"أماكن الفكر" .. سيرة فكرية لإدوارد سعيد

يساهم كتاب "أماكن الفكر" في الاعتراف بالمفكر إدوارد سعيد كواحد من طبقة المفكرين البارزين، أمثال ماركس وفرويد ودريدا وفوكو وتشومسكي.

  • سعيد ادوارد/ غير صالح للنشر
    سعيد ادوارد/ غير صالح للنشر

يذكر أستاذ الادب الإنكليزي في الجامعة الأردنية الدكتور محمد شاهين في تقديمه لكتاب "إدوارد سعيد.. أماكن الفكر" للباحث والأكاديمي الأميركي تيموثي برينان أنه بعد رحيل إدوارد سعيد قلت لصاحب رائعة "موسم الهجرة إلى الشمال" الروائي السوداني الطيب الصالح: "كان صديقنا إدوارد يا طيب أسطورة جميلة". فأجاب الطيب: "وستزداد الأسطورة جمالاً مع الأيام".

يصادف الخامس والعشرون من شهر أيلول/ سبتمبر 2021 الذكرى الـ19 لرحيل الناقد الفلسطيني إدوارد سعيد. ولد سعيد في القدس في 1 نوفمبر / تشرين الثاني 1935.

ترك سعيد وراءه إرثاً مهماً في الدراسات النقديّة والسياسيّة والثقافيّة العامّة، وبدأت شهرته كعالم ومفكر بعد نجاح كتابه الساحق "الإستشراق" الذي أصبح إنجيلاً للدراسات ما بعد الكولونيالية كما أسماه الكاتب إيف كلافارون الذي يعمل أستاذاً لدراسات ما بعد الكولونيالية في جامعة سانت اتيين جون موني الذي سبق وكتب كتاب "إدوارد سعيد وانتفاضة الثقافة" الذي اعتبر فيه سعيد بأنه مؤسس الدراسات ما بعد الكولونيالية.

ألف أكثر من 20 كتاباً، من بينها "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتيّة" الصادر عام 1966 التي كانت فاتحة اعماله وهي امتداد لأطروحته للدكتوراه، "تغطية الإسلام.. كيف تحدد وسائل الإعلام والخبراء الطريقة التي نرى فيها العالم؟"، و"مسألة فلسطين"، و"الثقافة والإمبريالية" الذي يعتبر تكملة لكتابه "الاستشراق"، وترجمت كتبه إلى أكثر من 20 لغة، ومن أشهر كتبه أيضاً "خارج المكان" التي أرخ فيها لحياته الشخصية.

وبالإضافة إلى الكتابة، امتلك سعيد معرفة بالموسيقى وتاريخها، وألف فيها كتابين هما "متتاليات موسيقية"، و"عن النموذج الأخير.. الموسيقى والأدب ضد التيار".

  • كتاب
    كتاب "إدوارد سعيد.. أماكن الفكر"للباحث تيموثي برينان.

واضح جداً من خلال مراجعة كتاب كتاب "إدوارد سعيد.. أماكن الفكر" أنه قد يكون من أهم الكتب التي صدرت عام 2021 بالإنكليزية، ومن أهم الكتب التي ترجمت إلى العربية عام 2022، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كتب العديد من أصدقاء سعيد مؤلفات وبحوث ودراسات ومقالات تناولت أفكار سعيد، ومناقشتها ، إلا أن اَخر كتاب عنه (أماكن الفكر) السيرة الفكرية التي  أصدرها تلميذه برينان، ونقله إلى العربية محمد عصفور، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة (عدد 492، مارس-  2022)، هو واحد من أكثر السير التصاقاً بإدوارد سعيد. 

الخبرة التاريخية لفريق"سلسلة عالم المعرفة" ذو الخبرة الواسعة أصاب في اختياره لمحمد شاهين صاحب كتاب "إدوارد سعيد.. دراسات ومُقدمات مُختارة" الصادرة عن المؤسسة العربية للنشر في بيروت، لتقديم كتاب "إدوارد سعيد.. أماكن الفكر" الذي يعتبر من أبرز الكتب التي تتناول شخصية المُفكر والناقد الراحل سعيد . فقد تسنى لشاهين مرافقة برينان إلى بيروت قبل سنوات عدة لجمع أجزاء من مادة كتابه هذا حول سعيد.

يرى شاهين أن قراءتنا لكتاب "أماكن الفكر" تجعلنا نتصور تيموثي برينان كأنه "شريك سري" secret sharer  وهو عنوان أشهر القصص القصيرة التي كتبها كونراد، والتي ظلت بنيتها تسري في  عديد من كتاباته أو شخصيات رواياته.

