صعود الاقتصاد الصيني وتوسّعه إلى تشجيع دول طرق الحرير على توسيع حضورها اقتصادياً وسياسياً وتقنياً، وهذا يشكّل تحدياً أساسياً للاستراتيجية الأميركية ولأمنها القومي، وتُعتبر مطالبة بكين بالسيادة على مياه جنوب الصين ضمن خط "التسع نقاط" الشرارة الرئيسية في التنافس مع واشنطن.

وأعطى المؤلف أمثلة على أن أميركا لم تفعل أي شيء صحيح، وأنّ تصرّفاتها خلقت تأثيراً معاكساً لما تريده، فقد خرقت القواعد وهاجمت الدول التي تتعامل مع بكين، وفرضت تعريفات جمركية معوقة وعقوبات اقتصادية، وتتحدّث باعتبارها قوة ذات صلة بطرق الحرير، وأفعالها تفتقر إلى الجوهر.

ولطالما كان هدف واشنطن اختراق آسيا والحصول على موطئ قدم، وإعادة تشكيل المنطقة بما يتناسب مع أهدافها الخاصة، فقد كشف انسحابها من الاتفاق الإيراني أنها شريك غير موثوق، وكذلك إخفاقاتها في أفغانستان والعراق أدت إلى تقويض مصداقياتها، إضافة إلى الأنشطة غير القانونية في سوريا التي لم يسفر عنها سوى الدمار وتوسّع التطرّف.

ولم يستغرب المؤلف قرار الولايات المتحدة بالمراهنة على الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين، والديمقراطية الأضخم على مستوى العالم، ولكن الهند شريك وثيق لروسيا، ولديها علاقات وثيقة مع إيران.

وبتقدير المؤلف لم تعد تحظى الولايات المتحدة بالقوة المركزية نفسها التي لم تدم طويلاً بعد نهاية الحرب الباردة، ويتعيّن عليها أن تتفهّم الواقع من وراء التحوّل العالمي وأن تتكيّف معه، ويعتبر المؤلف: "أن محاولة إبطاء أو إيقاف هذا التغيّر هي مجرد وهم". 

الطرق إلى بكين 

كتب المؤلف أن الصين ليست لديها استراتيجية واحدة لإحياء طرق الحرير الجديدة، بل هناك العديد من الاستراتيجيات، وجميعها تؤدي من وإلى بكين، وذلك من خلال أكبر مشروع بنية تحتية في التاريخ ينبع من الصين وينتمي للعالم "الحزام والطريق".

إقرأ أيضاً: العالم يبحث عن قيادة

وتغطي جغرافية هذا المشروع أكثر من ثمانين دولة، تشمل مناطق محورية من جمهوريات آسيا الوسطى، وبلدان جنوب وجنوب شرق آسيا، ودول الشرق الأوسط، وتركيا وأوروبا الشرقية -إضافة إلى دول في أفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي، أي ​​أكثر من 63 % من سكان العالم، بإجماليّ يصل إلى 21 تريليون دولار ــ أو 29 % من إجمالي الناتج العالمي.

ومن أبرز الأصداء المتعلّقة بالمشروع خطة رؤية المملكة العربية السعودية 2030، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي لروسيا وبلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا وقيرغيزستان، ومبادرة الطريق المشرق في كازاخستان، ومبادرة الممرين، ومبادرة الدائرة الاقتصادية الواحدة في فيتنام، ومبادرة الممر الأوسط في تركيا، ومبادرة طريق التنمية في منغوليا، وخطط التنمية في لاوس وكمبوديا وميانمار، عدا الخطط التي طوّرتها الهند، مثل قانون سياسة الشرق، ومشروع الطريق السريع الثلاثي، وخطة الجوار أوّلاً.

