أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الأوسط

عادت الولايات المتحدة إلى سياستها التقليدية في احتواء القوی الأوراسية عبر محاولة منعها من الوصول إلى منافذ على طرق المواصلات البحرية.

  • كتاب
    كتاب "أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الأوسط" لجمال واكيم.

في الوقت الذي تشهد فيه أوراسيا المتمثلة بالصين وروسيا وإيران صعوداً لدورها، فإن الولايات المتحدة الأميركية تحاول منع هذا العملاق من تهديد سيطرتها على طرق الملاحة البحرية التي تهيمن عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعبرها تفرض هيمنتها العالمية. لذلك فإن الولايات المتحدة عادت إلى أثارت المشاكل وإصطناع الأحداث والحروب المتنقلة، لكل من روسيا والصين على مساحة المواجهة من أوروبا الى الشرق الأقصى والقوقاز حتى الشرق الأوسط.

ويأتي كتاب د. جمال واكيم (أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الأوسط) ليلقى الضوء على أسس سياسة أميركية قديمة – جديدة، أتبعتها الولايات المتحدة وهي: سياسة الاحتواء التي كانت متبعة خلال الحرب الباردة لمنع الاتحاد السوفياتي من الوصول إلى المياه الدافئة، وهكذا يشهد العالم اليوم فترة توتر شديدة على طول خط يمتد من أوكرانيا في الشمال، مروراً بمنطقة الشرق الأوسط، نزولاً إلى القرن الإفريقي في الجنوب، ومن تونس في الغرب إلى أفغانستان في الشرق. إضافة إلى ذلك، فإن العالم يشهد توتراً شديداً في الشرق الأقصى. يتضح في كل هذه الصراعات تورّط الولايات المتحدة بحيث أنها تلعب دوراً قيادياً وسلبياً فيها. وإلى جانب الولايات المتحدة، نری قوی مثل الاتحاد الأوروبي وتركيا، في حين أن القوى المنافسة للهيمنة الأميركية انضمت إلى منظمة شنغهاي للتعاون مثل الصين وروسيا ودول عدة في آسيا الوسطى، وهكذا  يبدو الوضع الحالي كأنه استمرار للحرب الباردة.

كتاب "أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الأوسط" يعالج التحولات الجارية في العالم والانتقال من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب من منظار إستراتيجي، عبر تحليل الهوية الجيوسياسية للولايات المتحدة وأوروبا الغربية وحلفائهما، والهوية الجيوسياسية للقوى الصاعدة، مثل روسيا والصين وإيران والدول الأعضاء في منظمة البريکس وشنغهاي، عبر دراسة مقارنة لتاريخ هذه الدول والقوى منذ فجر التاريخ وحتى الآن. 

الكتاب يقع في 300 صفحة من القياس الوسط  و8 فصول، صادر عن دار أبعاد عام 2016. يكشف فيه واكيم، خلفية الصراع والتحولات والمصالح الاقتصادية: التي تأخذ شكل المواجهة المسلحة حالياً بين المعسكرين على كافة الصعد.

في الفصل الأول يقوم الكاتب بتحليل طبيعة التحولات الاقتصادية والسياسيّة العالمية الجارية الآن وارتباطها ببروز قوى عالمية جديدة على الساحة الدولية، وارتباط الأزمة السورية بهذه التحولات. أما الفصل الثاني فيعود بنا إلى الزمن السابق لزمن التفوّق الأوروبي الغربي يوم كان العرب هم المهيمنون على النظام العالمي لمدّة تقارب الألف عام، حيث يتم تحليل نظرة العرب الجيوسياسية للعالم وكيف تطوّرت ما بين القرن السابع والقرن السادس عشر، بناء على التحولات التي طرأت على طرق التجارة العالمية. 

أما الفصل الثالث فيحلل الفكر الجيوسياسي الغربي بغية معرفة الأسس النظرية التي بنيت عليها التوجهات الجيوسياسية الغربية وخصوصاً الأميركية في العالم. 

أما الفصول- الرابع والخامس والسادس، فتبحث الهويات الجيوسياسية لكل من إيران والصين وروسيا بغية فهم استراتيجياتها في المواجهة مع الولايات المتحدة، فيما يركز الفصل السابع على صعود ثلاث قوی عالمية تقع على الطريق التقليدي الذي سلكه الرحالة ماجلان في رحلته حول العالم، ودور هذه القوى في التكامل مع القوى الأوراسية في مواجهة الهيمنة الأميركية الغربية.

