أنطونيو سكارميتا: "عرس الشاعر" ودوامة العدم
لا يغفل صاحب رواية "ساعي بريد نيرودا" عن دس المادة التاريخية في متخيله السردي، إذ يكشف ماضي الجزيرة وتاريخها الخفي.
لدى شواطئ قرية وهمية، وعلى جزيرة تطل على السواحل الماليسية وسط البحر الأدرياتيكي، يؤسس الكاتب والروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا (1940) أحداث روايته "عرس الشاعر"، الصادرة بترجمة الراحل صالح علماني (دار ممدوح عدوان 2020) إذ يشبكُ الخطوط الزمنية لحكايته بين ماضٍ عالقٍ في ذاكرة سكانها، وحاضرٍ يبث القلق والريبة في قلوبهم.
يبدأ السرد عند نهاية القرن التاسع عشر، بإغلاق متجر الجزيرة الأشهر إثر مأساةٍ لا اسم لها، حيث يسطع اسم الجميلة "مارتا ماتاراسو" لحظة مفارقتها الحياة ليلةَ زفافها للثري ستاموس صاحبِ المتجر، ووسط حادثة غريبة منعته من تحقيق حلمه بالزواج من أجمل فتاة ماليسية، على أن المشهد لا ينحصر في قصتهما، إذ تبدو الأحوال وقتذاك مزدهرة بصورة متواضعة، إلا أن حادثة موت العروس، تدفعه للرحيل، لتبدأ الأوضاع بالتدهور بعد أن يُغلّفَ موتها بأسطورة خرافية، وبعد تسلل داء الفلكسرة (حشرات فطرية) إلى حقول العنب، لتتحول المنطقة من أرضٍ منتجة للنبيذ، عرفت قبل عام 1900 بخمرة أعنابها، إلى أرض يغزوها الحرمان والانكسار، الأمر الذي دفع بسكانها للحلم بالخلاص والهجرة إلى مناطق أكثر ثراء وسلاماً.
لا تبقى الأحداث على حالها، إذ يبدو التاريخ كأنما يكرر نفسه حين ينتقل المصرفي "جيرونيمو فرانك" بعد أعوام من الحادثة إلى أراضي قرية جيما. الثريُّ الحالم بالبعد عن حياته في النمسا، والملقب بالشاعر، تسكنه فكرة الهجرة من بلاده إلى أراضٍ أقل تاريخية، فيجعل من جزيرة جيما وجهته، على الرغم من انعدام ثرواتها وافتقارها على قليل من الزيوت والنبيذ الأبيض وكثير من الراقصين المخمورين.
يسافر جيرونيمو بعد وفاة والدهِ الراغبِ بخلاصهِ من خصال الحالم، رغم يقينه بفشله لحظة تحول ثرواته إليه، لذا يرحل الشاب موكلاً لأخته إدارة الميراث، وينهج سيراً بوهيمياً نحو جيما، فيعيد إحياء أمجاد متجر ستاموس الأوروبي، متجاهلاً الأسطورة المتعلقة بصاحبه القديم، لتدب الحياة في المكان مجدداً، وتتحول الجزيرة الأكثر هجراناً وركوداً إلى أرض مليئةٍ بالأحداث والقصص.
لا يغفل صاحب رواية "ساعي بريد نيرودا" عن دس المادة التاريخية في متخيله السردي، إذ يكشف ماضي الجزيرة وتاريخها الخفي، فمع قدوم جيرونيمو عام 1914، وهو العام الذي تنبأ فيه البابا باندلاع حرب عالمية، وبدأت النمسا بتهديد أراضٍ جنوبية، يظهر الشقيقان، رينو واستيبان كوبيتا، سليلا بطل حرب حصل في يوم غابرٍ على وثيقة الاستقلال، وحارب النمساويين، وكاد يجبرهم على الاعتراف باستقلالهم، لولا وقوعه فريسة مكيدة أودت بحياته. يحيا الشابان حياة التشرد بعد رحيل أمهما أيضاً، ويشبّان تحت عين كاهن الجزيرة في طريقين متناقضين، فأحدهما ابنٌ للقساوة والرغبة والمجون، والآخر موسوم بالرقة والصمت. الأول رينو مأخوذٌ بماضي عائلته، ويحلم بصنع مجدٍ يعلي من شأن اسم كوبيتا مجدداً، أما استيبان، فهو شاب حالمٌ، يبدو ساكناً سكون البحيرات، إضافة إلى كونه صاحب موهبة كبيرة في الصمت. لذا يليق به لقب شاعر، وهو ما يحاول فعله مراراً. لكن رينو في المقابل يسعى لجعلهِ رجلاً لا يتورع عن قتل أحد، إلا أن الأصغر يبدو بعيداً عن أمجاد أخيه، إذ لا فهم لديه للحرب، ولا تفسير لدوافع القتل، بل ويجهرُ بافتقاره للشجاعة على القتل.
