أصول العنف وكيفية منع حدوث الإبادة (2-2)
الحرب المدمرة بين البشر تتطلب تكيفات مُسبقةً يمتلكها الشمبانزي كالخوف المتأصل من الغرباء أو كراهيتهم كما أظهرت ذلك هجمات الشمبانزي الشرسة ضدّهم.
كتاب "أصول العنف: الدين والتاريخ والإبادة" للباحث الأسترالي جون دوكر يغطي تاريخ الإبادة في المجتمع الحيواني والإنساني. ويوظف مفهوم الإبادة عند المؤرخ رافائيل لمكن. في الجزء الثاني من المراجعة سنتناول كيفية منع الإبادة الجماعية، بحسب الكتاب.
كانت تصوّراتُ لَمْكن المتعلقة بالإنسانية والإبادة ذات حدين، فهي متفائلة ومتشائمة. فهو لم ينظر إلى التاريخ البشري بوصفه سرداً للتقدم مذ رأى الإبادة صنواً للتقدم على مرّ التاريخ. ولكنه آمل، على الرغم من ذلك، بقدرة القانون الدولي على منع الإبادة أو الحيلولة دون حدوثها. يجدر بنا أن نُذكّر أنفسنا في هذه المرحلة بالفقرات الرئيسة الخاصة بتعريف الإبادة التي وردت في المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948: في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
(أ) قتل أعضاء من الجماعة،
(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطر بأعضاء من الجماعة.
جين كودال- والإبادة بين عالم الثدييات
تٌلاقي بصيرةُ جين كورال مع لَمْكِن في التاريخ الإنساني، ومفادها أن الإبادة بين الجماعات، ومثلها جرائم القتل بين الأفراد قد حدثت في الماضي، ويحتمل أن تستمر في الحدوث، تُلاقي سنداً لها في عالم الثدييات الذي يهتم بالأسلاف المشتركة بين البشر والثدييات الأخرى. كما جاء في كتاب جین كودال بعنوان - شمبانزيو كومبي الصادر عام 1986، الذي تُذكر فيه الإبادة. ولكن يبدو أن كودال أكثر اهتماماً بقضية الحرب وعلاقتها بالنشاطات والتفكير عند الشمبانزي الذي لا يُطارد حيوانات الشمبانزي المتطفلة فحسب، بل يعتدي عليها، وأحياناً يتسبّب بقتلها؛ وقد يشن غارات عدوانية في قلب منطقة المجموعة المجاورة، ولقد شهدت كودال، كما شهد علماء آخرون في دراساتهم التي شملت مناطق شاسعة، ليس في كومبي بل في معظم أفريقيا ، أن هناك ثلاثَ غزواتٍ كبيرة، قُتل أو اختفى فيها ذكور بالغة وبضع إناث.
يشير المؤلف الى أن كودال تطرح سؤالاً افتراضياً، هل يمكننا رؤية عدوان عنيف مثل هذا الذي يحدث بين أفراد المجموعة مقدّمة للحرب؟ وتضيفُ بأن الحرب، كما تُعرّفُ عادة، هي سلوك بشري فريد، وهي خصيصةٌ تتميّز بها المجموعات البشرية، وتشمل نزاعاً مسلحاً ومنظماً. في هذه النقطة، تذكرُ كودال مصطلح «الإبادة»: لأن الحرب بين البشر تضمنت تدميراً جماعياً شمل مجموعات دون أخرى، لقد أصبحت جزءاً من التطوّر، ومن «الانتخاب الطبيعي للمجموعة». تشير كودال كذلك إلى الكتابات التخمينية التي تفترض وجود الأشكال الحربية الأولى عند القردة التي تُطلق عليها تسمية "المحاربين الأوائل" هذه الأشكال ذات أهمية كبيرة في تطوير مزايا إنسانية ثمينة، مثل الإيثار والشجاعة والذكاء والتعاون المتزايد والبالغ التعقيد بين أفراد المجموعة الواحدة، وهي مزايا على المجاميع الأخرى مضاهاتها إذا أرادت البقاء. ربما سبّبت الحرب، وفقاً لهذا الفكر التطوري الذي خلق الفجوة الهائلة بين الدماغ البشري ودماغ أقرب الحيوانات إلينا، ألا وهي أشباه الإنسان.
