السان سيمونية: الاشتراكية المثالية في خدمة الاستعمار
"علينا نقل الحضارة الأوروبية إلى الشعوب المتخلّفة". السان سيمونية، مثالية في فرنسا وجيش استعماري خارج الحدود. ما قصتها؟
شهد القرن 19م في فرنسا ثراءً إيديولوجياً وفكرياً كبيراً، فقد انتعشت في النصف الأول منه المدراس والتيارات الاشتراكية تحديداً، التي انتقدت النُظم الاقتصادية والاجتماعية السائدة في المجتمع ودعت إلى تغييره (1)، منها المدرسة الاشتراكية الطوباوية التي مثَّلها تلامذة روبرت أوين الفرنسيين كجوزيف راي وجول ڤاي، والاشتراكية التعاونية لشارل فوريي، والاشتراكية التدخلية أو السانسيمونية لمؤسّسها سان سيمون، شكَّلت هذه التيارات والمدارس ما يُسمَّى بالاشتراكية المثالية، التي اشتركت في النقد اللاذع للأسُس الفلسفية للرأسمالية، واعتقادها بأن الوعي بأخطار الرأسمالية وحده كفيل بتغيّر البنيات الاجتماعية من غير لجوءٍ إلى الطرق العنفية، وبناء مجتمعٍ مثالي لا يعرف الاستغلال.
والمدرسة السان سيمونية بالذات كانت الأكثر تميُّزاً وشهرةً من بين المدارس الاجتماعية المذكورة، ليس فقط لحجم تأثير أفكارها القائمة على احترام الإنسان وتعظيم الإنسانية، من خلال تفضيل المصلحة العامة وإحلال مشاعر التضامن محلها، وعلى قدرة الإنسان على تسخير الطبيعة لصالحه (2)، أو لتحريكها للواقع الفرنسي من خلال ثورات 1830م و1848م، بل أيضاً لبعدها الأُمَمِي، فالبديل الاقتصادي والاجتماعي الذي قدَّمه سان سيمون كان يستهدف طبقات المجتمع في الإطار الأُمَمِي.
لم تكن النزعة الأورو - مركزية خافية في الفكر السان سيموني، فهي ترى الحضارة والإنسان الأوروبي مركزاً للعالم، مع نظرةٍ دونيةٍ للإنجازات الحضارية الشرقية. فقد اعتبر المؤسّس سان سيمون أهرام مصر مثلاً تعبيراً حيّاً عن حال طفولة للإنسانية تمثلها اللذّة في بناء كومة كبيرة من الأحجار، فيما لم تختلف تصنيفاته للديانات الشرقية القديمة وللإسلام ضمن الدائرة الوحشية عن التصنيفات الاستشراقية الحدِّية.
وإن كان من المُؤَكّد أن "الأممية السان سيمونية" كانت في عهد المؤسّس سان سيمون مركزيةً أوروبيةً صرفة، إذ أنه كان يحلم فعلياً بإنسانيةٍ مُوحَّدة تدور حول محور الأمم الأوروبية الأربع بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا (3).
بعد وفاة المؤسّس وابتداءً من سنة 1833م، بدأت تظهر جلياً الأبعاد الاستشراقية للحركة السان سيمونية بتوجُّه بعض أطرافها نحو بلادنا من أجل تحقيق هدفها الأسمى في توحيد الشرق والغرب، فهل كانت تلك الأهداف الإنسانية المعلنة ساميةً فعلاً، وكيف كانت طبيعة المشروع في بلادنا، وما كانت علاقتها فعلياً بالمشروع الاستعماري الاستيطاني في الجزائر؟
"سحر الشرق"...البداية من مصر
لم تكن النزعة الأورو - مركزية خافية في الفكر السان سيموني، فهي ترى الحضارة والإنسان الأوروبي مركزاً للعالم، مع نظرةٍ دونيةٍ للإنجازات الحضارية الشرقية. فقد اعتبر المؤسّس سان سيمون أهرام مصر مثلاً تعبيراً حيّاً عن حال طفولة للإنسانية تمثلها اللذّة في بناء كومة كبيرة من الأحجار، فيما لم تختلف تصنيفاته للديانات الشرقية القديمة وللإسلام ضمن الدائرة الوحشية (4) عن التصنيفات الاستشراقية الحدِّية.
لذلك قرَّروا التوجَّه صوب الشرق. كان الجانب العملي التطبيقي من أهم ميزات المدرسة السان سيمونية، التي كان أغلب روّادها من المهندسين الأَكْفَاء في مختلف التخصُّصات، وكانت بوَّابة الشرق بالنسبة إليهم هي مصر ليس فقط للرؤية الاستشراقية المحضة التي حكمت نظرتهم إليها"...والشرق معناه مصر.. مصر الساحرة، أرض فرعون وموسى والنيل"، كما عبَّر عنها بروسبير أنفونتان أحد أبرز آباء المدرسة (5)، بل أيضاً لأن مصر، التي ضمَّت آنذاك عدداً من الفرنسيين، كانت جاذبةً للسان سيمونيين لتفاعلهم مع المشروع التحديثي لمحمد علي باشا الذي تضمَّن إنجازات كانت في صميم اهتماماتهم.
