"ذات أحلام وسفر".. عدي الموسوي يستعيد نضال المرأة اللبنانية ضد الاحتلال
في 3 قصص يتحدث الكاتب عن تضحيات المرأة اللبنانية ونضالها ضد الاحتلال الإسرائيلي.
حاصرت صفقة تبادل الأسيرات فرعون الأرض المحتلة بين نارين، فبينما تحررت من السجون الإسرائيلية أسيرات الفتيل الأول لشرارة الانتفاضة وحاضنات الخلية الأولى لقيامة المقاومة كوالدة القيادي يحيى السنوار، حوّلت المقاومة الفلسطينية أسيراتها من المستوطنات إلى سفيراتٍ لصالح الفلسطينيين والقنبلة الموقوتة الأكثر حرجاً في خاصرة الكيان.
من هنا نجد خلف ضوضاء السّلاح وغبار الصواريخ معركة أخرى أكثر فتكاً في الداخل المحتل بدأت تقودها المرأة بصمت، وعندما يتوهّم فرعون أنه همّ بالقضاء على موسى سيستفيق ليجد آسيا في عقر داره ترفع لواء موسى مجذوبة بعذوبة صوت الحق.
انطلاقاً من حضور المرأة القوي في معركة "طوفان الأقصى" نستحضر سرديات كتاب "ذات أحلام وسفر" للكاتب عدي الموسوي من سلسلة المرأة المقاومة، إصدار دار الولاء للنشر في بيروت.
حاول الكاتب بأسلوبه التصويري الخروج عن النسق المألوف ليجمع بين جمال المرأة وقوتها ويمزج أيضاً بين عقلها وفطرتها من خلال الإضاءة على ثلاثة نماذج من النساء عاصرن أقسى ظروف الحرب وكنّ جنباً إلى جنب مع رجال المقاومة اللبنانية في تحرير قراهنّ من طغيان الكيان الإسرائيلي وكان لهنّ ما أردن، ليعالج بذلك مزاجيات النسوية التي اختزلت عناصر الأنوثة بأحمر الشفاه ومطرقة الكعب الممشوق وما أفرز في مقابله من تشنجات الترند المتداول حالياً "Strong Independent Woman".
فمن خلال ثلاث قصص جمعها ب 185 صفحة، حملت أولها عنوان "ونجني من فرعون" والثانية "عزيزة الجبل" والثالثة "ذات أحلام وسفر" همس الكاتب في أذن كلّ امرأة سئمت من الصور النمطية المبتذلة والنماذج المتشابهة المتناسخة في الشكل والمضمون مما تسوقهن الميديا من بضاعة مزجاة عن المرأة ليخبرها أنه رغم روعة أحمر الشفاه حين يزين رقة المرأة إلا أن أحمر دماء العدو في عيني امرأة دافعت عن شرف بلادها أجمل من أحمر شفاه امرأة اقتحم العدو أرضها فارتطمت باكية خلف جدار الخيبات.
عرضت القصة الأولى للكتاب والتي حملت عنوان "ونجني من فرعون" المرحلة الانتقالية من الطفولة إلى الشباب في حياة فتاة تدعى آسيا سار الكاتب فيها منهج الوسطية بين التطرف لكلا الطرفين اللذان يدعو أحدهما إلى تحييد المرأة عن قضايا السياسة والحرب وتسطيح وعيها بعيداً عن قضايا مجتمعها، بينما يدعو الآخر تحت شعار " Strong Independent Woman" إلى تخلي المرأة عن فطرتها وتغليفها بغلاف القسوة والوحدة بسبب التعميم الخاطئ للحالات التي اسُتغلت فيها المرأة.
فيروي لنا الكاتب آسيا العروس التي تتجهز لزفافها ثم ينتقل بنا إلى الضفة الأخرى ليكشف كيف تعاملت تلك العروس مع ظروف الحرب القاسية التي فرضت عليها دون أن تندب فوق طاولة زينتها أو تذرف الدموع أمام خزانة فساتينها بل حملت على عاتقها مساندة شباب المقاومة مع إخوتها الثلاثة والذين كان منهم المجاهد والأسير والشهيد لتحصد ثمار الفرج برفع الراية الصفراء التي تسر الناظرين فوق ربوع بلدتها "قبريخا الجنوبية"
وعي العائلة المسابق لعصرها ونظائرها
"بصمت تتقدم آسيا نحو الصندوق، تدخل يدها من طرفه، وبخفّة تخرج الأمانة دون أن تبعثر أوراق التبغ أو تنثرها. تحمل الكيس بما فيه بين ذراعيها كمن تحمل طفلاً صغيراً وتسلمه لأخيها بصمت وببسمة ظفر. تدرك زينب حقيقة الأمر فتشهق متفاجئة. يسرع حسين لإخفاء السّلاح المهرب. وترتسم على شفتي الأب بسمة فخر وارتياح".
بهذا المقطع اختصر الكاتب ثقافة ووعي وشجاعة عائلة آسيا بدأً من الأب الذي ترفّع عن عادات عصره في التفريق بين "البنت والصبي" ليصوّر الكاتب من خلال تلك الأسرة حالة فريدة من الحضارة التي تختزلها البلدة الجنوبية اللبنانية "قبريخا" في ذلك الوقت.
ومن مواجهة آسيا للضابط الإسرائيلي وقدرتها على التمثيل والاحتيال ببراعة إلى امتصاص الأب للتهديدات بحياة ابنته يرسم لنا الكاتب لوحة المشهد ليقدم لنا آسيا وعائلتها كوصفة سحريّة أمام أي فتاة أو عائلة أحاطت بها قساوة الظروف من كل جانب ولم ترحم رقتها آلة العدوان، لتكسبها تلك الوصفة مناعة تعينها على البقاء فلا تندثر كشتلةٍ فتيةٍ في مهب الرياح.