لا توافق كودال فكرة تفرّد البشر في شنّ الحروب، أو هي تودّ على الأقل توسيعها. فهي تشير إلى أن الحرب المدمرة بين البشر تتطلب تكيفات مُسبقةً يمتلكها الشمبانزي أيضاً، ولا تقتصر هذه التكيفات على الخوف المتأصل من الغرباء أو كراهيتهم كما أظهرت ذلك هجمات الشمبانزي الشرسة ضدّهم فحسب، بل تتعداه إلى الحياة المشتركة، ونزعة التمسك بالموطن، ومهارات الصيد التعاونية، واستعمال السلاح، والقابلية الذهنية للمشاركة في وضع الخطط. وتواصل كودال، يُظهرُ الشمبانزي كذلك «خصائص متأصلة» أخرى كانت نافعة «للمُحاربين الأوائل في معاركهم البدائية»؛ فلدى الشمبانزي الفتي «نزوعٌ طبيعيٌ لأن يجد الاعتداء جذاباً»، إلى حد المجازفة بالتحرّش بجيران خطرين بمفرده وتشعر كودال وباستعمال المفردات نفسها، باحتمال وجود النزوع المتأصل لدى ذكور البشرية الأوائل في سعيهم نحو الاعتداء أو استمتاعهم به، وهي خصلة مشتركة بين الإنسان والشمبانزي لعلّها هي التي «وفرت الأسس الحيوية لثقافة تدريب المحاربين» كما تظهرُ لاحقاً في تمجيد المحارب أو الجندي، وذم الجبن، ومكافأة الإقدام والمهارات العسكرية، وممارسة ما يسمّى الرياضة الرجولية في أثناء الطفولة. مع ذلك تؤكد وصول الشمبانزي إلى مرحلة جعلته «يصل إلى مستوى الاقتراف الإنساني نفسه لأعمال التدمير والوحشيّة والنزاع الجماعي المنظم».
جارد دَيْمَنْد وجذور الإبادة في الفكر الجمعي
تلاقي فكرةُ لَمْكِنْ عن كون الإبادة مظهراً متواصلاً من مظاهر التاريخ الإنساني سنداً في كتاب جارِد دَيْمَنْدْ بعنوان «صعود الشمبانزي الثالث وسقوطه (1991)». فهو يرسّخ في كتابه بأبيض وأسود، تكرار الإبادة وانتشارها خاصة في الجرائم التي اقترفها الاستعمار ضد الأبورجينيين في تسمانيا وفي أستراليا عموماً، وضد الأميركيين الأصليين في الولايات المتحدة.
لذا لا يرى جارد دَيْمَند طريقةً بسيطةً لتعريف الإبادة، ولكنّه يجادل في أن «جوهرها «هو» القتل الجمعي». وليس من الضرورة أن تكون الدولة هي الموجّهة لجرائم الإبادة لأن صياغة مثل هذه تستلزم اعتبار الإبادة ظاهرة حديثة تماماً. الأصح القول، يواصل دَيْمَند، بأن الإبادة بين الجماعات البشرية قد بدأت منذ ملايين السنين حين كان الإنسان مجرد حيوان ثديي ضخم. وهو يعتقد أن الدافع الأكثر شيوعاً لارتكاب جرائم الإبادة تاريخياً يحدث في أثناء النزاعات حول المجال الحيوي lebensraum، «عندما يحاول شعب قوي عسكرياً احتلال أرض شعب أضعف منه، ولكن الشعب الأخير يقاوم هذا الاحتلال».
الإبادة متأصلة منذ العالم القديم
أمّا الباحثة حنّة أرندت، آیشمان، فتقول إن المجازر الجماعية ليست نادرة الحدوث. فلقد كانت سائدة في العالم القديم، وتُقدّمُ قرون من الاستعمار والإمبريالية أمثلة عديدة على المحاولات الفاشلة أو الناجحة في ارتكابها، وأن الإبادة «هي ديدن العالم القديم»، وبخاصة عندما تسقط مدينة بعد مقاومة الحصار المفروض عليها، لأن ذلك يعني قتل كلّ الرجال القادرين على القتال وعزل النساء عن الأطفال، ومن ثم استعبادهم، واستعمار المنتصرين للمدينة المهزومة. فالإبادة حدثت في العالم الكلاسيكي القديم في أثناء الحرب والغزو والتوسع الإمبراطوري والاستعمار وكذلك في الحرب الأهلية التي يُقتل فيها كل الذين يُشتبه في كونهم أعداء سياسيين، في وقت استبعدت الإبادة السياسية من اتفاقية الإبادة التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1948.
