الفلسفة بين البرج والمقهى
خصوم الفلسفة في دنيانا العربية يعتقدون بألا قدرة لنا على الإنتاج الفلسفي. في هذه الورقة، نناقش خطأ هذا الاعتقاد، مستوحين الموضوع من دراسة للفيلسوف ناصيف نصار بعنوان "الفلسفة بين القلعة والسوق".
عنوان هذه المقالة وموضوعها مستوحيان من دراسة للفيلسوف الدكتور ناصيف نصار عنوانها: "الفلسفة بين القلعة والسوق" (1)، ردّ فيها على منتقدي كتابه "مطارحات للعقل الملتزم" (2) منتقداً كل تصوّر يضع مسافة بين الفلسفة والمجتمع، وكل رأي يأخذ على الفلاسفة ابتعادهم عن "هموم الناس وتطلعاتهم"، مصنّفاً المتحاملين على الفلسفة والفلاسفة في خانة الخاضعين لقوى سياسية، دينية وأيديولوجية، محليّة ودولية، ليس من مصلحتها أن ترعى الفلسفة، متّهماً إياهم بالعمل على خدمة منهج فكري محدّد إحدى سماته الرئيسية "استبعاد الفلسفة عن دنيا العرب".
ذلك أن خصوم الفلسفة، في دنيانا العربية، يعتقدون بألا قدرة لنا على الإنتاج الفلسفي، ولذك يدعون إلى هجر الفلسفة والإنكباب على الشعر والرواية، وذريعتهم أن الغرب هو موطن الفلسفة، هو قلعتها وهو سوقها، بل هو مركز كل علم وكل فكر وفن وفلسفة وصناعة في العالم، وما العرب، في نظرهم، إلا مستوردين للبضاعة الفلسفية، ولكل بضاعة أخرى، وقد أعفاهم سوقها المتنوع من "عناء العمل ومشقّة الإنتاج ومعاناة الإبداع".
باختصار، يُجمل نصّار وجهة نظره في هذه القضية الشديدة التعقيد في العبارة التالية: "إن قلعة الفلسفة تستمد معناها الحقيقي من قلعة الغرب، وقلعة الغرب قلعة امبريالية يهمها أن تبسط سيطرتها على العالم كله، وأن يقتنع الناس بعجزهم عن الوصول إليها والإتصال بها والإستفادة منها"، خالصاً إلى القول: "إذا كان مفروضاً علينا أن نتعامل مع الفلسفة بلغة السوق، فلماذا لا يكون لنا موقع في سوق الفلسفة، وطريقة للتعامل مع حاضرها المتفاعل مع ماضيها، وإسهام في أعمالها، عرضاً وطلباً أو طلباً وعرضاً؟"(3).
بين القلعة والبرج والسوق والمقهى
نشاطر الفيلسوف نصار رأيه المتقدّم في الفقرة السابقة، ولكننا سنتناول القضية من زاوية أخرى أشار هو إليها، مراراً، من دون أن يتوقف عندها بما يكفي. وترتكز مقاربتنا على نقد التعريفات المتداولة لمفهوم الفلسفة وتاريخها من جهة، وبسط تصور مختلف لمفهومها ووظيفتها ودور الفيلسوف ومهمته من جهة ثانية.
تصوّر يؤكد على الإستقلال الفلسفي سبيلاً إلى الحرية والإبداع، ويُحرّر الفلسفة من التعريفات الكلاسيكية التي سادت في العصور السابقة، والتي أظهرتها بمظهر"الحاكمية" المتعالية التي تشيح ببصرها عن هموم الناس ومشكلاتهم. وقد حملت هذه القراءة، في الشكل والمضمون، عنواناً يُشبه، إلى حدّ كبير، عنوان دراسة نصّار المذكورة أعلاه.
لقد أردت لهذه القراءة عنواناً يُدخل الفلسفة بالعالم المعاصر، من بوابته الكبيرة، وهي عملياً في قلب هذا العالم، تتصدّى لمشكلاته ولا تقبع، كما يزعم خصومها، في مكان متعال تُطلّ منه بازدراء على العالم ومن فيه. وتتوخى قراءتي رفع الحدود والفواصل المفتعلة بين البرج بوصفه حصناً "منيعاً" عصياً على الإختراق وبين المقهى بوصفه ملتقى مفتوحاً للتلاقي والتفاعل والحوار، بين الفلسفة بوصفها منهجاً في التفكير في قضايا الحياة والعالم وليس علماً متعالياً في المطلقات المجرّدة، وبين الناس بوصفهم موضوعاً للتفكر المسؤول والتفلسف الصحيح. كل ذلك في رحاب المجتمع الإنساني حيث تؤلف المدينة بشوارعها وساحاتها ومسارحها وجامعاتها وأنديتها ومقاهيها وحدائقها العامة إحدى علاماته المميّزة. أليست الفلسفة بنت المدينة وحصيلة التمدن؟
يتساءل المعلم بطرس البستاني في سلسلة مقالاته التي ضّمتها نشرة "نفير سوريا"(4) بين عامي (1860-1861) وفرنسيس مرّاش الحلبي في كتابه "غابة الحق" (5) الذي يندرج في زمرة الكتابات الأدبية/الفلسفية والذي نشره سنة 1865؟
خصوم الفلسفة، في دنيانا العربية، يعتقدون بألا قدرة لنا على الإنتاج الفلسفي، ولذك يدعون إلى هجر الفلسفة والإنكباب على الشعر والرواية، وذريعتهم أن الغرب هو موطن الفلسفة وقلعتها وسوقها، بل هو مركز كل علم وكل فكر وفن وفلسفة وصناعة في العالم.