وكان من الواضح أن الاتحاد الأوروبي غائب عن هذه القائمة، على الرغم من أن الرئيس الصيني شي جينبينغ أدرج مشروع المحطة الشمالية في بريطانيا كمثال على كيفية سعي الدول في جميع أنحاء العالم لتعزيز الاتصالات من خلال الاستثمارات في البنية التحتية. 

وأكدت الصين لمجموعة 16+1 من أوروبا الوسطى والشرقية ومنطقة البلقان أنها بحاجة إلى دعم التجارة الحرة، والعمل على منع تباطؤ الاقتصاد العالمي، وأنّ الاتحاد الأوروبي قوة مهمة لا غنى عنها للغاية لتحقيق السلام والاستقرار والازدهار في العالم. 

حول تمويل المبادرة

تمّ تسليط الضوء في كثير من الحالات، إن لم يكن في معظمها، على إسهامات الصين، والدعم المالي لهذا المشروع بترليونات الدولارات للبنية التحتية للنقل والطاقة في جميع أنحاء آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. 

وفي تقرير حديث صادر عن بنك التنمية الآسيوي، يقدّر أن احتياجات البنية التحتية في البلدان النامية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ سوف تتجاوز 22.6 تريليون دولار حتى عام 2030 سنوياً، إذا أرادت المنطقة الحفاظ على زخم النمو، مع هذا الرقم. وترتفع إلى 1.7 تريليون دولار سنوياً إذا أضيفت جهود التخفيف من آثار تغيّر المناخ.

ولكن علامة الاستفهام الأكثر أهمية هي كيفية تعامل الصين مع المواقف التي تواجه فيها المشاريع الكبرى إعادة هيكليّة القروض؟ لأنها تشكّل ردود فعل على المبادرة ككلّ. 

ويتحدث المؤلف عن انصراف قدر كبير من الطاقة في واشنطن إلى الانتقاد الصريح لدبلوماسية الديون التي تقدّمها الصين للبنية التحتية عبر منطقة المحيط الهادئ الهندية ومختلف أنحاء العالم.

وعلى ضوء ذلك كانت رسالة بكين أن المبادرة لم تكن تحالفاً جيوسياسياً أو عسكرياً ولا نادياً للصين، بل كانت عملية مفتوحة وشاملة ومصمّمة لتحسين أنماط التنمية العالمية والحوكمة العالمية والتعاون الاقتصادي، وتقديم التمويل الصيني والخبرة الفنية لسد الثغرات في كثير من أجزاء آسيا المتعطشة لتحديث البنية التحتية.

وبكين تدرك مشاكل عبء الديون، وهي مستعدة وراغبة في المساعدة في حلّها على الأقل في بعض الحالات، ولا سيما في أفريقيا التي واجه الحضور الصيني فيها الكثير من الانتقاد والجدل في العالم، عقب استثمارات الصين في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا.

وأوضح المؤلف أن الصين لم تكن قط قوة استعمارية، واعتمدت سياستها على عدم التدخّل في الشؤون الداخلية لأفريقيا، وعدم السعي لتحقيق مكاسب سياسية أنانية، وفي كثير من الأحيان كان الهدف تأمين الأصول الاقتصادية والمراكز التجارية في البنغال وكانتون، ومناجم نهر الراند.

إن الصين قوة باهرة حدّدت تدفّق الأفكار والسلع على طول طرق الحرير لتنهض بالسياسة والتجارة والثقافة العالمية، وتُبشّر بفجر جديد في الشؤون الدولية. 

الكتاب كان إعادة تقييم كبرى لتاريخ العالم في ضوء النهضة الاقتصادية والسياسية في الشرق الناشئ من جديد.

نشير إلى أن كتاب "طرق الحرير الجديدة: حاضر العالم ومستقبله" حقق شهرة عالمية، وتصدر قائمة أعلى المبيعات عند إصداره، وترجم لأكثر من 12 لغة. ويعتبر المؤرخ بيتر فرانكوبان من أبرز الباحثين في الغرب.