نماذج من الإبادة في الحرب البيلوبونيزية
في عام 427، وقعت الحرب الأهليّة في كورسيرا بين الأطراف الديمقراطية والأوليغاركية، حيث يتوسل كل طرف إلى أثينا أو إسبارطة، كجزء من نمط النزاع الأهلي في الحرب البيلوبونيزية عموماً. وكما يعلّق ثوسِّدديس في تاريخه، يمتلك قادة هذه الأطراف، في مدينة مثل كورسيرا، برامج تنافسية مثيرة للإعجاب ظاهرياً: «فعلى جانب هناك المساواة السياسية بين الجماهير، أما على الجانب الآخر، فحكومة الطبقة الأرستقراطية الآمنة والسليمة». ولكن يشوبُ هذه البرامج سريعاً، حب السلطة والجشع والطمع الشخصي، ويُتبع بالتعصب العنيف عندما يندلع الصراع، مع ما يصاحبه من سحق للمواطنين الذي يؤمنون بوجهات نظر معتدلة، يمثل تدمير طروادة، الاختفاء الناتج عن إبادة حضارة من حضارات العالم، وخسارة للإنسانية، وتقليصاً لتراثها، واعتداء على الإنسانية نفسها.
جمهورية أفلاطون
قدمت جمهورية أفلاطون للتاريخ العالمي مدينة فاضلة مهمة، شكلت تحدياً دائماً وأثّرت تأثيراً مستمراً. تتقصى الجمهورية مسائل ذات اهتمام دائم عند الإنسانية مثل: الخلود وتناسخ الأرواح، من هو المؤهل المثالي لحكم المجتمع، ما فكرتنا عن الجماهير، ما علاقة الرجل بالمرأة، ما أفضل شكل للحكومة الديمقراطي أم الملكي. وهناك أيضاً الأمثال (parable) الرائعة: الشمس، والخط المُقسّم، والكهف. الجمهورية نص خلافي خاصة في نظرتها التي تقول: إن الدولة المثالية يجب أن يحكمها الأمناء، وهم نخبة من الحكام الفلاسفة، وهم من ذوي النسل المحسّن الذين نُشِّئوا ليُثَقَّفوا وليصبحوا أكثر خبرة من أي إمرئ آخر، وهم الذين عدوا أنفسهم متفوقين بهامش كبير جداً على الدهماء في التاريخ.
جمهورية شيشرون
على النقيض من جمهورية أفلاطون، فإن جمهورية شيشرون، هي أكثر رصانة في أفكاره، وكذلك هو أكثر تعددية أصوات وأكثر طباقاً في تجاور مواقفه إزاء مسائل أساسية، وخصوصاً فيما يتعلق بالاحترام الذي على الإنسانية إظهاره لتأسيس الإمبراطوريات وإدارتها.
علم الضحية في السرديات القديمة والحديثة
ومن أجل تقصي هذه الأسئلة تناول المؤلف قصة الخروج التوراتية وإنيادة فرجيل لتماثلهما السردي والأخلاقي، ولكونهما من أبرع السرديات التي تتناول علم الضحية وأكثرها تأثيراً في تاريخ العالم. أعني بسرديات علم الضحية، هو الاعتقاد بأن حالات العبودية والاضطهاد والمعاناة السابقة تُبرِّرُ أعمال العنف والغزو والتدمير اللاحقة. تُمثل في اشتغالها وتلقيها وتداخلها التدريجي في التاريخ الغربي كارثةً أخلاقية ذات عواقب وخيمة جداً على الإنسانية جمعاء، وخصوصاً على الشعوب الأصلية أو الشعوب التي تسكن أرضاً يطمع فيها الآخرون لكونها مختارة وموعودة.