وحتى لا نقع في الفخ الذي انساق وينساق إليه، باستمرار، المتأثرون بالفكر الأجنبي، من دون إعمال أي نظر في هذا الفكر: نقداً وتصويباً، ومن دون تحمل المشتغلين بالفلسفة، عندنا، عناء التفتيش عن مراجع أخرى، خصوصاً في ثقافتنا الوطنية، يبنون عليها أطروحاتهم حول الفلسفة والمدينة والتمدن، وما إذا كان بين هذه المعاني الثلاثة من تنافر أو تلاق، سأذهب مباشرة إلى مفكر من دنيانا العربية طالما تناول هذه القضية وقال قوله فيها، هو أنطون سعاده، وذلك إنصافاً له ولثقافتنا الأخرى المختلفة عما يُعرض في سوق الفلسفة، عندنا، من بضاعة مستوردة، مغلفة وجاهزة للإستهلاك.
بداية، ماذا نعني بكلمتي "البرج" و"المقهى" اللتين تتصدران عنوان هذه الدراسة التي تهدف إلى "تبرئة" الفلسفة والفلاسفة من ارتباطها وارتباطهم المزعوم بالبرج العصيّ على الإختراق، وتحريرها وتحريرهم من هيمنة المتحصنين المفترضين في داخله الذين يحاولون أسرها، على ما يزعم بعض الغلاة.
أما هدفنا، من هذه المقاربة بين البرج والمقهى، فهو التأكيد على ارتباط الفلسفة وكل نشاط فلسفي بالمدينة، فهذه الأخيرة، بمقاهيها وساحاتها وروّادها، هي بيت الفلسفة وموئل الفلاسفة.
البرج هو بناء مرتفع، مستدير أو مربع، كان يُبنى قديماً على مداخل المدن لحمايتها، أو على الميناء البحري لهداية السفن وتوجيهها، وهذه المهمة نفسها يؤديها، اليوم، برج المراقبة للطائرات. يُقال: بَرَج الشيء أي ظهر وارتفع، والبرج من المدينة هو الركن والحصن، ويُقال: برج عاجي أي المكان المنعزل المشيّد للتأمل، وغالباً ما يُتهم الفلاسفة بأنهم ينشدون الإقامة، بعيداً عن الناس، في هكذا أبراج.
وجاء في القرآن: "أينما تكونوا يُدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة" (سورة النساء، الآية 78)، في إشارة إلى أن الأبراج مهما كانت عالية ومرتفعة وصعبة المنال ومهما تحصّن أصحابها وتجبّروا في داخلها، فإن الموت مُدركهم، لا محالة.
والكلمة الفرنسية (bourg) التي تعني البلدة الكبيرة التي تقام فيها، بانتظام، أسواق للتبضع والنزهة، اشتقت منها كلمة (bourgeois) التي تعني الشخص، إبن البلدة أو المدينة الذي لا ينتمي إلى طبقة النبلاء، ولكنه، في المقابل، يتمتع بمجموعة امتيازات خاصة.
المقهى هو أحد وسائل التواصل الإجتماعي بين الناس، وتخصّصت بعض المقاهي بأنها مقاهِ أدبية يتلاقى فيها الأدباء للتشاور والنقاش، وكان القهوجي والنادل والحكواتي يرتبطون مع غيرهم بهذا المكان.
أما المقهى فهو مكان عام تُقدّم فيه القهوة وأنواع من الأشربة. والمقاهي، اليوم، منتشرة بصورة كبيرة في العالم. أما كلمة (café) الفرنسية فهي مشتقة من كلمة (kahve) وأصلها تركي ومشتقة من كلمة قهوة في اللغة العربية المشتقة من كلمة (قَهَا) بمعنى فاقد الشهية، حيث أن لهذا المشروب قدرة على تقليل الجوع.
ولا يخفى على أحد أن المقهى هو أحد وسائل التواصل الإجتماعي بين الناس للتعرف على أحوال البلاد أو المدينة، وتخصّصت بعض المقاهي، حسب موقعها، بأنها مقاهِ أدبية يتلاقى فيها الأدباء للتشاور والنقاش، وكان القهوجي والنادل والحكواتي يرتبطون مع غيرهم بهذا المكان.
مقهى "النوفرة" في دمشق هو أقدم مقهى، عمره 500 سنة، وهو من معالم دمشق في العصور الوسطى، أما موقعه فيُطلّ على الجهة الخلفية الجنوبية للجامع الأموي. ربما لا يعلم كثيرون أن "انتشار المقاهي الشعبية في دمشق سبق مثيلاتها في أوروبا بأكثر من مئة عام، إذ أن أول ظهور لأنماط من الفعاليات الإجتماعية المرتبطة بشرب القهوة في فضاء المدينة العام يعود إلى النصف الأول من القرن السادس عشر، بينما المقهى الأول الذي شهدته أوروبا فُتح في لندن، منتصف القرن السابع عشر. هذه الأسبقية التاريخية منحت المقاهي في دمشق الريادة في تغيير وجه المدينة بما خلقته من أنماط إجتماعية جديدة في العلاقات، وما احتوته من أسلوبية مغايرة في الحياة والتلاقي، خارج إطار المنزل والأماكن الدينية، فضلاً عما يتمّ ضمنها من نقاشات وسجالات فكرية جعلت من المقهى منتدىً اجتماعياً وثقافياً وحتى سياسياً، كان له تأثيره الواضح على الكثير من مفاصل عيش السوريين عامة، إضافة إلى دور في تغيير معالم المدنية الحديثة، عل اعتبار أن القهوة من أهم العناصر التي ساهمت بظهور أحوال التمدن الجديد"(6).
الإتجاه نحو المدينة
بعد سقوط روما وتفكك نظامها الأمبراطوري الحديدي مع بداية العصور الوسطى، بدأت الدولة في الغرب الأوروبي تنحلّ الى إقطاعيات "ووقعت كل واحدة منها في حوزة أمير نبيل أو بطل محارب" (7).
