أغنية "الراي".. رأيٌ يطرق باب الخلود
من أشعار شعبية محكية إلى تراث إنساني أدرجته منظمة "اليونيسكو" على قائمتها. كيف نشأت أغنية "الراي"؟ وما هي العوامل التي ساهمت في انتشارها العالمي؟
"يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتولي"، "عبد القادر يا بو علم ضاق الحال عليا"، "عايشة"، "ديدي"... ومثلها الكثير من الأغاني الجزائرية التي لم يَحُل إيغالها في الأصالة والمحلية من انتشارها عالمياً، على الرغم من صعوبة فهم بعض مصطلحات اللهجة الجزائرية المحلية بالنسبة لمَن هم مِن خارج منطقة المغرب العربي.
قِلّة من المعجبين بهذا اللون الغنائي تعرف أنّ اسمه "الراي"، وأنّه أخذ هذا الاسم من غاية وجوده الأساسية، وهي التعبير عن الرأي بكل حرية وعفوية.
ولعلّ من البدهي أنّ شعباً كالشعب الجزائري، قدّم مليوناً من الشهداء في سبيل تحرّره من المستعمر الفرنسي، قادرٌ على خلق هذا اللون الغنائي، الذي ناضل بدوره من أجل بقائه وتجدّده، على الرغم من أنواع التهديدات الوجودية العديدة التي واجهته، الداخلية منها والخارجية.
فقد عانى "الراي" في بداية نشأته بشكله المعروف حالياً من تهديدات عدّة، كفيلة بمحوه من الوجود تماماً. غير أنّ ارتباطه الوثيق بأعمق كوامن نفس الإنسان الجزائري، بما تحويه من آلام ورغبات وأفكار وحكمة، جعله شبيهاً بأعشاب البوادي التي وُلِدَ فيها، بكلِّ جمالها وعنادها وجرأتها، فكان حارس الثقافة الأمين، القوي والجريء، كما كان وسيلة التأريخ الشعبي الأقوى، لتوثيق تاريخ وآمال وآلام وثقافة شعب تلك المنطقة. تعرّض "الراي" لتهديدِ الذين تقمّصوا أيّ أغنية دخيلة على خصوصية الجزائر، كالأغاني التي حاولت تقليد الأغنية المصرية أو الفرنسية بشكل ساذج، وربما مشبوه. كما عانى من قمع السلطات الهَلِعة من جرأة "الراي" ولسعات سوطه، التي طالت الفاسدين والقمعيين وتجار الدماء، كما طالت أيضاً المستعمر الفرنسي والمتعاملين معه.
غير أنّ التهديد الأشرس له، والذي أدّى إلى استجابة وجودية مقاوِمة أثّرت في مصيره، جاء من الإرهاب الذي ابتليت به الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، كما سيتضح لاحقاً.
ولكن، على الرغم من كلِّ تلك التهديدات الخطيرة، انتصر "الراي" الجزائري أخيراً، ووصل مطلع الشهر الجاري إلى قائمة منظمة "اليونيسكو" للتراث الإنساني اللامادي، بعد رحلة نضال مريرة تركت الكثير من الجروح والندوب في جسده. فكيف حدث ذلك؟
نشأة "الراي".. الخطوة الأولى
وُلد "الراي" في كنف "الغيوان"، وهو نوعٌ من الشعر الشعبي المحكي، الذي انتشر في الصحراء الغربية في القرن الـ18. ويتضمّن "الغيوان" لوناً آخر يسمى "الملحون"، الذي يُعتبر السكة التي سار عليها قطار "الراي" القادم من أعماق نفس ابن الصحراء، ليتّجه بعد ذلك إلى الخلود، عبر نصوص شعرية انتهجت "زرع" الأبيات وتوالدها بطريقة ارتجالية، معتمدة في ذلك على براعة الشاعر وحكمته.
وصلت تلك الأشعار إلى الحواضر المنتشرة على الحدود بين المغرب والجزائر، كمدينة وهران الجزائرية ومدينة وجدة المغربية. وكان الأمر في البداية لا يتعدّى ترديد تلك الأشعار المحكية بمرافقة النقر الإيقاعي.