علم الضحيّة والعنف الإبادي: سفر الخروج والإنيادة إن التشابهات السردية بين هاتين القصتين الأسطوريتين مُذهلة. فسِفْرُ الخروج والإنيادة يرويان الحكاية المرعبة لشعبين تعرّض وجودهما التاريخي الطويل في بلدهما الأصلي للدمار، من قبل الفرعون في مصر بالنسبة إلى بني إسرائيل، ومن قبل الإغريق في طروادة بقيادة أجاممنون ويولسيس بالنسبة إلى الطرواديين، ويُعد يولسيس رمزاً للكراهية.
يُعطي سفر يوشع انطباعاً بأن يوشع وجيشه نجحا في سحق ملوك كنعان والاستيلاء على مدنهم وأراضيهم، يقدّمُ سِفْر القضاة صورةً مختلفة. ففيه لم يُطرد الكنعانيون من بعض المدن، وفي بعض المناطق لم يستطع بنو إسرائيل إخراجهم من الوادي فنجا الكنعانيون في مناطق متعدّدة وعاشوا إلى جانب بني إسرائيل. وبعد موت يوشع قام بنو يهوذا بقتل عدد من الكنعانيين والفريسيين، وكما دمّر الإغريق طروادة، دمّروا أورشليم: «وهاجم بنو يهوذا أورشليم، واستولوا عليها، وضربوها بحد السيف، وأشعلوا فيها الحرائق». ولكن الغزو لم يكتمل بعد. لذا أعان الربّ بني يهوذا لإخراج سكان الجبال، ولكنهم لم يتمكنوا من طرد سكان الوادي. عندما اشتدت «قوّة» بني إسرائيل في البلاد الجديدة، فرضوا على الكنعانيين (السكان الأصليين في فلسطين وبلاد الشام ) أعمال السُّخْرَة ولم يطردوهم»، وأصبح بنو أشير والأموريون عمّالاً سخرة أيضاً. فبدلاً من تصفية الكنعانيين كما حدث في سفر يوشع، جرى إخضاعهم وتحويلهم إلى عمّال سُخرة، أو إلى حال مشابهة للعبودية.
يختتم المؤلف سرديته التاريخية، تُبرّر "إسرائيل" الصهيونية المُعاصرة، في منتصف القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين في ضوء قصص الكتاب المقدس، فتُمثل مزيجاً قلقاً ومضطرباً لكلا إجرائي الإبادة كما يصفهما لَمْكن، وهذا ما يفسر وصول الباحثين المعاصرين لأسباب متنوعة من خلالها ويصفون "دولة إسرائيل" الحديثة، دولة إبادة أو في طريقها إلى أن تُصبح كذلك. يطلقُ باروخ كيمَرْلِنغ تسمية «الإبادة السياسية» حين يتحدث عن تدمير حياة الفلسطينيين السياسية الوطنية. لقد ذكرتُ تعريف لَمْكِنْ الوارد في كتاب حكم المحور الذي يربط بين الإبادة والاستعمار، وذلك للإشارة الى أن إسرائيل مستوطنة استعمارية إباديّة، تسعى لخفض عدد السكان الفلسطينيين وتبديلهم بمستوطنين إن استطاعت. لذا أطلق إيلان بابيه مصطلحات مثل التطهير العرقي والإبادة المدينية، وإبادة الذاكرة عندما وصف محاولة "إسرائيل" المتواصلة سحق المجتمع الفلسطيني وهويته.
وبطريقة مشابهة فبنو إسرائيل في القصص التوارتية، الذين عانوا الاضطهاد والظلم في مصر، لم يعزموا على وجوب نبذهم للعنف والاضطهاد والظلم في علاقتهم بالشعوب الأخرى، كما حدث في أرض كنعان ويتكرّر هذا على نحو مماثل مع الصهيونية المعاصرة. فالصهاينة الذين أسّسوا دولة إسرائيل الحديثة عام 1948 وسيطروا منذ ذلك الوقت على تفكير المنظمات والجاليات اليهودية في جميع أرجاء العالم، لم يتعلّموا درساً تاريخياً من الهولوكوست، وهو أن على الشعوب المختلفة أن تتعايش وتتشارك سياسياً ويتعلّم بعضها من بعض، وأن تكون كونية وعالمية. ولم يعيروا اللاعنف أي اهتمام، كما عند غاندي، أو جوزيفوس، في تراثهم اليهودي.
إقرأ الجزء الأول: أصول العنف والعلاقة بين الإبادة والاستعمار