أنطوانيت نجيب.. "راهبة" الفنّ السوري ماتت "شابّة"
مرحة وصاحبة نكتة، ومن جيل تعامل مع الدراما بطقوس أشبه بطقوس الرهبنة والعبادة. تعالوا نتعرف أكثر إلى أنطوانيت نجيب.
امتلكت الراحلة أنطوانيت نجيب (1930-2022) أهم ما يمكن أن يمتلكه أي ممثل، وهو الصدق الفني، إذ إنها طيلة مسيرتها التي امتدت إلى ما يقارب نصف قرن حاولت الالتزام بموهبتها واشتغالاتها على الشخصيات التي أدتها وبث روح الحياة فيها من دون تصنُّع، مُحصِّنةً نفسها جيداً بمحبة الجمهور والفهم العميق لروح الجماعة في العمل الفني، ومرسخة مكانتها كرائدة من رواد الدراما السورية في المسرح والسينما والتلفزيون، حاجزةً لنفسها مكانة خاصة في قلوب المتلقين على اختلاف مستوياتهم المعرفية ووعيهم بمهنة التمثيل.
وبين الكوميديا التي بدأت منها، مروراً بالدراما الاجتماعية والناقدة، والأعمال التاريخية والبدوية، استطاعت نجيب أن تبني لنفسها تاريخاً فنياً حافلاً بالمحطات الناصعة، منذ أفلام "امرأة حائرة"، و"شقة الحب"، و"عاريات بلا خطيئة"، و"الحب الحرام"، وفي مرحلة لاحقة أفلام: "عن الحب"، و"التجلي الأخير لغيلان الدمشقي"، و"رسائل الكرز"، وأيضاً في مسلسلات من مثل "صح النوم"، و"الجوارح"، و"القصاص"، و"أخوة التراب"، و"أيام الغضب"، و"حمام القيشاني"، و"مرايا"، و"الفصول الأربعة"، و"بقعة ضوء"، و"الاجتياح"، و"ممرات ضيقة"، و"جلسات نسائية"، وغيرها الكثير، إلى جانب بدايتها المسرحية ومشاركاتها في "حط بالخرج"، و"الأشجار تموت واقفة"، و"سراديب الصنايعية"، وسهرة مع أبي خليل القباني، وغيرها.
صاحبة نكتة
ظلَّت الراحلة نجيب صاحبة نكتة حتى لحظاتها الأخيرة، ولا يوجد ما يدل على ذلك أكثر من الصورة التي تظهر فيها وهي تحمل لوحاً أبيض كتبت عليه: "أنا كبرت بالعمر.. بس أنا ماني عجوز.. أيوا".
نَبَّهت نجيب مراراً إلى أن ما يُقدَّم حالياً من أعمال البيئة الشامية يُشوِّه صورة المرأة ويغير حقائق التاريخ، ولفتت أيضاً إلى أن ما تتضمنه المسلسلات الكوميدية معيب بحق الكوميديا السورية.
هذا الحب للحياة والتصالح مع الذات كانا أجمل ما يميزها، وربما كانا ما دفعها إلى التعليق على أن الدراما السورية الآن ليست بخير، وأن هناك استسهالاً في الفن، رغم أنه عمل صعب يتطلب حرفية وموهبة وحضوراً وأداءً متقناً، وليس اعتماداً على جمال الممثل فقط، مشيرةً إلى أن ما يحصل ما هو إلا لعبة تُجّار الإنتاج الذين يبتغون تسويق منتجاتهم، ولو كان ذلك على حساب المضمون والنص الراقي. وفي الوقت ذاته، نَبَّهت نجيب مراراً إلى أن ما يُقدَّم حالياً من أعمال البيئة الشامية يُشوِّه صورة المرأة ويغير حقائق التاريخ، ولفتت أيضاً إلى أن ما تتضمنه المسلسلات الكوميدية معيب بحق الكوميديا السورية.
رحيل أنطوانيت نجيب بعد معاناتها من الفشل الكلوي شكَّل غصة لدى كثيرين من صناع الدراما في سوريا، ومنهم المخرج تامر إسحاق الذي أوضح في حديثه إلى "الميادين الثقافية" أنَّ الكلام يخونه وهو يتحدث عن حزنه لغياب "الست أنطوانيت".
ويضيف: "كانت سيدة عظيمة تجمعني بها قصص كثيرة. حتى الآن، لا أصدق أن تلك المرأة صاحبة الوجه السموح، الرائعة، الجميلة، الطيبة، الحنونة، المحبة للحياة ولبلدها، رحلت. لا أقول هذا الكلام لأنني مقرب إليها، فكل من اشتغل معها يعرف هذه الصفات فيها. سأشتاق إليها كثيراً. غيابها خسارة جديدة في حياتي، وأريد أن أقول لها إن روحها ستظل حاضرة في داخلنا، وأعمالها أيضاً".
