التاريخ الذي لا تريد أميركا أن نقرأه
عن كتاب سارة تشرشويل "الغضب الآتي: ذهب مع الريح والكذبات التي ترويها أمريكا"
في مدينة أطلنطا عام 1939، وتماماً في الليلة السابقة للعرض الأول لفيلم "ذهب مع الريح"، جرى حفل راقصٌ في مزرعة. وأمام جمهور من البيض، أدّى أطفال جوقةِ كنيسة إيبينيزر المعمدانية للسود عرضَهم مرتدين زيّ العبيد. وحين قاموا بغناء "ثمة متسع في النعيم"، بكت الممثلة التي تلعب دور بيل واتلنغ، مومس رِت بتلر في الفيلم. كان المشهد بأكمله مثيراً للدهشة: مثال حرفي إلى حدّ مؤلم عن أسطرة الجنوب لأجل البيض، وإعادةَ تعريفٍ للعبودية على أنها غير مؤذية وللعبيد أنفسهم على أنهم ممتنون. وفوق ذلك، تعثر سارة تشرشويل، المؤرخة والناقدة الثقافية الأميركية، على تفصيلٍ صادم ويزيد من إدهاش المشهد: "أحد الأطفال الصغار السود المتنكرين كعبيد، والذين سبّبوا دموعاً عاطفية لعين أميركا البيضاء، كان طفلاً في العاشرة من عمره يدعى مارتن لوثر كينغ، الإبن، وهو الشخص الذي سيكون ميتاً بعد ثلاثين سنة لأنه تجرأ على الحلم بمساواة عرقية في أميركا".
ليست هذه المرة الأولى التي تكتب بها تشرشويل عن الميثولوجيا الأميركية، لكن يبدو أنها هذه المرة وقعت على منجم ذهب. ففي كتابها الجديد "الغضب الآتي: ذهب مع الريح والكذبات التي ترويها أميركا" الصادر في تموز / يوليو 2022 عن دار
"Head of Zeus"، تقوم تشرشويل بتشريح واحدة من أكثر القصص شعبية على الإطلاق. "قلب الأسطورة الأميركية، بالإضافة إلى عقلها وجهازها العصبي، معظم مناقشاتها ومعتقداتها، ما تحبه وما تكرهه، كذباتها واضطراباتها وآلياتها الدفاعية وتحققات أمنياتها، التُقطت كلها(غالباً عن غير قصد) في الرواية الرومانسية الملحمية الأكثر شهرة في أميركا". إن "ذهب مع الريح"، رواية وفيلماً، هي بالنسبة إلى تشرشويل بمثابة مفتاح هيكلي، إذ أنها "تكشف أوهام أميركا عن نفسها"، ومعظمَ تاريخها منذ عام 1861(وهو عام بداية الحرب الأهلية الأميركية، وزمن بداية حكاية سكارليت أوهارا ورِت بتلر ومزرعة تارا في جورجيا).
هذا ادعاء جريء بالطبع، غير أن "ذهب مع الريح" كانت، وتبقى، ظاهرة لا تشبه غيرها من الظواهر. فبعد نشرها في حزيران / يونيو عام 1936، باعت رواية مارغريت ميتشل مليون نسخة قبل نهاية تلك السنة، وربحت جائزة بوليتزر للأدب عام 1937، وأصبحت الرواية الأميركية الأكثر مبيعاً على الإطلاق. وفي عام 1939، صدرت نسخة فيلمية منها، من بطولة فيفيان لي(سكارليت أوهارا) وكلارك غيبل(رِت بتلر)، لتصير الفيلمَ الأعلى ربحاً حينها.
أما في عام 2020، وحين ربح الفيلم الكوري الجنوبي "الطفيلي" الأوسكار(وهو هجاء لاذع ضد الرأسمالية)، عبّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن امتعاضه قائلاً: "ما هذا بحق الجحيم؟ هل يمكن أن نستعيد أعمالاً مثل (ذهب مع الريح) من فضلكم؟" وكالعادة، فهم مستمعوه ما الذي كان يعينه تماماً.
لكن، وإذا خطر لنا أن ثمة تبسيطاً شديداً في فكرة أن كتاباً واحداً، وفيلماً واحداً، يمكن أن يكون مفتاحاً هيكلياً لثقافة كاملة، فإن تشرشويل تقوم بتكديس أدلة داعمة مذهلة وتقدمها لنا في هذا الكتاب في فصول قصيرة ودسمة. العِرق، الجندر، "القضية الخاسرة"(الأسطورة الأميركية التي تتدعي بأن قضية الولايات الكونفدرالية خلال الحرب الأهلية كانت عادلة وبطولية، ولا تتمحور حول العبودية)، الحلم الأميركي، فاشية الدم والتراب، والغوغاء الترامبية التي اقتحمت مبنى الكابيتول عام 2021: كل شيء هنا، وكلّه مرتبط بثيمات "ذهب مع الريح".