أما الفصل الأخير فيحلل الهوية الجيوسياسية المصرية واحتمالات صعود مصر كقوة إقليمية ودور ذلك في ترجيح كفة أحد الطرفين على الآخر في بناء التوازنات الجديدة للنظام العالمي الجديد.

ويلاحظ واكيم في كتابه أن الولايات المتحدة عادت إلى سياستها التقليدية في احتواء القوی الأوراسية عبر محاولة منعها من الوصول إلى منافذ على طرق المواصلات البحرية. ففي شرق آسيا شكلت الولايات المتحدة تحالفاً مع اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والفليبين وإندونيسيا وماليزيا وأستراليا لمنع الصين وروسيا من الخروج بحرية إلى طرق المواصلات البحرية في المحيط الهادئ. وهي اليوم في صدد إقامة منطقة اقتصادية في منطقة الهادئ تستثني منها الصين وروسيا. كذلك فهي استقطبت فيتنام ودول جنوب شرق آسيا "آسيان" للغرض نفسه. وفي الخليج أقامت الولايات المتحدة عدداً من القواعد العسكرية في البحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان، لمنع إيران من الخروج بحرية إلى المحيط الهندي، وبالتالي منع الصين وروسيا من استخدام إيران كرأس جسر للوصول إلى المحيط المذكور. 

أما في منطقة البلطيق فإن بوابته إلى المحيط الأطلسي هي بيد الولايات المتحدة بحكم أن الدنمارك والنروج هما عضوان في حلف شمال الأطلسي. 

وقد فجرت الولايات المتحدة وحلفاؤها الوضع في أوكرانيا بغية إغلاق آخر منفذ لروسيا على البحر الأسود وهو ما رد عليه الروس بضم شبه جزيرة القرم منذ سنوات وتراكمت الأحداث قبيل تشغيل "نورد ستريم 2"، الى ان أنفجرت في شباط / فبراير من العام الحالي 2022.

الحرب السورية والسيطرة على الطرق البرية

لذا يعتقد واكيم أن كل ما تقدم آنفاً شكّل السبب الرئيس للأزمة السورية، فبعدما حققت الولايات المتحدة أهدافها في العديد من المناطق ما بات يهدد بإغلاق كل الطرق البحرية أمام القوى الأوراسية، بقي ميناء طرطوس هو المنفذ الوحيد لهذه القوى على المياه الدافئة ما يفسر ضراوة استمرار الأزمة السورية منذ العام 2011 حتى اليوم.

هذا يعيدنا إلى الموقع المحوري لسوريا وبلاد الشام في العلاقات الدولية والصراعات الجيوسياسية. فكانت بلاد الشام هي محور الصراعات بين القوى العظمى على مر التاريخ.

لذلك فإن الحل بالنسبة للولايات المتحدة كان في أن تسيطر على الممرات المائية وطريق الحرير، وأحد سبل هذه السيطرة هي في احتكار الهيمنة على طرق التجارة الدولية وخصوصاً طرق الملاحة البحرية والتي يمر بها 80 في المئة من التجارة الدولية، هذا يفسر الهجمة على أفغانستان والعراق في عامي 2002 و2003 وذلك للسيطرة على الشرق الأوسط، وهو عقدة المواصلات العالمية منذ فجر التاريخ. لكن هاتين المغامرتين كانتا مکلفتين وأثرتا سلباً على الإمبراطورية الأميركية التي انطبق عليها نموذج التمدّد العسكري الزائد الذي تحدث عنه المؤرخ البريطاني بول كينيدي والذي من شأنه أن يؤدي إلى انهيار الإمبراطورية.

كذلك شكّل العام 2008 النقطة التي وصلت فيها الولايات المتحدة إلى مداها الأقصى من حيث التمدّد العسكري. حيت أعلن انذاك الرئيس الأميركي باراك أوباما (حكم 2009 - 2017) عزمه ألا يدخل الولايات المتحدة في أي نزاع عسكري مستقبلي.  كان يعني أيضاً أن على الولايات المتحدة أن تتخلى عن حلمها القديم في أن تكون الإمبراطورية التي تسيطر على العالم، والإمبراطورية التي تشکل نهاية التاريخ. لقد بدأ النظام الأحادي القطبية الذي فرضته الولايات المتحدة في العام 1991 بالتداعي بعد العام 2008 مع ظهور قوی کبری تتحدّى الهمينة الأميركية مثل إيران وروسيا والصين.