ويرى برينان أن اختياره  لعبارة "أماكن للفكر" ضمن عنوان الكتاب، يفيد أن هوية إدوارد سعيد تتحدى مكان الولادة والإقامة. 

لاحظ محمد شاهين أن تيموثي قدم معلمه في هذه السيرة باعتباره "أكبر من الواقع بكثير"، فهو مثلاً، "لم يحضر إلى أميركا بل أميركا هي التي حضرت إليه"، ويعني ذلك أنه استطاع بوجوده في أميركا أن يحرك المياه الراكدة في المجتمع الأميركي بدلاً من أن يذوب في ما يعرف بـ"وعاء الذوبان" melting pot كناية عن أميركا، المكان الذي يجمع الوافدين إليه ويصهرهم في بوتقته ليعيشوا متجانسين، بعد أن كانوا غير ذلك سابقاً.

لقد ذكر برينان أن سعيد تمكن من تحويل عراك الشوارع إلى مناقشات راقية في قاعات المحاضرات الأكاديمية الأجنبية، فجعل الجامعة مكانًا أكثر إثارة وصار أساتذة الجامعات جزءاً من الحوار الحيوي الدائر، وعمل أكثر من أي شخص آخر على نقل العلوم الإنسانية من الجامعة إلى مركز الخريطة السياسية. 

يقول برينان عنه أنه كان من "المحطمين اللامعين للأصنام التقليدية: كان صاحب استراتيجية مخادعة، مفكراً من مفكري نيويورك، وكان يتردد على بيروت ويعمل على ترتيب الحفلات الموسيقية في فايمار، ويبرع في سرد الحكايات على شاشة التلفزيون القومية، ويفاوض من أجل فلسطين في وزارة الخارجية الأميركية، ويمثل في أفلام يؤدي فيها دوره في الحياة". و يرى برينان أنه بوجود سعيد حصل الفلسطينيون على ناطق متحضر يتعمق في الأفكار التي تتلبس المركز الأوروبي والأميركي بشأن الأطراف. 

وتؤكد صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أن سعيد كان متحدثاً باسم القضية الفلسطينية، حيث ظهر في برامج تلفزيونية مهمة مثل "نايت لاين" (nightline) وبرنامج الصحافي الأميركي الشهير تشارلي روز، وبرامج قناة "بي بي سي" (BBC). كما درّس الأدب في جامعة كولومبيا، وقد راوح في أعماله بين الكتابات الموجهة للنخبة وتلك الموجهة لعامة الناس.

في فصول الكتاب التي تحمل عناوين مثل "قبل أوسلو" و"من سايغون إلى فلسطين" و"العالم الثالث يتكلم" و"شعبان في أرض واحدة"، يسرد برينان المزيد من تفاصيل انغماس سعيد في الشأن الفلسطيني، سواء عبر المقالات أو المشاركات على وسائل الإعلام ومنظمة التحرير والحوار مع الخارجية الأميركية.

وفي الخلاصة، يرى شاهين أن تلك السيرة الثقافية لإدوارد سعيد ألقت الضوء على سيرة سعيد المعنونة "خارج المكان" وأضاءت كثيراً من الأماكن، وملأت الفراغ الذي كان سعيد ينوي سده بكتابة جزء ثانٍ من سيرته الذاتية، وكأن تيموثي برينان "أخذ على عاتقه أن يشارك صاحب السيرة في كتابة ما حالت الظروف دون إنجازه عندما كان على قيد الحياة".

تكمن أهمية كتاب "إدوارد سعيد.. أماكن الفكر" من خلال أربعة أشياء، الأول هو أن المؤلف هو تلميذ نجيب لسعيد ومقرب منه، وهو أحد الطلبة السابقين له في جامعة كولومبيا منذ عام 1980. وحفظ السيرة بتفاصيلها وحفظ الجميل بكل إخلاص. فقد تطوّرت بينهما صداقة حنى تماهت آراء برينان وكتاباته مع آراء وكتابات سعيد، خاصة في ميادين الدراسات العالمثالثية ودراسات ما بعد الاستعمار.

وبرينان اليوم هو أستاذ الأدب المقارن في جامعة مينيسوتا الأميركية وقد كتب كثيراً عن الأدب المقارن والنظرية الثقافية. ومؤلفاته  تستوحي الكثير من مناهج سعيد وتنظيراته ومقارباته. 