عزة المرأة في شخصية عزيزة الجبل
"حين رأت ابتسامته الساخرة وهو ينزل نظارته قليلاً لينظر إليها نظرته إلى مخلوق وضيع، تفجرت فيها كل مراجل القهر وتحول إلى حممٍ حارقة، اندفعت نحو ذراعها لتطوّح بها في حركة مفاجئة صاعقة، لتصفع الضابط بقوة. كانت صفعتها من القوة والمباغتة بحيث أطاحت بنظارتيه وسيكارته وجعلته يتراجع للوراء خطوتين".
هكذا لخّص الكاتب في روايته الثانية "عزيزة الجبل" حياة بطلته أم مصطفى "عزيزة" التي حوّلت بيتها في "عبرصاليم" إلى حاضنة لرجال المقاومة اللبنانية من الرعيل الأول ومن بينهم الرجل الذي يبحث عنه الشيطان بنفسه.
استطاع الكاتب إبراز ثلاثة جوانب لشخصية عزيزة تمثلت تلك الجوانب بعزيزة الأم وعزيزة المرأة العاملة وعزيزة المرأة المقاتلة.
ما سرّ يد عزيزة؟
كان السّر كله يكمن في يد عزيزة، بدأً من صفع الضابط الإسرائيلي وتحطيم غروره الذكوري الممزوج بغطرسة المحتل تحت قدميها، إلى يد عزيزة الأم التي تحمل بها جهاز الراديو لكيلا يعزلها الانهماك بأعمال المنزل عن استقراء الأوضاع السياسية والعسكرية من حولها، ونفس اليد الحانية لعزيزة تحضّر طعام بطلها مصطفى وأصدقاؤه.
كذلك عصا عزيزة التي تهش بها على غنمها لها فيها مآرب أخرى، فقد لبت ذات يوم طلباً للمقاومين بأن تستغل خروجها لرعي أغنامها لتراقب المسلك الجبلي في قريتها فترصد حركة دوريات الجنود الإسرائيليين ومواعيدها.
الأم رفيقة الدرب والسلاح لابنها ورفاقه
جسد الكاتب في روايته الأخيرة "ذات أحلام وسفر" حياة امرأةٍ مناضلة من "مرجعيون" سطر من خلالها حكاية المرأة الرفيقة لابنها محمود ورفاقه والتي لم تعطِ ابنها مساحته التي تمكنه من تفجير طاقاته الكامنة من الجرأة والشجاعة واختار طريق ذات الشوكة بدعمها وتشجيعها فحسب، بل وشاركته الطريق بوحشته ووعورته، قابضةً بذلك على جمرة مشاعر الأم من خوفها عليه وتمسكها به لأنها تعلم أنه لابدّ للحياة الكريمة الآمنة من تضحيات.
وقد بين الكاتب بعد استشهاد ولدها محمود كيف أطلقت العنان لمشاعر الأمومة بكل صخب محسناً بذلك في تصوير واقعية المشهد بكل آهاته وخيباته.
"ماما أحلام" هكذا كان يناديها رفاق السلاح الذين وجدوا في منزلها المستراح والمنطلق نحو طريق التحرير والنصر، وعلى عكس المتداول عن شخصية المرأة أبرز الكاتب أجمل خصلةٍ في شخصية أحلام حين كانت الحافظة الأمينة لأسرار الكثير من شباب المقاومة، وكذلك كانت مستودع سرّ ابنها المقاوم محمود، وهذا نوعٌ نادرٌ من العلاقة الوثيقة التي تربط الابن بأمه بكل مساحة الأمان والثقة والتأثير.
الإصرار على وجود محمود في حياة أحلام
وفي ختام القصة حالة مميزة من التعافي والبقاء تعيشها أحلام التي زلزلها فعلاً خبر استشهاد ابنها محمود لكنها استطاعت الاستمرار لدرجة أعادت معها محمود إلى الحياة مجدداً.
وإلى هنا تنتهي الروايات الثلاث لترسخ أجمل تجليات الجرأة والمروءة في جمال المرأة المجابهة للمحن، لتكون تلك النماذج مدرسة توقد شعلة التغيير في كل امرأة خيّم سواد الظُلم على عالمها الرّقيق، فتمزج الطّين اللين بلظى النار لتواجه القدر بالقدر الذي تختاره بملء إرادتها وتتحمل في سبيله الملمّات.
وأخيراً كما برع الكاتب في نحت الكثير من تفاصيل القصص والمشاهد أغفل تفصيلاً في الرواية الأولى ربما يجعلها أكثر واقعيةً فقد انتقل بنا من حياة آسيا الطفلة المراهقة إلى آسيا الشابة الراشدة دون أن يقف على محطةٍ من محطاتِ حياة المراهقة بما فيها من تقلبات نفسية ومزاجية لدى المراهقين تجعل القصة أكثر واقعية.
كذلك كان من الأكمل لو صوّر الكاتب كيف ازدهرت اليوم تلك المناطق الثلاث في لبنان وتغيرت حالها إلى أحسن حال بعد أن اتخذ أهلها رجالاً ونساءً خيار المقاومة حتى تحقيق النصر والحياة الكريمة الآمنة.
إن المرأة تعني الثورة هذا ما أراد الكاتب له أن يستبين في ذهن كل قارئ والمقصود بالثورة هو كل جوانبها المعروفة بعنفوان التأثير وحرقة الغليان رشاقة الدوران وحكمة الاستمرار وجمال الشعار وسحر المضمون والقدرة على الانسياب والتحشيد.