واستغلّ الإقطاعيون ضعف التنظيم الإداري في الأمبراطورية الرومية الشرقية (البيزنطية) التي خلفت روما في الشرق، لتدعيم سلطتهم، فـاستفحلت السلطة الإقطاعية، على امتداد أوروبا، حتى أن امبراطورية الفرنجة بزعامة شارل مارتل (من718 إلى 741م) ووريثتها الأمبراطورية الرومانية المقدّسة بزعامة شارلمان (من 800 إلى814م) اضطّرت، هي أيضاً، إلى القبول بالأمر الواقع وإلى احتمال حكم الإقطاعيين البلاد بناءً على تخويل شرعي من الملك(8).
وانعكست قوة الإقطاعيين، بوصفهم طبقة جديدة صاعدة، في قوانين الدولة بحيث "أخذت الإقطاعية تتحول إلى صنف خاص يتوارث أفراده الألقاب والمراكز، فكان الوارث أو ولي العهد يُثبّت في خلافته لقاء دفع تعويض" (9) أو بدل مادي أو عقاري.
إلى جانب النظام الإقطاعي في أوروبا، نشأ نظام آخر يدّعي السيادة العامة هو نظام الكنيسة الذي استمدّ قوته ومشروعيته من الدين. وتعاظمت سلطة رجال الدين، بدورها، بشكل لم يُعرف له مثيل، من قبل، في مدنية البحر المتوسط، حتى أن بعض الباباوات زعم أنه السيد المطلق الذي يخضع له كل الأمراء. ولكن، ما لبث أن اندلع نزاع طويل بين السلطة الباباوية (في شقها الزمني) وسلطة الملوك، خرج فيه الملوك ظافرين إذ فشلت الكنيسة في التوفيق ما بين القوة الروحية التي تمثلها عند جموع المؤمنين والسلطة الزمنية التي ادّعتها لنفسها، طويلاً. الأمر الذي اضطرّها لأن تتنازل عن طلب السلطة الزمنية، تاركة ما لقيصر لقيصر وما للدنيا للدنيا ومحتفظة لنفسها بالإلهيات والروحانيات (10).
المشهد نفسه، تقريباً، تكرّر في العالم الذي خضع للدولة الإسلامية في الفترة نفسها، فترة العصور الوسطى، مع أن هذه الأخيرة، أي العصور الوسطى الإسلامية، كانت عصور ازدهار وتطور، في حين كانت مثيلتها في الغرب عصور انحطاط واستبداد. كانت سلطة الخليفة أو رأس الدولة، وهي سلطة روحية وزمنية في آن معاً – إسمية أكثر منها فعلية، فلم يتمكن الخليفة من مقاومة النزعات الإستقلالية المستمدة من عصبيات الشعوب المتعددة الداخلة في نطاق الخلافة الإسلامية.
نصار: إذا كان مفروضاً علينا أن نتعامل مع الفلسفة بلغة السوق، فلماذا لا يكون لنا موقع في سوق الفلسفة، وطريقة للتعامل مع حاضرها المتفاعل مع ماضيها، وإسهام في أعمالها، عرضاً وطلباً أو طلباً وعرضاً؟
والحقيقة، أن التفكك نصيب كل دولة دينية، لأن كل دولة دينية تحمل في داخلها مبدأين لا يمكن الجمع بينهما هما: الوظيفة الروحية والسلطة الزمنية (11). هكذا تفككت امبراطورية "أمير المؤمنين" في بغداد وزالت صورتها بعامل الغزو المغولي التي لم تكن لها قوة لدفعه.
هذا التحول الجذري في تطور الدولة، خصوصاً في الغرب، عائد إلى "عامل الإتجاه نحو المدينة". فنشوء المدن الذي كان من نتائج التغييرات الهامة في عوامل وأساليب الإنتاج الإقتصادي، قاد بدوره الى إحداث تحولات أكثر جذرية في هذه العوامل والوسائل الإنتاجية التي قادت بدورها إلى تأسيس نظام إجتماعي جديد انعكس في اتجاهات الدولة الجديدة(12).
يقول سعاده: "مع نشوء المدن ونشاط التجارة والإحتراف ونهضة الإختراعات، دخل التمدن في طور جديد زعزع مؤسسات كثيرة. فالتجارة والإحتراف زعزعا النظام الفردي والعائلة القائمة بأود نفسها، والإتجاه نحو المدن حرّر الأرقاء وأبطل الإعتماد على سيد الأرض، واختراع البارود قضى على مكانة الفرسان النبلاء الذين رسم لهم (سرونتس) صورة هزلية جميلة في بطله "دون كيخوته"، واختراع الورق والطباعة فتح الأعين والبصائر وأيقظ الشعور. ومن هذه العوامل جميعها تكوّنت الطبقة الوسطى وأخذت طبقة الملاكين والإقطاعيين تضعف وقويت سلطة الملك"(13).
لم يكن ممكناً، إذن، إنقاذ الدولة في الغرب من هذه الفوضى إلا بالإتجاه نحو المدينة، فنشوء المدن ونموها والعمل الصناعي والإتجار أوجدت، كلها، المحيط والجوّ الصالحين لحرية العمل وتبادل الأفكار والمعارف. ذلك أن المدينة كانت دائماً أصلح مكان لنمو الفكرة الديمقراطية التي، من دونها، لا سبيل لتبادل الأفكار في مناخ من الحرية.