إن سارة تشرشويل، في كتاب "الغضب الآتي"، تعرّي تصوير "ذهب مع الريح" الإشكالي لمسألتي العرق والمرأة بأسلوب ينطوي على مزيج استثنائي من الذكاء والرشاقة الفكرية. كما أنها تتولى مهمة فصل الحقيقة عن التخييل، مُظهرةً كيف أن تاريخ صنع الأسطورة يخبر الكثير عن سياسات أميركا العنصرية والجندرية اليوم، عن صحوة القومية البيضاء، عن حركة "حياة السود مهمة"، عن القوة المستمرة للحلم الأميركي، وعن عنف الترامبية.
وبما أن قصة العنصرية اليوم محل جدل مرة أخرى، كما كانت في ثلاثينات القرن الماضي، فإن تشرشويل ترسم خارطة لرحلة استثنائية عبر مئة وستين عاماً من الإنكار الأميركي. هكذا، تتبع تشرشويل علاقة الرواية والفيلم بأسطورة "القضية الخاسرة" وتدلّل على أنهما ينذران بالنزاعات القائمة في أميركا اليوم. كما أنها تبيّن استخدام قصة "ذهب مع الريح"، وسوء استخدامها، للميثولوجيات القومية. وتظهر لنا ما الذي يحدث عندما نكون عنيفين تجاه التاريخ، وعندما يحوّل الإنكارُ الجمعي الروايات التخييلية إلى كذبات، والكذبات إلى واقع فاسد.
إن صناعة الأسطورة، لا بدّ أن نتذكر، لا تقوم على بناء الأوهام وحسب، بل على محو الحقيقة كذلك. على سبيل المثال، لم تُذكر إبادة الشعوب الأصلية في الكتاب أو في الفيلم، لكنها كان تحدث في الوقت الذي كان فيه جيرالد أوهارا يتملّك أرضاً في جورجيا: "إن تارا محبوبة سكارليت مبنية على أرض مسروقة من الأميركيين الأصليين قبل عقد من ولادة سكارليت لا أكثر".
كذلك، لا تتردد تشرشويل في ذكر الفظائع التي تخفيها "ذهب مع الريح". على سبيل المثال، تذكّرنا أن رِت بتلر يقتل رجلاً أسود في الرواية لأنه كان "وقحاً مع سيدة"، ولأنه، وفقاً لميتشل: "ماذا يمكن لرجل جنوبي محترم أن يفعل غير ذلك؟". بالنتيجة، تلحظ تشرشويل أن الكتاب والفيلم يروجان لأسطورة "القضية الخاسرة"، مصوّرين الجنوب كمكان للفروسية والشهامة، والعبودية كعمل خير، وأعضاء جماعة "كو كلوكس كلان" كرجال شرفاء يهبّون للمساعدة بينما العالم من حولهم ينهار. وتُظهر تشرشويل كيف بُنيت هذه الأساطير منذ نهاية الحرب الأهلية وتخثّرت بعد سبعين سنة لتندرج في "ذهب مع الريح".
إن واقع إعادة التأكيد على تفوق البيض خلال فترة إعادة الإعمار وبعدها كان، كما تبيّن تشرشويل، مروعاً: ثمة مادة مُقلقة للغاية هنا فيما يخصّ ترهيب السود والبيض الذين لم يمتثلوا للقواعد الاجتماعية التي تقول بتفوق البيض.
علاوة على ذلك، "تعتبر معظم محاولات الدفاع عن رواية "ذهب مع الريح" أن عنصرية الرواية، مع أنها مذمومة، تعبّر عن عصرها وهي في خلفية الأحداث، كما أنها ثانوية بالنسبة إلى قوة سكارليت النفسية الأخّاذة"، تكتب تشرشويل. "لكن ذلك الدفاع يضاعف سياسات الرواية التي تصان فيها قوة النساء البيض على حساب حصول السود على المساواة". ولا ننسى بالطبع أن مارغريت ميتشل ذاتها هي امرأة جنوبية بيضاء، ولها بعض المواقف العنصرية، كما تشير تشرشويل. كما أنها تتبنّى شعور البيض بأنهم ضحايا: تعتقد ميتشل أن المضطهدين في قصتها هم الجنوبيون البيض الذين أُجبِروا على قبول المساواة العرقية. كما أن بدايات حياة ميتشل كانت غارقة في الحنين لأيام العبودية "القديمة الجميلة"، وهي تأثيرات ستشكّل حبكة الكتاب وسياساته العنصرية.