غير أنّ وصول هذه الأشعار إلى الحواضر، أدّى إلى تطوير الآلات الموسيقية المستعملة في العزف المتزامن مع ترديدها، فكانت البداية مع القصبة (التسمية المحلية لآلة الناي)، والربابة، بمرافقة آلات إيقاعية محلية، ثم دخلت الآلات الموسيقية المختلفة إلى حفلات "الراي"، كالأكورديون والأورغ والكمان والعود والغيتار.
وانتشر "الراي" في كلّ أرجاء الجزائر والمغرب، وصار له "شيوخ" يغنّونه في الأعراس والمناسبات الدينية، كما صار له "شيخات" أيضاً، مثل "الشيخة الريميتي" (سعيدة بوضياف 1923 - 2006)، التي كانت عَلَماً من أعلام المجتمع النسوي الجزائري. ومع تطوّر "الراي" أصبح مغنّوه يطلقون على أنفسهم لقب "شاب" و"شابة"، بدلاً من "شيخ" و"شيخة"، لتمييز أنفسهم عن الشيوخ المؤسِّسين.
الخطوة الثانية نحو العالمية
كان للفنان لطفي العطّار، وهو عازف غيتار وملحّن ومغنٍّ، قصب السبق في إنجاز الخطوة الأهم نحو العالمية، إذ أسَّس فرقة "راينا راي" في فرنسا، وأضاف إلى "الراي" آلات عصرية اجتذبت روح الشباب، فصار ينافس "الراب" و"البوب" في الساحات العامة والحفلات، وبدأ الفنانون يلحّنون النصوص القديمة، ويؤلفون نصوصاً جديدة.
نوافذ الريح
من نافذة الكلمة اقتحمت رياح الانحطاط بيت "الراي"، إذ سجّل مستوى الكلمات هبوطاً ملحوظاً، وصل إلى درجة البذاءة التي تفصلها شعرة رفيعة عن جرأةٍ تميزت بها كلمات "الراي" الأصيل. إذ أقبل على تأليف أشعار "الراي" كل من حاول كسب المال في ظروف سنوات الاستعمار، مستغلِّين انتشاره الكبير ومحبة الناس له.
وهذا بالتحديد ما قامت الفئة المستبِدّة باستغلاله لإيقاف انتشار "الراي"، كما قامت الحركات الإرهابية باعتباره حجة لمهاجمة هذا الفن وأصحابه، وقد وصل الأمر مع هذه الجماعات إلى حدِّ اغتيال شاب حسني في مدينة وهران، وهو أحد أشهر مغنّي "الراي" آنذاك.
وكان لهذا الحدث الأثر الأكبر على مسيرة "الراي"، لأنّه دفع الكثيرين من فناني تلك الفترة للهرب إلى فرنسا. وهناك بدأ الحنين إلى الوطن بدفع أولئك الشباب إلى التأليف والتلحين والغناء، على اعتبار أنّ "الراي" واحد من الرموز الوطنية الجزائرية، فاشتهر من بينهم "الشاب خالد" و"الشاب مامي"، اللذين كان لهما الدور الأكبر في نشر "الراي" في العالم، إلى درجة أنّ القاموس اللغوي الفرنسي (لاروس) أدرج كلمة "الراي" في صفحاته في العام 1998.
ندبة في وجه "الراي" الجميل
لا شكّ أنّ احتواء نصوص "الراي" على مفردات، بل جمل فرنسية، شكّل إحدى الندبات التي شوّهت وجهه الأصيل والجميل، حيث أبت حراب "الفرْنَسة" التي اتّبعها الاستعمار الفرنسي إلا أن تترك آثار جراحها في وجه الثقافة الجزائرية.
من المؤكّد أنّ سجلّات "اليونيسكو" حسمت جدلاً واسعاً حول انتماء "الراي" إلى الجزائر أو المغرب، لكنّها من ناحية أخرى تضمنت توثيقاً مشبوهاً للتفرقة بين شعبين لهما ثقافة واحدة، ولغة واحدة، وهموم مشتركة، عبّر عنها "الراي" بكلِّ أمانة وصدق وجمال، لم تشوهه إلا محاولات نسبه بشكل غريب إلى جزء من شعب، يفصله حدٌّ مصطنع عن شريكه في خلق هذا الفن.