والمدينة هي المكان الوحيد الذي يُمكن أن تتمركز فيه الحياة السياسية. ولنا خير مثال في ما بلغته مدن أوروبية كثيرة، في عصر النهضة (la renaissance) من تطور عندما أوجدت الطرق اللازمة لنشوء الحركات الإجتماعية والسياسية التي أخذت تعدّ السبيل لعصر جديد من عصور الدولة هو عصر الديمقراطية ونشوء القومية (14).
الدولة الديمقراطية القومية
لقد ترتب على هذه التحولات العميقة في صلب النظام الإقطاعي حصول نتائج كثيرة لعلّ أهمها على الإطلاق كان ظهور القومية. يقول سعاده: "إن استيقاظ الشعور بالوحدة الحيوية والمصلحة الواحدة والرابطة الواحدة بالحياة في أشكالها وأسبابها واتجاهها جعل الجماعة تدرك وجودها وجهّزها بوسائل التعبير عن إرادتها فكان ذلك بدء نشوء القومية"(15). في هكذا وضع، صار للمجموع الشعبي "رأي وإرادة ولم يعُد خاضعاً لسلطة الأمير أو النبيل، وصار يميل نحو الملك لأن الملك كان يمثل وحدة الدولة ووحدة السلطة ووحدة المصلحة ووحدة الشعب"(16).
وفي النزاع، الخفي أحياناً والعلني أحياناً أخرى، على السلطة بين الملكية والإقطاعيين، كان الشعب، خصوصاً في المدن، يقف في جانب الملك ضد هذه الأرستقراطية الإقطاعية الي تسلطت عليه واستعبدته ووقفت حائلاً قوياً من دون ظهور إرادته العامة الآخذة في النمو والشعور بنفسها (17)، واستمر انحياز الشعب إلى صف الملك إلى أن تغلبت الملكية على الإقطاع وتفرّدت بالسلطة وتصالحت الدولة والدين.
لفظ (المدينة) الذي يطيب للمأخوذين بما يُسمّى "المعجزة اليونانية" وللمتحاملين على المدنية الكنعانية، اعتباره لفظاً يونانياً، هو لفظ ومصطلح كنعانيان بدأ استخدامهما وانتشارهما في حوض المتوسط الغربي والشرقي، في القرن التاسع قبل الميلاد، قبل ظهور أثينا وروما كحاضرتين متوسطيتين.
ولكن القومية الناشئة حديثاً لم تقف عند حدّ القضاء على سلطة الإقطاعيين وتوحيد المرجع في الملك الذي أخذ تفرّده في السلطة يتعاظم حتى أصبح شديد الوطأة، بل سارت نحو الهدف الذي يبرّر وجودها وهو: أن السيادة مستمدة من الشعب وأن الشعب لم يوجد للدولة بل الدولة للشعب. هذا هو المبدأ الديمقراطي الذي تقوم عليه القومية، فالدولة الديمقراطية هي دولة قومية حتماً لأنها "لا تقوم على معتقدات خارجية أو إرادة وهمية، بل على إرادة عامة ناتجة من الشعور بالإشتراك في حياة إجتماعية إقتصادية واحدة. الدولة أصبحت تمثل هذه الإرادة. فتمثيل الشعب هو مبدأ ديمقراطي قومي لم تعرفه الدول السابقة. الدولة الديمقراطية لم تمثل التاريخ الماضي ولا التقاليد العتيقة ولا مشيئة الله ولا المجد الغابر، بل مصلحة الشعب ذي الحياة الواحدة الممثلة في الإرادة العامة، في الإجماع الفاعل، لا في الإجماع المطاوع"(18). مع هذه اليقظة القومية أصبحت الدولة النظام والهيئة الممثلين لإرادة الأمة، بعد أن كانت، قبل ذلك، إرادة خصوصية تفرض نفسها على المجموع الذي تشمله.
إن العملية التاريخية التي تجلت في قيام الدولة القومية كمعبرة عن الإرادة العامة لن تكف عن التطور باتجاه عالم جديد، عالم أرقى من هذا العالم، عالم لطالما بشّر الهداة والحداثيون بقدومه، هو عالم المجتمعات القومية والما فوق قومية التي تصدر عنه بعد أن تكون كل الأمم - ومن بينها العربية - قد استكملت وحدتها القومية. عالم غير طبقي، عالم لا طبقات لأمم متصارعة فيه. لكن التطور باتجاه العالم كله، كمتحد إجتماعي واحد، يتوقف على تلاشي الحدود الجغرافية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية التي تكرّست، تاريخياً، مع توزع البشر على بيئات جغرافية. فالعملية التاريخية، من حيث هي تطور دائم، لا بدّ من أن تستمر. أما ما يلي ذلك من احتمالات، فيبقى ضرباً من ضروب التكهن. فمن يدري: هل يُصبح العالم كله أمة واحدة؟
المدينة الكنعانية البحرية نموذجاً
في متابعته لكيفية نشوء الدولة والديمقراطية وتطورهما وأهمية المدينة كعامل رئيسي في صناعة هذا الحدث العظيم، نأخذ مثالاً المدينة السورية البحرية (الكنعانية) التي طبعت ثقافتها على البحر المتوسط، وعلى وجه الخصوص مدينة قرطاجة.
وقبل التوسع في هذه النقطة المحورية، نشير، بداية، إلى أن لفظ (المدينة) الذي يطيب للمأخوذين بما يُسمّى "المعجزة اليونانية" وللمتحاملين على المدنية الكنعانية، اعتباره لفظاً يونانياً، هو لفظ ومصطلح كنعانيان بدأ استخدامهما وانتشارهما في حوض المتوسط الغربي والشرقي، في القرن التاسع قبل الميلاد، قبل ظهور أثينا وروما كحاضرتين متوسطيتين.