"لقد كان أبونا رجلاً حقيقياً. دفع حياته ثمناً لذلك، لا يمكن لأحدٍ أن يشوّه سمعته"، هكذا يصر رينو على إقناع أخيه بالمشاركة في قتل بحارة نمساويين أُرسِلوا لتجنيد شبان الجزيرة عنوةً. الأمر الذي يؤسس لحملة حربية، ويثير حنق الإمبراطورية لإرسال أساطيلها وتدمير الجزيرة. يشكل القتل مفترقاً فلسفياً بين الأخوين، فقتل بحار نمساوي يضعهما أمام مشهدٍ باترٍ، إذ يراه رينو عدواً وسليل قتلة أبيه، فيما يجده استيبان شاباً غرّاً، ولا علاقة له سوى بتنفيذ الأوامر. تجري حواراتٌ مؤثرة، وتختلط المبادئ، لتخلص إلى حربٍ لا سبيل في تفسيرها، فالحرب هي الحرب، ولا منطق في تعريفها.
يتسلل عبر فوضى الأحداث وضجيج المعركة الوشيكة، بعضٌ من رقةٍ خبيئةٍ في قلب رينو، لتجسّد حقيقة توقِ أكثر القلوب قسوة إلى الرقة والرهافة. إذ يفتتن بمشاهدته فيلماً سينمائياً للمرة الأولى في حياته، تلك الآلات التي جيء بها للاحتفاء بزفاف الجميلة آليا، تُخرِج جانباً هشاً من شخصيته اختبأ تحت عمق الإحساس بالواجب، والالتزام إزاء العائلة والوطن. لذا يصارع ذاته، ويتخلف بعضاً من الوقت عن قتل البحارة للتمتع بأضواء السينما المتألقة، حالماً بالرحيل عن الحيوات المقفرة، والحقول الشحيحة.
وعبر ليلة مزدوجة بالحب والحرب، لا تشفع مناشدات كاهن القرية، ولا سطوة مكانة البابا في منع الأسطول النمساوي من معاقبة صبيان الجزيرة، إذ يتفق قدومه مع زفاف جيرونيمو والجميلة آليا إيمار، عبر حدث يعيد إلى ذاكرة الجميع أسطورة مارتا، فهل سيكرر التاريخ نفسه؟ فجيرونيمو يبحث عن معنى الغموض والألم. يشيح بأفكاره بعيداً عن سطوة الأسطورة على الجميع مدركاً إيمانهم بها، إلا أنه لا يلتقط كُنهَ الدوافع التي دفعته للعيش في مكان لا يظهر على الخرائط، بل ويتأخر في الاعتراف بحبٍّ توقد لحظة رؤيته آليا للمرة الأولى، ما عمّق لديه الرغبة بإيقاع مختلف، لإحياء زمن جديدٍ، والعيش ضمن فضاء أقل كثافة، ولو أشاح التاريخ بوجهه عنه.
وعلى عكس رينو كشابٍّ لم يحظَ يوماً ببلادة الحب، يبدو استيبان الراغب بإدارة مكتبة صغيرة مستكيناً لحب عميق، إذ يكتشف متانة حبه لآليا، ويعلق كل تفصيل في حياته على مشاعره الصامتة بصورة شبه أفلاطونية، ذلك أنها تتراءى إليه كالطواف حول بيتٍ لا يمكن لمسه، في وقتٍ يحيي الماليسيون الليالي لزفافها، تحت تأثير ترسانة من الثقافة والمال والنفوذ أعدها جيرونيمو للزواج منها.
"التاريخ الذي لا يُكتب، لا وجود له"، من هنا ينسج سكارميتا العبث الذي يرمي وجود الجزيرة وأهلها في دوامة العدم، إذ يصنع الماليسيون مقتلهم بطيبتهم، وسذاجتهم، وريفيتهم القاتلة. ليتحول ما كان واقعاً إلى أسطورة، ويدخل حيز الخيال، حين تتدافع القوات ليلة الزفاف بقيادة مولينهاور التواق، ككل قائد عسكري، لمجدٍ أسطوري تضخمه صحافة صفراء. لتُمحى كل الحقائق، وتزوَرُ الوقائع وفقاً لأهواء المنتصر، ويأتي الهجوم بمثابة شرارة تشعل حرباً كبرى، يرحل إثرها الشبان الاثنا عشر، بصورة تشبههم بحواريّي العشاء الأخير، متخمين بالأسى، وذاهلين في طريق لجوئهم إلى تشيلي، وبعد انتحار جيرونيمو المؤلم، وموت آليا على أيدي الغزاة بوحشية تحيي أسطورة الجزيرة القديمة.
"الشيء الوحيد الذي أملكه أنا هو الألم، وهذا الدفتر الذي أجمعُ فيه أشعاراً من لا شيء، مجرد كلمات". هكذا ببضعة كلمات في دفتر مصفرّ، ينهي استيبان مأساته بالرحيل عن بلاده، وعن المرأة التي أحب، مبدياً خيبته وجبنه وكل الدوافع التي أقصت به بعيداً عنها، وهكذا ككل الملاحم، ينتصب العدم مثل بطلٍ إغريقي، ويفترق الأخوان، رينو إلى نيويورك، أرض المجد والسينما والمال، واستيبان، إلى ملجئه الوحيد في تشيلي. لتختفي حكاية جزيرة جيما على يد القائد المنتصر وصحافييه الجُناة، فتقتل آليا، ويُوثق جيرونيمو خائناً لبلاده، كما تزوّر الوثائق التي تثبت هرب الشبان، فتجعل منهم قتلى الثأر النمساويّ، ولا يبقى لهم ما يملكون من العالم سوى هوية المنكوبين باللجوء، والهاربين من بلادٍ لم تعد موجودة سوى في مخيلاتهم.