نشط السان سيمونيون في مجالات عديدة وحاولوا قدر استطاعتهم الاندماج في المجتمع المصري وتنفيذ مشاريعهم التي كانت تهدف إلى مد النفوذ الفرنسي، لكن جهودهم انتهت بالفشل، لعدّة أسباب أهمّها أن طموحاتهم كانت تستدعي وجوداً استيطانياً حقيقياً افتقدته مصر، فانتقلت أنظارهم بذلك إلى الجزائر.
فقد اعتبروا أنَّ وجودهم الفاعل في مصر هو امتدادٌ للبعثة العلمية الفرنسية التي رافقت حملة نابليون، أي بمثابة الحملة الفرنسية الفكرية الثانية كما ذكر الأكاديمي الفرنسي جون ماري كاري (6)، أيَّدوا في هذا الصدد مشروع شقّ قناة السويس بل وكانوا من أهمّ الداعين والداعمين له، وقد كانوا يؤمنون بضرورة إخضاع مصر للنفوذ الفرنسي، لذا فقد لقيت تحرُّكاتهم التشجيع الرسمي من الحكومة الفرنسية حيث شكّلوا فعلياً يدها الضاربة في مواجهة المنافسة الإنكليزية المحمومة، وقد كانوا موضع ترحيبٍ أيضاً من محمد علي باشا نفسه الذي استقبل الأب أنوفونتان في مصر ونظر لطلائع أفراد الجمعيات السان سيمونية التي وصلت للإسكندرية ذوي الزيّ المُوحَّد الذين شكَّلوا "جيشاً صناعياً"، كتقنيين يمكن الاستفادة منهم في مشاريعه التحديثية في الزراعة والقناطر والسكك الحديدية والتعليم من جهة، ومن أجل التقرُّب من الحكومة الفرنسية من جهةٍ أخرى، من غير أن يُلقي بالاً لطبيعة إيديولوجيتهم.
نشط السان سيمونيون بقيادة أونفونتان في مجالات عديدة وحاولوا قدر استطاعتهم الاندماج في المجتمع المصري وتنفيذ مشاريعهم التي كانت تهدف إلى مد النفوذ الفرنسي، لكن جهودهم انتهت بالفشل، لعدّة أسباب أهمّها أن طموحاتهم كانت تستدعي وجوداً استيطانياً حقيقياً افتقدته مصر، فانتقلت أنظارهم بذلك إلى الجزائر التي بدأت تواجه استعماراً استيطانياً عنيفاً منذ سقوطها في سنة 1830م.
السانسيمونية في الجزائر... "الاستعمار الجيّد"!
دعا المؤسّس سان سيمون إلى رفض أيّ نزوع نحو العنف في العلاقات الدولية، أو أية ميول لعسكرة المجتمع، وأبدى تأييده للتخلِّي عن المستعمرات لفائدة ما كان يُسمِّيه "الاستعمار الداخلي". ففي رأيه "لو استُثمرت المبالغ التي صُرفت في بناء المستعمرات في الزراعة لكانت فرنسا اليوم أكثر ثراءً بأربع مرات" (7).
لكن سان سيمون توفّى قبل سنتين من بداية حصار الجزائر، الذي انتهى بسقوطها، لذا لا أحد يستطيع الجزم بموقفه، لكن من الصعب تصوُّر أنه كان سيكون مخالفاً لأقطاب المدارس الاشتراكية المثالية الآخرين كشارل فوريي الذي كان يدعو إلى غزوٍ استكشافي لمصر، لكنه كان مُتحمِّساً للقضاء على مصدر "القرصنة الشريرة" في الجزائر.
كما أن تلامذته انخرطوا في المشروع الكولونيالي الفرنسي تحريضاً وتنظيراً، بل ومساهمةً مباشرة، في سنة 1831م نُشر مقال في الجريدة السان سيمونية الفلسفية والأدبية «Le Globe» جاء فيه: "على فرنسا غزو الجزائر لنقل الحضارة الأوروبية للشعوب المتخلّفة"(8).
السان سيمونيون بقيادة أونفونتان الذي خلف المؤسّس واستحق بذلك لقب الأب الروحي لهم، بدأوا في الترويج لفكرة "الجيش الصناعي" ولتحويل البحر المتوسّط إلى مركزٍ للتبادل التجاري والثقافي بين الشرق والغرب التي فشلوا في تحقيقها في مصر.
كان السان سيمونيون، ومن ورائهم كل مدارس الاشتراكية المثالية، في قلب النقاش الذي كان يدور حول طبيعة المشروع الاستيطاني في الجزائر خصوصاً بعد تصاعد مقاومة الأمير عبد القادر الإدريسي الجزائري ودولته التي أسَّسها في المناطق التي تمكَّن من تحريرها.