أما اللفظة الكنعانية فهي (قرتَ) وتحمل معنيين: الأول القرية التي هي تجمع سكني صغير، والثاني المدينة التي هي تجمع سكني كبير. عندما نقول، مثلاً، (قرتَ حديشَ) نفهم: قرتَ أو قرية حديثة أو مدينة حديثة لأن الحداثة مرتبطة بالمدينة أكثر منها بأي شيء آخر.
وعندما نقول قرطاجة بعد تحوير (قرتَ جو) بحسب اللكنة الرومانية، نعني قرطاجة. وعندما نذكر ملقرت بعد دمج (ملك وقرتَ) نعني ملك المدينة الدائم الذي لا يموت، أي إله المدينة. وعندما ندمج (قرتَ) و(طيبة) نحصل على إسم (قرطبة) أي المدينة السعيدة، الهنيّة، وهي (كردبة) اليوم، باللغة الإسبانية.
الحقيقة الفلسفية المستخلصة من دراسة حدث معيّن واقع في التاريخ هي حقائق متعدّدة بتعدّد الفلسفات التي تقاربها والتأويلات التي تُعطى لها وبالتالي، فالحقائق الأساسية هي التي تعطي الفلسفة التي تنتظم فيها، قيمتها، فتميّز بين فلسفة صحيحة وأخرى زائفة، والفلسفة الصحيحة هي التي تُسهم فعلياً في خير الإنسانية وتقدمها.
أما كلمة (سوفيت) أو(شفط) فتعني القاضي أو الحاكم، وقد كان الشفط يقوم بالمهام نفسها في كل من قرطاجة ولاحقاً في روما. أما كلمة (Agora) اليونانية فأصلها كنعانية وتعني (الحاكورة) أو الساحة، أي المكان العام الذي يحق لجميع أبناء القرية أو المدينة الإلتقاء والتجمهر فيه والإدلاء بأفكارهم (*).
كانت قرطاجة أول جمهورية تأسّست في التاريخ (حوالى القرن التاسع ق.م.) يحكمها دستورياً مجلس شيوخ معيّن مؤلف من 28 عضواً (19) يُمثل رأس الدولة من حيث تدبير شؤونها وتمثيلها في الخارج، ومجلس ثانٍ مؤلف من 104 أعضاء منتخبين من الشعب عُرف بـ (مجلس الـ 104) وهو صاحب السلطة العليا في الحكم على موظفي الدولة وقادة الجيش ورجال مجلس الشيوخ والحكام أو القضاة (Suffet) المنتخبين أيضاً سنوياً.
وبالرغم من أن هذا المجلس كان يُنتخب سنوياً، فإن نفوذ الطبقة الغنية واستعمال المال وعدم وجود مادة دستورية تمنع إعادة انتخاب أعضائه جعل هذا المجلس يُمثل حكم الطبقة، واستمر الوضع على هذه الحال إلى أن تمكن هاني بعل من تحقيق إصلاحه الديمقراطي بتقييد مجلس الشيوخ وإلغاء إعادة انتخاب أعضاء مجلس الـ104 لأكثر من مرة واحدة.
لقد أعطى إصلاح هاني بعل قرطاجة الديمقراطية الصحيحة والإتجاه الديمقراطي الفعلي، وكان هذا الإصلاح سابقة للإصلاح الغراقي الذي وضع قواده طياريوس غراقس في أصيل المئة الثانية ق.م. في روما (20).
باكراً، زال الخضوع الأعمى للملك وزالت عن الملكية الصبغة الإلهية وأصبح الملك يُنتخب انتخاباً في معظم الدول - المدن السورية، خصوصاً في قرطاجة. وعلى الرغم من تعاظم الرأسمالية وانتقال السلطة إلى أيدي الطبقة الغنية، فإن حقوق أبناء المدينة الأحرار في انتخاب الملك وفي الإجتماع لتقرير المسائل الهامة كانت حقوقاً مشروعة وإن كانت غالباً إسمية أكثر منها فعلية(21).
وفي هذه المدينة، أيضاً، ازدادت الحركة الإجتماعية والإختلاط الإجتماعي وأخذت المصالح الخاصة تحلّ محلّ مصلحة العشيرة وابتدأ الناس يشعرون باشتراكهم في حياة واحدة هي حياة المدينة. وفي هذا الشعور نجد أصول مؤسسة حقوق الإشتراك في دولة المدينة والإتجاه نحو الديمقراطية (22).
1- بين قرطاجة وروما:
في مقارنة بين قرطاجة وروما، الدولتان الجارتان والعدوتان اللدودتان واللتان لم يتوقف النزاع بينهما إلا بتدمير قرطاجة تدميراً كاملاً، نُشير إلى أن روما استفادت كثيراً من اختباراتها السياسية، إلا أنها لم تخرج عن المثال القرطاجي التي أخذت عنه نظام الدولة الأمبراطوري، فكما كان مجلس الـ104 القرطاجي هو المرجع الأخير للمعاهدات وإعلان الحرب وإدارة المدن والمقاطعات التابعة للدولة، كذلك كان مجلس شيوخ روما.
وكما برهن (مجلس الـ104) على عدم كفاءته لسياسة الأمبراطورية العامة كذلك برهن (سناتو) روما على عجزه عن إيجاد الأساليب السياسية التي يُمكنها أن توثق وشائج وحدة الأمبراطورية، حتى أصبحت القوة المجرّدة الضمانة الوحيدة للبناء الأمبراطوري (23). غير أن روما امتازت عن قرطاجة بأمرين:
أولهما: تمديد حقوق عضوية الدولة الرومانية إلى رعايا المقاطعات التي أدخلتها روما نهائياً ضمن نطاق سيطرتها، وقد قام بهذا العمل الحقوقي الكبير إمبراطور روما، السوري الأصل (Caracalla) سنة 212 ق.م. فهو أول من أعلن حقوقاً مدنية عامة للأمبراطورية، الأمر الذي لم تفعله قرطاجة ولم تُدرك أهميته، فقد كان يصعب على الفينيقيين الإمتزاج بالعبيد والليبيين الأفارقة وإدخالهم في متحدهم. وروما نفسها لم تسلم بتساوي اللاتين وأبنائها إلا بعد حروب عنيفة (24).