خسارة للدراما
يستذكر إسحاق عندما سألته أنطوانيت إذا كان سيحزن عليها عندما تموت، ويتابع: "ربما لم أكن أتخيل أن يكون هذا الموقف حقيقياً، لكننا للأسف، استيقظنا اليوم على غياب طوني، كما تحب أن نناديها. أنطوانيت خسارة للدراما السورية، وهي قامة قدمت الكثير لبلدها سوريا حتى آخر لحظات حياتها".
من جهته، وصف الفنان غسان عزب الراحلة نجيب بأنها "أم الكلّ"، قائلاً: "كانت مُحبّة للجميع، والجميع يحبها. كانت مرحة، وظلت تحب الحياة حتى آخر قطرة منها. لم أرها مكسورة إلا في جنازة المخرج حاتم علي. ورغم أننا اشتغلنا معاً في مسلسلات كثيرة، آخرها "صدر الباز"، فإنني للأسف لم أُجسِّد قط دور ابنها، بل كنا نجتمع في مواقع التصوير وأمام الكاميرا في شخصيات لا قرابة فيما بينها".
بدأت أنطوانيت مسيرتها في أصعب مراحل الدراما، في ستينيات القرن الماضي، وهي من الجيل الذي يتعامل مع الدراما بطقوس أشبه بطقوس الرهبنة والعبادة.
ويضيف عزب: "لعمق محبتها وفرحي بوجودها بيننا، لم أفكر للحظة في أن فارق العمر بيننا يفوق الأربعين عاماً، إذ كنت أنسى ذلك أمام عطائها ومحبتها، وأعتقد أنها كانت دائماً صاحبة روح متوهجة ببداهة الطفولة وجمالياتها، وهو ما جعلها لا تصل إلى الشيخوخة، وترفض أن توصف بالعجوز. ولكثرة ما تحفر في ذاكرة من حولها من فرح وجَمال، فإنها لا تعطي أحداً الفرصة ليقول إنها "أخذت عمرها". في رأيي، هذا أحد الأسرار التي تبقي أعمالها في الذاكرة بعيداً من النسيان".
"راهبة" منضبطة
مدير التصوير والإضاءة الفنان حنا ورد قال في تصريح خاص إلى "الميادين الثقافية": "تجربتي مع الفنانة أنطوانيت نجيب كانت ضمن مسلسل "الجوارح". أعتبرها أيقونة من أيقونات الفن السوري، إذ بدأت مسيرتها في أصعب مراحل الدراما، في ستينيات القرن الماضي، وهي من الجيل الذي يتعامل مع الدراما بطقوس أشبه بطقوس الرهبنة والعبادة. كانت تأتي قبل وقت التصوير، حافظةً دورها، ومنضبطة في أدائها إلى الحد الأقصى، وهي واحدة ممن يتمعتون بأخلاق مهنية وفنية عالية، والتي باتت نادرة هذه الأيام للأسف، وهو ما أوصل الدراما السورية إلى ما هي عليه من تدنٍ في المستوى. في رأيي، هذا أمر مبرمج وممنهج".
وحين سألنا ورد، بصفته مصوراً لديه عين فنية باذخة، عن مزايا وجه الفنانة أنطوانيت وملامحها، أجاب: "هي من الوجوه التي أحبها وتُريحني. في مهنتنا، نقوم بدراسة الوجه وعضلاته بهدوء، ونعرضه لاختبارات، ونضع مخططات إضاءة نتناقش فيها مع المخرج لنصل إلى حلول ومفاتيح الإضاءة الأمثل للوجه في كل فيلم أو مسلسل. عندما كنت أطلب من السيدة أنطوانيت أن تدير وجهها إلى المرآة، كان مخطط الإضاءة يبدو أجمل، وتبرز لمعة عينيها... كانت على النقيض من غيرها من الممثلات اللواتي يردن أن يظهرن جميلات، ولو خالف ذلك طبيعة الشخصية. كانت تفتخر بعمرها، ولم تخضع لأي عملية تجميل تشوِّه بشرتها الرائعة حتى في أواخر سنين حياتها، ولم تكن تحتاج في كثير من الأحيان إلا إلى مسحة ماكياج بسيطة، كتلك التي وضعتها الفنانة ردينة ثابت سويدان في "الجوارح"، بعيداً من العجائن التي تشوه الملامح".
ويضيف ورد: "بالنسبة إليّ، أرى الفنانة أنطوانيت من أكثر الممثلين احترافاً، رغم أنها ليست من خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية، وكل ما حققته كان نابعاً من موهبة شخصية وعمل يومي. أعتقد أنها تعلمت التمثيل من الحياة. هذا لا يعني أن الدراسة الأكاديمية غير مهمة، لكن الأهم هو الصدق بالموهبة، والصدق مع النفس أولاً، ومع الآخرين ثانياً، وأن يحبّ الممثل فنه ويكون شغوفاً فيه".