والثاني أن عائلة سعيد وأصدقاءه وتلاميذه وخصومه ومحرريه وزملاءه في الجامعة والنقاد والفلاسفة والمفكرين الذين تواصل معهم من حوارات أجراها المؤلف مع من عرفوا سعيد في أكثر من مائة مقابلة، مكنته من الوصول إلى مصادر وأوراق ومسودات ومراسلات كثيرة تركها سعيد بعد وفاته، وجعلها متاحة له. 

والثالث هو أن المؤلف استفاد من سجلات مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي.  فيقتبس برينان تقييم ملفات مكتب التحقيقات الفيدرالي لسعيد، حيث يذكر أنّ عملاء المكتب مالوا إلى تصنيف سعيد، فلسطيني الأصل في كلّ حال، تحت خانة الإرهاب؛ بل ذهب كاتب أحد التقارير إلى الافتراض بأنّ سعيد (من وحي أجواء حروب الكونترا يومذاك) لا بدّ أن يحمل إسماً لاتيني الصياغة، فاختار له هذا: "إدواردو سعيد، الملّقب إد سعيد". والطريف أنّ عملاء المكتب قلّبوا صفحات كتب سعيد، وقرأوا مقالاته في صحيفة "نيويورك تايمز" وحملت تقاريرهم الانطباع بأنّ كتاباته جديرة بالاهتمام، وأنه "كاتب موهوب" ذو "بتسامة لافتة وصوت ناعم" وأعماله «ترجمت إلى ثماني لغات".

والرابع – حسبما تذكر الروائية المصرية أهداف سويف - أنه لا بد من أن برينان تفحّص عن قرب أرشيف سعيد في جامعة كولومبيا التي درّس فيها طوال مسيرته العملية.

يؤكدُ برينان منذ البدء رؤية سعيد في أن المثقفين المتفكرين في موضوعات الثقافة في نهاية المطاف أكثر أهمية من المؤلفين (كتاب الروايات والأشعار)، فهم (المثقفون) القادرون الوحيدون على تغيير برامج العمل (الأجندات) وبالتالي تغيير العالم.

وقد اعتبرت "نيويورك تايمز" أن كتاب "أماكن الفكر" يساهم في الاعتراف بالمفكر الراحل سعيد كواحد من طبقة المفكرين البارزين، أمثال كارل ماركس وسيغموند فرويد وجاك دريدا وميشيل فوكو ونعوم تشومسكي.

بيد أن التركيبة الفلسفية والنفسية الاجتماعية طاغية على محتوى كتاب برينان، حيث أن برينان يخاطب على ما يبدو الأشخاص في مجالات خبرته، وليس كتابه موجهاً إلى قارئ عادي متحمس وفضول. وقد أشار برينان في مقدمة كتابه إلى أنه عبارة عن "سيرة فكرية"، وهو جنس أدبي مختلف. إذ يعتبر كتاب برينان أشبه بكتاب إرشادي لعالم إدوارد سعيد، فكتابه خريطة لأفكار واحد من أعظم العقول في القرن العشرين.   

يشير شاهين إلى أن أمنية الناقد البريطاني باتريك بارندر بأن يجد إدوارد سعيد من يكتب سيرة له تثري السيرة الذاتية التي قدمها إدوارد سعيد بعنوان "خارج المكان" وتزيدها جمالاً. وها هي قد تحققت.

فالقارئ للكتاب سيكتشف أن كتاب "إدوارد سعيد.. أماكن الفكر" هو سيرة فكرية لسعيد، كما كان كتابه "خارج المكان" هي سيرة شخصية له صدرت ترجمتها عن دار الاَداب في بيروت عام 2000، وترجمها فواز طرابلسي، وهي ترجمة أنيقة كما وصفها إدوارد فى تقديم خاص بالترجمة العربية: كما وصفها باتريك بارندر بأنها خير سيرة ذاتية كتبها سعيد وقرأها في حياته.

يقول محمد شاهين: لقد ألقت فصول هذا الكتاب الجديد الضوء على سيرة إدوارد سعيد فى كتابه "خارج المكان" وأضاءت الكثير من الأماكن التى كانت بحاجة إلى مزيد من الإضاءة، وفي الوقت نفسه، ملأت الفراغ الذى كان إدوارد ينوي ملأه بكتابة جزء ثانٍ من السيرة. وكأن تيموثي برينان أخذ على عاتقه أن يشارك صاحب السيرة في كتابة ما حالت الظروف دون إنجازه عندما كان على قيد الحياة.