ثانيهما: إنشاء الشرع، والشرع الروماني هو أثمن ما تركته روما للبشرية. ولكن ذلك لا يعني أن الشرع وضع أولاً في روما، فقد سبقته شريعة حمورابي السورية التي هي أقدم شريعة في العالم. لكن الشرع في روما، وإن ابتدأ على مثال دولة المدينة السورية، فإنه خرج من التخبط بين الحقوق السياسية والحقوق الشرعية إلى الشرع القضائي العام وحلّ، محل المواد القانونية المتناقضة، القانون العام الموحّد الجامع نظام الدولة. ولولا هذا العمل الكبير، لما كانت روما تركت أثراً ثقافياً عالياً، فتاريخ روما الثقافي هو تاريخ حقوقها (25).
2- بين قرطاجة وأثينا:
وفي مقارنة بين قرطاجة وأثينا بخصوص الحقوق السياسية،لم تقع المدينة السورية في ورطة استبداد الجمهور بواسطة تدخل الأفراد في شؤونها، كما حدث في أثينا لعهد بركلس حيث كان يحقّ لكل فرد أن يتهم أي موظف في الدولة، حين انتهاء مدته، بالخروج على القانون، داعماً تهمته بأية صفة من هذه الصفات المطاطة: عدم دستورية أعماله، أو أنها غير مرغوب فيها، أو أن نياته كانت سيئة..الخ (26).
وفي الوقت الذي حمل فيه على التجربة الديمقراطية اليونانية التي، برأيه، ألغت الدولة أو كادت تلغيها، حفظ سعاده للتجربة الديمقراطية في قرطاجة مأثرتين:
- الأولى أنها لم تسِر على طريقة "الإرهاب". أي أنها لم تكن حكومة ظالمة، ودليله على ذلك أن قرطاجة لم تعرف الثورات الدموية العنيفة.
- والثانية هي أنها أبقت الدولة شأناً متميّزاً عن الشعب، أي مؤسسة لا يُمكن أن تُعرّض لـ "عبث" الجمهور. هذا الأسلوب الذي جرت عليه الدولة في قرطاجة هو ما مكن الدولة من تثبيت الديمقراطية الصحيحة، والتفريق بين الحقوق المدنية العامة والحقوق الشخصية، مع بقاء العامل السياسي (أي الدولة) متحرراً من مفاعيل الإجتماع الضاغطة.
الفلسفة أطوار
عندما قلت في هذه المقاربة للفلسفة والمدينة أنني سأتلمس تعريفاً جديداً للفلسفة يبعدها عن دائرة الإستهداف من قبل المشككين بجدواها، الآخذين عليها وعلى المشتغلين فيها انطواءها، وبالتالي، انطواءهم في برج شاهق عند تخوم المدينة، فتعزل الفلسفة نفسها كما يعزل الفلاسفة أنفسهم فيه بعيداً عن العصر وقضاياه والناس ومشكلاتهم.. فإني كنت، من جهة، أهدف إلى إهمال أطروحة "القلعة والسوق" غير البريئة في أهدافها والتي كشف الدكتور نصّار زيفها وتهافت دعاتها، والإنتصار، من جهة أخرى، للفلسفة التي هي، كتأويل نظري يهدف إلى بلوغ الحقائق الأساسية من خلال دراسة أحداث واقعة في التاريخ، حقّ لكل شعب يُدرك مصالحه في الحياة.
وعليه، فالحقيقة الفلسفية المستخلصة من دراسة حدث معيّن واقع في التاريخ (وليس مفترضاً وقوعه افتراضاً) هي حقائق متعدّدة بتعدّد الفلسفات التي تقاربها والتأويلات التي تُعطى لها وبالتالي، فالحقائق الأساسية هي التي تعطي الفلسفة التي تنتظم فيها، قيمتها، فتميّز بين فلسفة صحيحة وأخرى زائفة، والفلسفة الصحيحة هي التي تُسهم فعلياً في خير الإنسانية وتقدمها (27).
خطيئة التفكير الفلسفي
ارتكب التفكير الفلسفي خلال الحقب الماضية، خطيئتين إثنتين أدّتا إلى نعت الفلسفة بالقصور عن مواجهة مشكلات الإنسان الحياتية:
- الخطيئة الأولى هي أن الفلسفة، خلال القرون المنصرمة، كانت تضارب، على صوغ نظام كلّي ( Totalitaire) للوجود .. هذا النزوع إلى إدراك" الكلّ" كان لوثة الفلسفة، بالتأكيد!
- والثانية هي أن الفلاسفة، أو معظمهم، وأعدّ منهم، ههنا، هيغل وماركس، وقبلهما فلاسفة القرون الوسطى من لاهوتيين وفقهاء، اكتفوا ببعض الحقائق المتيسرة، لا كلها، لصوغ هذا النظام الكلّي. يقول سعاده بهذا المعنى: "إن النظريات الإجتماعية والإقتصادية من كارل ماركس وأنغلز إلى الإجتماعيين الإقتصاديين الجدد قد ألقت نوراً قوياً على مشاكل المجتمع الإنساني الإقتصادية. ولكن الإشتراكية لم تتمكن من حلّ القضايا الإنسانية الإجتماعية المعقدة. وعند هذه النقطة، يبتدىء عمل الدماغ السوري، الغني بالخصائص النفسية..." (28).