العراق نقطة البداية لحرب سوريا وحصار إيران

 يشير واكيم إلى أن الحرب على العراق شكلت فرصة بالنسبة للولايات المتحدة لإعطاء عمق لهذا الشرق الأوسط، الذي يجب أن يكون موالياً لها، إضافة لمنحها فرصة للسيطرة على نفط وغاز المنطقة وكانت الخطوة الأميركية التالية: هي إطاحة نظامي الحكم في كل من سوريا وإيران، حتى تتمكن من السيطرة بشكل كامل على الشرق الأوسط. وكان الهدف من الثورتين الملونتين في جورجيا في العام 2003 وأوكرانيا في العام 2004 تأمين الجناح الأيسر لهذا الشرق الأوسط الجديد (بالمنظور الأميركي).

ينظر واكيم الى أن روسيا كانت الداعم الثاني للرئيس السوري بشار الأسد. فبالنسبة لموسكو فإن الدعوات لتغيير النظام في سوريا ستجعلها تخسر حليفاً مهماً لها في الشرق الأوسط. وشكّلت علاقة موسكو بدمشق الركن الأساسي في السياسة الروسية في الشرق الأوسط منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي. ونتيجة العلاقة الروسية بسوريا أصبح لموسكو قاعدة بحرية على ضفاف البحر المتوسط، وهو ما كانت الإمبراطورية الروسية تطمح له منذ القرن السابع عشر. وحتى قبل الأزمة السورية كانت موسكو تتذمّر من توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً، وكانت الذروة في الخديعة التي تعرّضت لها أثناء الأزمة الليبية. لذلك فهي باتت متشدّدة في دعمها للدولة السورية، ما جعلها تبلغ المعارضة السورية رفضها الإطاحة بالنظام ودعوتها لها للبدء بمحادثات معه، فخسارة سوريا تعني بالنسبة لروسيا أن الشرق الأوسط والمتوسط باتا مغلقين أمام الروس ما يتيح للولايات المتحدة استخدام تركيا كقاعدة للانطلاق باتجاه القوقاز ووسط آسيا.

الصين في حلبة الصراع

يشدد واكيم في كتابه على أن الصين هي الداعم الثالث لسوريا وكانت قد شاركت مع الروس في وضع فيتو على مشاريع قرارات الأمم المتحدة ضد دمشق. والجدير ذكره أن الصين تاريخياً نزعت للانعزال وراء حدودها لأنها «لم تكن بحاجة لأي شيء من العالم». ومنذ القدم كان التجار العرب والفرس هم الذين ذهبوا إلى الصين للتجارة معها. ولم يخرج الصينيون خارج حدودهم إلا في مرتين، الأولى حين كانت الصين قاعدة للحكم المغولي الذين رغبوا في فتح طرق التجارة عبر البر الأوراسي والتي أثمرت توحید معظم البر الأوراسي في ظل قوة واحدة لأول مرةّ في التاريخ، والثانية خلال حكم أسرة مينغ التي أطاحت بالحكم المغولي ولكن هذا كان فقط لفترة وجيزة حين قرّر الإمبراطور جودي (حكم 1402 - 1424) إرسال أسطول في العام 1421 جال حول المحيط الهندي قبل عودته إلى الصين. ودامت رحلة الأسطول لعامين وجال الأسطول حول العالم ولم يكتفِ بالمحيط الهندي. لكن بعد عودة الأسطول أمر الإمبراطور بتدميره «لأنه ليس هنالك في العالم ما تحتاجه الصين» وعادت الصين إلى عزلتها التي دامت حتى القرن التاسع عشر. هذه العزلة أتاحت للقوى الأوروبية الإلتفاف حول القارة الآسيوية ما مكّنها في النهاية من التغلغل داخلها وتحويل معظمها إلى مستعمرات، في حين وقعت الصين تحت هيمنة القوى الأوروبية والغربية. لكن اليوم لم تعد الصين قادرة على الانعزال نتيجة حاجتها لاستيراد المواد الأولية ونتيجة حاجتها للأسواق لتصريف منتجاتها.