دعم السان سيمونيين للاستعمار الاستيطاني للجزائر تجاوز التنظير والتحريض للمشاركة المباشرة في الحرب، والتي كانت تعني فعلياً في العقود الأولى لسقوط الجزائر التدمير والاستيلاء على الأراضي وإبادة قبائل جزائرية عن بكرة أبيها.
وكان النقاش يتمحور حول إمكانية تقاسم الأرض مع هذه الدولة الفتية وخطورة هذا الطرح من وجهة النظر الفرنسية لجهة إمكانية طرد المستوطنين النهائي في حال تنامي قوّة دولة الأمير الجزائري، وعن كيفية التعامل مع الجزائريين هل بالإبادة أم بالاحتواء؟ وعن طبيعة النظام الإداري عسكري أم مدني؟..إلخ.
كتب الأب أنوفونتان بلغةٍ صريحةٍ وقطعية: "يُعتبر امتلاكنا للجزائر شرعياً ولا رجعة عنه"، وقد حوَّل جريدته الأسبوعية «L’Algérie» التي أسَّسها في الجزائر بين 1843 و1846م إلى منبرٍ سانسيموني دعائي "للجزائر الفرنسية" وللدعوة إلى مزيدٍ من التوسُّع الفرنسي في عمق الصحراء، ولاقتراح المشاريع في التعليم والبنوك والإدارة والزراعة وتأسيس المستوطنات واستغلال المناجم ومدّ سكك الحديد وغيرها.
وكان العالم اللساني روني باسي المُتعمِّق في لغات ولهجات الجزائر والمغرب ككل، واحداً من أشدّ مُنظِّري المدرسة السان سيمونية في الجزائر، كان توماس أوربان المعروف بإسماعيل أوربان واحداً من أهمّ السان سيمونيين في الجزائر الذين نظَّروا أيضاً للاتحاد بين الشرق والغرب بل وللتوفيق بين الإسلام والمسيحية، وشارك في الحملات العسكرية الفرنسية لضرب المقاومة بصفته كاتباً ومترجماً.
لكن دعم السان سيمونيين للاستعمار الاستيطاني للجزائر تجاوز التنظير والتحريض للمشاركة المباشرة في الحرب، والتي كانت تعني فعلياً في العقود الأولى لسقوط الجزائر التدمير والاستيلاء على الأراضي وإبادة قبائل جزائرية عن بكرة أبيها، الجنرال السان سيموني لويس جوشو دو لاموريسيير الذي يعترف في أدبيّاته أنه تمكَّن من نشر الفكر السان سيموني وسط أفراد الجيش الفرنسي، واجه بعنفٍ شديد مع صديقه الجنرال بيجو مقاومة الأمير عبد القادر العنيدة لسنوات (9).
خاتمة
حملت المدرسة السان سيمونية شعارات سامية، كشعارات الثورة الفرنسية من قبلها، حول العدالة والإنسانية والإخاء والتواصل السلمي بين الشرق والغرب، لكن الواقع التاريخي من خلال احتلال الجزائر ابتداءً من سنة 1830م رسَّخ حقيقة أن تلك الإيديولوجية الإنسانية ذات مضمونٍ مركزي – أوروبي عنصري في خدمة الاستعمار.
فالتواصل بين الشرق والغرب يعني في حقيقة الأمر استغلالاً للشرق وإخضاعه للغرب، وأن القيم الإنسانية النبيلة في العدالة والحرية التي نادت بها السان سيمونية، لا يمكن لشعوب بلادنا أن تنالها من غير أن تستقبل "الرسالة التمدينية" التي رأينا نماذج منها طيلة الوجود الاستيطاني الفرنسي في الجزائر الذي دام لأكثر من قرن وثلاثين سنة.
الهوامش
(1)Nathalie Brémand, « Introduction : Socialistes utopiques, les mal-nommés », Cahiers d’histoire. Revue d’histoire critique, 124 | 2014, 13-24.
(2)Marcel Emérit, « Les saint-simoniens en Algérie, Edition les lettres, Paris, 1941, p15-16.
(3) Claude-Henri de Saint-Simon, « Lettres d’un habitant de Genève », tome I, Genève, Slatkine, 1977, p55.
(4)Introduction aux travaux scientifiques du XIXe siècle, œuvres de CI-H de Saint-Simon(Paris, édition Anthrpos), 1, VI, p134-136.
(5)إدوارد سعيد، "الاستشراق-المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، 2006، ص248.
(6)Jean-Marie Carré, « Voyageurs et Ecrivains Français en Egypte », Réimpression de l'Edition du Caire, 1932
(7)Jean-Louis Marçot, “Les premiers socialistes français, la question coloniale et l’Algérie”, Cahiers d’histoire. Revue d’histoire critique, 124 | 2014, 79-95.
(8) المصدر نفسه .
(9) Michel Collinet «Le saint-simonisme et l'armée », Revue française de sociologie, 1961, n°2, p 38-47.