هنا يكمن مأزق الفلسفة، اليوم، ومن هنا يجب أن نبدأ.
العالم، اليوم، عند مفترق خطير. فقد سقطت الشيوعية والليبرالية المتوحّشة وترتب على سقوطهما المدوّي تداعي فلسفتيهما اللتين كانتا تعتبران العالم "بالضرورة" عالم حرب مهلكة بين القوى المتطاحنة على السيطرة والنفوذ، وحفزت العقول النيّرة على البحث عن تفكير جديد يُنقذ العالم من الخراب الذي جلبه عليه تطاحن الفلسفات الجزئية، من روحية ومادية.
الحلّ في المدرحية؟
إذا كانت الشيوعية والليبرالية قد سقطتا في الإختبار، كما سبقت الإشارة، يبقى لنا أن نُحيل أنفسنا على سعاده الذي قدّم نفسه بصفته صاحب نظرة جديدة تحمل حلاً ناجعاً لمشكلات العالم المعاصر، فلنتابع تفكيره الذي يصفه بـ"التفكير الجديد"!
إذا كان كتاب "نشوء الأمم" يتضمن تصوره لمفهوم الأمة وكيفية نشوئها ومحلها في سياق التطور الإنساني وعلاقتها بمظاهر الاجتماع، متجنباً فيه الخوض في التأويلات والاستنتاجات الفلسفية، فإن كتاب "النقد والتوجيه" الذي وجّهه إلى الدكتور شارل مالك سنة 1938 يناقشه فيه رأيه في" معنى الفلسفة" يشكل النواة الأولى لتفكيره الفلسفي الذي تطوّر لاحقاً حتى أخذ شكله النهائي.
وبعد سنة ونيف على هذا الكتاب (كانون الأول/ديسمبر 1939) وقد انفجرت الحرب العالمية الثانية ودخل العالم في نفق مظلم جراء الصراع العنيف الذي شطره شطرين، أحدهما "ديمقراطي" والآخر "كلي"، يعلن سعاده من بونس آيرس، في الأرجنتين، إن بلاده لا تقف "مكتوفة اليدين" تجاه هذا الصراع الهائل، وإن النهضة القومية التي أطلقها في هذه البلاد تقول: "إن ليس بالمبدأ المادي (الماركسي/الاشتراكي) وحده يُفسّر التاريخ والحياة تفسيراً صحيحاً ويُشاد نظامٌ عام ثابت في العالم، وأنه ليس بالمبدأ الروحي (الفاشي/النازي) وحده يحدث ذلك (..) وإن التاريخ والحياة يُفسّران تفسيراً صحيحاً بمبدأ جامع - بفلسفة جديدة تقول أن المادة والروح ضروريان كلاهما للعالم"(29).
الأمم طبقات
وفي مقال بعنوان "النظام الجديد" نشره في بيروت في سنة 1948، بعد عودته إلى الوطن من المهجر الأميركي، ينتقد فيه نظام الطبقات الرأسمالي الذي تولّد بعامل الثورة الصناعية، قال عن هذا النظام إنه: "لم يكن نظاماً صالحاً للبقاء لأن المشاكل الاقتصادية الاجتماعية التي نتجت منه أحدثت، ولا تزال تُحدث حيثما بقي هذا النظام فاعلاً، تشنجات واضطرابات شديدة تحفّز العقول إلى ابتغاء نظام جديد للمجتمع الإنساني يُزيل تلك التشنجات والاضطرابات ويفسح المجال لتفاعل ينمّي الحياة ويقويها ويحولها صالحة للإنسان ومصالحه النفسية والمادية" (30).
ولم يكتفِ النظام الرأسمالي في خلق الطبقات وإثارة حرب الطبقات ضمن المجتمع الواحد، بل أدّى إلى تكوين الطبقات الأممية والنظام الطبقي الأنترنسيوني الذي يخلق طبقة من الأمم الاستعمارية ذات الأمبراطوريات والمناطق الواسعة، وطبقة من الأمم المتوسطة، وطبقة من الأمم المضغوطة المحرومة (31).
العالم يحتاج إلى فلسفة جديدة تواجه قضاياه الإجتماعية الإقتصادية المعقدة، ومشكلات المجتمع الحديث التي هي قضايا التفلسف النافع اليوم، من مثل: ما الدولة؟ ما أدوارها؟ ما حدودها؟ ما التطوّر؟ ما قوانينه؟ ما عوامله؟
وينتقد في المقال نفسه التجربة الشيوعية فيقول إن: "المحاولة الشيوعية على أساس التعاليم المادية المحض، لم تحلّ بنظامها المبدئي مشكلة المجتمع الداخلية ولا مشكلة الحق الأنترنسيوني، فحرب الطبقات بين مادية العمال ومادية الرأسماليين وإقامة سلطة البروليتاريا ليست نظاماً صحيحاً لتقدم الإنسانية نحو مقاصدها الكبرى. وما يقدّمه "اتحاد الجمهوريات السوفياتية" من الوجهة الأنترنسيونية ليس إزالة طبقات الأمم بل تثبيت نظام طبقات الأمم الاقتصادية بترتيب جديد" (32).
وبعد مرور 100 عام على" البيان الشيوعي" لماركس وأنغلز، وفي ندائه، في الأول من أيار/مايو سنة 1949، إلى "منتجي ثروة الأمة وبنّائي مجدها"، يؤكد سعاده على تشريحه السابق للنظام الرأسمالي والنظام الشيوعي، بوصفهما نظامين إقطاعيين دوليين، معتبراً أن الدول ليست أقل استغلالاً لقضايا الجماعات والطبقات من الأفراد الرأسماليين والإقطاعيين" فقد حلّت بعض الدول في موارد العالم ومواده الأولية محل العائلات الإقطاعية في موارد الأمة ومواد الوطن الأولية، ومحل الرأسمالي الفردي، بالنسبة إلى الإنتاج والأسواق الأنترنسونية"(33).