 يذكر كتاب "أوراسيا والغرب" أن الصين انخرطت في الأزمة السورية للأسباب الانفة الذكر، إلا أن هناك عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية داخلية لعبت دوراً في تفجر الأزمة، لكن العوامل الخارجية كانت أكثر تأثيراً وارتبطت بالتحوّلات الدولية الجارية، خصوصاً لجهة الانتقال من نظام عالمي أحادي القطبية إلى نظام متعدّد الأقطاب. فالأزمة السورية كانت في جزء منها محاولة أميركية وغربية لإغلاق المنفذ البحري الوحيد المتاح لروسيا وإيران والصين إلى شرق المتوسط. لكن الرئيس الأسد استطاع الصمود بدعم من حلفائه برغم كل الضغوط. أما سبب الدعم الذي تلقاه من القوى الأوراسية وهي الصين وروسيا وإيران فناجم عن حاجة هذه القوى إلى منفذ بحري على شرق المتوسط والمياه الدافئة بعد محاولات التطويق التي قامت بها الولايات المتحدة في شرق آسيا وبحر البلطيق والبحر الأسود والخليج، لمنع هذه القوى الأوراسية من أن يكون لها منفذ على طرق الملاحة البحرية بما يؤدي إلى اختناق اقتصاداتها. ويترافق هذا التنافس بين كتلة القوى البحرية بقيادة الولايات المتحدة ومعها أوروبا الغربية وتركيا مع كتلة القوى البرية آنفة الذكر.

دور تركيا في المواجهة

يعتقد واكيم أن التهديد السياسي الخارجي الأكثر إلحاحاً لموقع أميركا في العالم والتحدي الذي يواجهه الاستقرار الجيوسياسي العالمي على المدى الطويل منشأه القارة الآسيوية. ويقع التهديد المباشر في منطقة شرق قناة السويس وغرب مقاطعة شينجيانغ، وفي القوقاز جنوب حدود روسيا السوفياتية سابقاً ومع الدول الجديدة في آسيا الوسطى. لذلك فإن تركيا يجب أن تلعب دوراً في وقف تقدم روسيا والصين غرباً نحو البحر المتوسط وجنوباً باتجاه المحيط الهندي وهذا ما يفسر إعطاء الرئيس أوباما أهمية خاصة للشراكة مع تركيا، الأمر الذي كان واضحاً جداً خلال زيارته لأنقرة في نيسان / أبريل 2009، أي بعد أقل من ثلاثة أشهر من انتخابه رئيساً للبلاد. وأشارت الولايات المتحدة إلى أن تركيا هي دولة «الإسلام المعتدل»، كنموذج يقدم لباقي بلدان الشرق الأوسط. في مقابل هذا، كان من المقرر منح تركيا العديد من الامتيازات بما في ذلك: أن يتم قبولها في منظمة التجارة العالمية، وأن توقع اتفاقية التجارة الحرّة مع الولايات المتحدة، وأن يتم قبولها في عضوية مؤسّسة التمويل التي سيتم إنشاؤها في منطقة الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن احتمالات الصراع بين الولايات المتحدة وتركيا قد تنشأ إذا بدأ نمو تركيا يتجاوز حدود معينة كرغبتها في فرض هيمنتها على الشرق الأوسط مما يعّرض المصالح الأميركية والغربية للخطر.

إن الأزمة التي يشهدها حالياً ومنطقة الشرق الأوسط، ناجمة عن تحولات في موازين القوى العالمية التي تؤذن بتحول النظام الدولي إلى نظام متعدّد الأقطاب سيشهد للمرة الأولى منذ مئتي عام نهاية الهيمنة الغربية المطلقة على المقدرات العالمية. ويخشى الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، من صعود قوة أوراسية تتمثل هذه المرة بالصين وروسيا اللتين أسستا منظمة شنغهاي للتعاون، التي تشهد قريباً انضمام إيران بشكل كامل لعضوية هذه المنظمة. ولأن هذه المنظمة ستسيطر على قلب أوراسيا، وتمتلك إمكانيات اقتصادية وبشرية هائلة، فإن الولايات المتحدة تحاول الحد من إمكانياتها عبر منعها من الوصول بحرية إلى طرق الملاحة البحرية. هذا ما يفسّر السياسات التي تتبعها الولايات المتحدة في شرق آسيا عبر التحالف مع اليابان وكوريا الجنوبية والدول المشاطئة لجنوب بحر الصين ضد الصين. وهذا ما يفسر الأزمة الأوكرانية بين روسيا والغرب، ويفسر الأحداث في منطقة الشرق الوسط التي تأخذ شکل حروب غير متوازنة أو حروب بالوكالة تقودها جماعات تصنف على أنها إرهابية وبرعاية أميركية مباشرة أو غير مباشرة.