أما بالنسبة إلى الفيلم، ولأنه لم يكن بوسعه تجاهل وجود السود كلياً، فقد خفّف من لغة الكتاب العنصرية وبعض مظاهر العنف العنصري فيه. مع هذا، لا بد أن يكون الممثلون السود في الفيلم قد أُقنعوا بالعمل في مشروع يقول بتفوق البيض. كما أن الفيلم، برغم محاولته تلك، لم يستطع تغيير معنى الكتاب أو رسالته، لأنه، كما تُظهر تشرشويل، تلك اللغة وذلك العنف العنصريان مضمنان في كل شخصية، في كل فعل، وفي كل انعطافة في القصة. كما أن الفيلم، بحسب رأيها، جعل "القضية الخاسرة" مستساغة أكثر لجمهور أوسع.
كذلك، تحليل شخصية بطلة الرواية، سكارليت، هو أيضاً أحد الإضافات المهمة التي تقدّمها تشرشويل في هذا الكتاب. سكارليت هي إحدى أوائل الصور الحديثة للأنوثة المعقدة؛ امرأة من القرن العشرين عالقة في ستينيات القرن التاسع عشر، وفاعليتها محققة على حساب الملوّنين، ما يجعل نسوية الرواية البيضاء في حالة توتر ضد عنصريتها. كذلك، توصف سكارليت على أنها "ليست حادة الذهن" و"عديمة الإحساس إلى درجة كبيرة"، لا تتعلم شيئاً ذا قيمة خلال حياتها، ترفض أن ترى، تكبر أو تتغير. وهذا، كما ترى تشرشويل، هو جهل أميركي يُدعى خطأً "براءة"؛ وهو نوع العمى العنيد الذي أدان جيمس بالدوين وجوده عند الأميركيين البيض الذين يبقون جاهلين عمداً بتاريخهم المشؤوم.
ترى تشرشويل أيضاً أن سكارليت أنانية، حائرة، ويُضجرها كل ما هو خارج نطاق راحتها المادية المحسوسة، وبهذا فهي أميركية نموذجية. "إنها تتقاسم إخفاقات الجنوب القديم وأميركا الحديثة". كما أن "عماها المتعمَّد يعبّر عن الإنكار الذي تتسم به الثقافة الأميركية في رفضها مواجهةَ الحقائق، ورفضها إدراك أن ما ترويه لنفسها ببساطة ليس حقيقياً". هكذا، يمكن أن يعكس هذا التوصيف لشخصية لسكارليت أميركا البيضاء اليوم، لا سيما في محاولتها اليائسة إعادة تأكيد أنها على حق.
إن رواية "ذهب مع الريح" هي، كما تقول تشرشويل، نص أصيل يضيء على الكثير من القضايا الأميركية، بما فيها استخدام، وإساءة استخدام، التاريخ. وبهذا يمكن القول إن كتاب "الغضب الآتي" هو تبيانٌ لكيف تعكس "ذهب مع الريح" الثقافة الأميركية، وكيف أنها تستمر بالتأثير في تلك الثقافة حتى اليوم.
"إن أميركا ليست إلا قصة ترويها الأمة لنفسها"، تكتب سارة تشرشويل. وبدلاً عن تصحيح الذكريات الزائفة والخطيرة، يرى الحكام الجمهوريون والسلطات التشريعية اليوم، وفقاً لتشرشويل، أنه "من غير الأميركي" أن تدرَّس الوقائع التاريخية للعنصرية في الولايات المتحدة. وأن أسطورةً مواسيةً أفضل من الندم الذي يأتي من مواجهة التاريخ الفعلي. ولهذا، ولكي يتمكن أميركيو اليوم من أن يفكفكوا هذه الأسطورة المحبوكة بعناية، فإن عليهم، في المقام الأول، أن يرغبوا بذلك. لكن، من الواضح أن الكثيرين يفضلون الإبقاء على الأسطورة كما هي. أخيراً، ربما تحمل الجملة التي أنهت بها سكارليت الفيلم: "غداً يوم آخر" تلميحاً إلى إمكانية التغيير. وربما، يوماً ما، سيكون ذلك التغيير ضد سكارليت ذاتها.
ترجمة وإعداد: سارة حبيب