ويساوي سعاده في ندائه، من حيث الأهداف والنتائج، بين ما يسميها "الإقطاعية الشيوعية الأنترنسيونية"، "والإقطاعية الرأسمالية الاقتصادية الاستعمارية"، فالإقطاعيتان ترميان إلى الاحتفاظ بتفوقهما وسيطرتهما تجاه الأمم الأقل عدداً وقوة وموارد، و"الإثنتان تقتطعان أو تستعمران الأمم التي ليس لها من القوة الذاتية ما يمكنها من حفظ استقلالها في شؤونها وأهدافها (..) وهدف الإثنتين السيطرة المطلقة النهائية على شؤون العالم، ومنع الأمم المؤهلة للنهوض والارتقاء وبلوغ القوة الفاعلة من إدراك غايتها، ومنازعتها السيطرة على موارد تلك الأمم، وعلى مواد العالم الأوّلية"(34).
نخلص إلى القول: إن العالم يحتاج إلى فلسفة جديدة تواجه، بشجاعة، قضاياه الإجتماعية الإقتصادية المعقدة. فلسفة تواجه مشكلات المجتمع الحديث التي هي قضايا التفلسف النافع اليوم، من مثل: ما الدولة؟ ما أدوارها؟ ما حدودها؟ ما التطوّر؟ ما قوانينه؟ ما عوامله؟ ما السياسة؟ ما المؤسسات؟ ما أحوال العالم المعاصر؟ ما مركزنا فيه؟ ما القيم؟ ما الحقوق؟..الخ (35).
الفلسفة الصحيحة هي الفلسفة التي تطرح مثل هذه الأسئلة، والتي تدفع بنا، قلوباً وعقولاً ونفوساً، للإجابة عليها، وتقدّم لنا أسلوب التفكير الفلسفي لمعاملتها، فما الفلسفة، بمفهومها العصري والمستقبلي، سوى اتجاه!
بهذا المعنى، تصبح الفلسفة، في ما تقدّم من كلامي، فعل التفلسف. الفعل العقلي الأرقى المركوز على الوجود الإنساني. حقائق الوجود الإنساني وقيمه! هذا هو موضوع الفلسفة. وأما غرضه فيبقى، كغرض كل نشاط إنساني: ترقية الحياة!
وبهذا المعنى، تسقط الحواجز التي اختلقها الإنسان القاصر فكرياً بين البرج والمقهى، وبين القلعة والسوق، وبين الفلسفة والمدينة، وبين الفلاسفة والناس!
هوامش
(1) نصّار، ناصيف، التفكير والهجرة، دار النهار، بيروت، 1977، ص. ص(295-308).
(2) نصّار، ناصيف، مطارحات للعقل الملتزم، دار الطليعة، بيروت 1986.
(3) نصّار، التفكير والهجرة، المرجع المذكور،ص 308.
(4) البستاني، بطرس، نفير سورية، دار فكر، بيروت 1990.
(5) المرّاش، فرنسيس، غابة الحق، سلسلة" الأعمال المجهولة"، دار الريس، لندن، 1989.
(6) عكاش، سامر، يوميات شامية: قراءة في التاريخ الثقافي في دمشق العثمانية في القرن الثامن عشر،
(7) سعاده، أنطون: نشوء الأمم، بيروت، 1938، ص 123.
(8) سعاده، المرجع المذكور، ص 123.
(9) سعاده، المرجع المذكور، ص 123.
(10) سعاده، المرجع المذكور، ص 129.
(11) سعاده، المرجع المذكور، ص 128.
(12) ضاهر، عادل: المجتمع والإنسان، الفرات للنشر، بيروت 2006، ص 269.
(13) سعاده، المرجع المذكور، ص 130.
(14) سعاده، المرجع المذكور، ص 124.
(15) سعاده، المرجع المذكور، ص 130.
(16) سعاده، المرجع المذكور، ص 130.
(17) سعاده، المرجع المذكور، ص 130.
(18) سعاده، المرجع المذكور، ص 130.
(19) سعاده، المرجع المذكور، ص 131.
(*) معلومات زوّدني بها مشكوراً الزميل الدكتور نزيه محفوظ، رئيس قسم الفنون والآثار في الجامعة اللبنانية – كلية الآداب، الفرع الرابع.
(20) سعاده، المرجع المذكور، ص 117.
(21) سعاده، المرجع المذكور، ص 113.
(22) سعاده، المرجع المذكور، ص 114.
(23) سعاده، المرجع المذكور، ص 119.
(24) سعاده، المرجع المذكور، ص 116.
(25) سعاده، المرجع المذكور، ص 121.
(26) سعاده، المرجع المذكور، ص 114 .
(27) وردت هذه العبارة لسعاده في ندوة فكرية قادها بنفسه سنة 1937، ونشرتها جريدة" البناء" في عددها الخاص بعيد ميلاده في أول آذار 1972.
(28) العاصي، هاني: الفلسفة اتجاه، مجلة" اتجاه"، العدد1، نيسان 1996، ص(2-9).
(29) سعاده، الأعمال الكاملة، مجلد 6، ط 1، بيروت 2001، ص 98.
(30) سعاده، مجلد 3، ص 448.
(31) سعاده، المرجع المذكور، ص 449.
(32) سعاده، المرجع المذكور، ص 401.
(33) سعاده، مجلد 4، ص 23.
(34) سعاده، مجلد 4، ص24.
(35) حمية، علي: دفاعاً عن الفلسفة، مجلة" اتجاه"، العدد4، ك2- شباط، 1997، ص( 406-408).