ولهذا لا نبالغ إذا ما اعتبرنا كتاب برينان بمثابة الجزء الثاني من كتاب "خارج المكان"، أو مجرد تأويل جديد لمذكراته "خارج المكان"، حيث تعامل برينان معها وكأنه يعيد قراءة كتاب "خارج المكان"، ولكن عبر مصادرها الأساسية وليس حسب راويها الأصلي، من خلال الوثائق التي خلفها سعيد.

تحولت سيرة سعيد المهنية إلى أسطورة، حين انهالت عليه الجوائز من العالم الأكاديمي، بعد أن افتتح حقولاً للبحث غيَّرت ملامح الحياة الجامعية. ابتكر مفردات جديدة، وقائمة جديدة بأسماء الأبطال، وجعل بمفرده تقريباً الموقف الصهيوني موقفاً يخلو من القداسة. وصار انتقاده محترماً، بل صار موقفاً ذا شعبية لدى العديد من الدوائر.

لم يعد اليوم "انتصار الصهيونية شبه التام"- كما يسميها إدوارد سعيد من الأمور المسلم بها، والفضل في هذا التحول بحسب مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، "يرجع بدرجة كبيرة إلى الإرث الذي تركه إدوارد سعيد. وهنا فقط سجّل سعيد أعظم انتصاراته بفضل جزالة منطقه، حتى أن لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) التي تمثل اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، حذرت أنصارها من أن التصدي لسعيد "سيجعلك تبدو سيئاً ليس إلا".

يوضح برينان في كتابه أن "عمل سعيد السياسي وجد متكأه في النقد الأدبي"،  لأن سعيد حلّل وحرّر وساعد في ترجمة العديد من النصوص الخاصة بالحراك الفلسطيني في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بما في ذلك أول خطاب ألقاه الزعيم ياسر عرفات أمام الأمم المتحدة في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1974. فقد كان لسعيد دور شخصي مباشر في تحرير خطاب عرفات، مع وليد الخالدي وصلاح دباغ ومحمود درويش وبيان الحوت وهدى عسيران ورندة خالدي فتال. ثمّ الإضافات الحاسمة التي اقترحها على سبيل حُسْن مخاطبة الرأي العام الأميركي، وبينها الخاتمة الشهيرة: "جئتكم بغصن الزيتون في يدي، وببندقية الثائر في يدي، فلا تُسقطوا الغصن الأخضر من يدي". ولم تكن هذه التحولات دون أخطار مباشرة، وجسيمة، خاصة خلال سبعينيات القرن العشرين وفي ذروة الحرب الأهلية اللبنانية، إذْ نجا ذات يوم من حادثة سيارة ملغومة؛ كما تعرض إلى حملة شعواء، فلسطينية هذه المرّة، على صفحات مجلة "الهدف" الفلسطينية.

وفي كولومبيا، حيث بدأ التدريس عام 1963، كان سعيد من أفضل المعلمين الذين درّسوا هناك على الإطلاق. قال عنه رئيس جامعة كولومبيا في حفل تكريمه: حينما أذهب لأي مكان قائلاً أنا رئيس جامعة كولومبيا، يقولون لي انت رئيس الجامعة التي فيها إدوارد سعيد. لقد صارت الجامعة تُعرف به، ولا يُعرف هو بها ... وإنه شرف لهذه الجامعة.

وقد تلقى سعيد  تهديدات بالقتل، حتى أنه ألقيت قنابل حارقة على مكتبه، وبحسب برينان أنه "باستثناء مكتب رئيس جامعة كولومبيا، كان مكتب سعيد هو الوحيد المجهّز بنوافذ مضادة للرصاص وجرس إنذار يرسل إشارة مباشرة إلى أمن الحرم الجامعي".

كان سعيد عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني ما بين 1977 و1991، لكنه استقال بسبب معارضته الشديدة لبعض مواقف الراحل ياسر عرفات، كما رفض اتفاقيات أوسلو التي كان يعتقد أنها صفقة خاسرة للفلسطينيين. وقد تسبب هذا الموقف في خلاف "مرير" بين سعيد وعرفات، إلا أن آخرين في القيادة الفلسطينية -من بينهم السياسية والكاتبة حنان عشراوي- عادوا واتفقوا مع كثير من مواقفه.

في عام 1991، علم سعيد أنه مصاب بسرطان ابيضاض الدم الليمفاوي المزمن، والذي من المرجح أن يكون قد تسبب في موته بعد 12 عاما. ولكنه عاش طويلاً بما يكفي للتنديد بقانون باتريوت (مكافحة الإرهاب) الذي صدر في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وأطلق على هذا التشريع اسم "إضفاء الطابع الإسرائيلي على السياسة الأميركية".