أصول العنف والعلاقة بين الإبادة والاستعمار (1-2)
يناقش الكتاب العنف والإبادة، ويسائلهما بوصفهما من مكوّنات الشرط الإنساني منذ العصور السحيقة.
كتاب "أصول العنف: الدين والتاريخ والإبادة" للباحث الأسترالي جون دوكر، هو أول كتاب شامل عن الإبادة يغطي تاريخه في المجتمع الحيواني والإنساني. ويوظف مفهوم الإبادة عند المؤرخ رافائيل لمكن، وينحو به إلى أن يكون دراسة ثقافية تتناول الإبادة في الكتابة التاريخية (هيرودوت وثوسِّدِديس)، والأدب والأسطورة عند الإغريق والرومان (هوميروس، فرجيل، إسخيلوس وآخرين)، والفلسفة (أفلاطون، شيشرون)، والنصوص الدينية (التوراة)، والمسرح العاصفة لشكسبير وموضوعة الاستعمار النبيل والفكر الاستعماري وعصر التنوير وينتهي بالفلسفة الحديثة والمعاصرة (سبينوزا تولاند، هيوم ليوتار، دولوز).
وقد بذل المترجم علي مزهر جهداً كبيراً في ترجمة هذا الكتاب المتنوّع المصادر الى العربية.
يكشف الكتاب استياء المؤلف من كثير من البحوث المعاصرة، التي في سعت لتفسير ظواهر مثل العنف الجماعي والاستعمار والغزو والإمبراطورية والإبادة، ولا تتوغل عميقاً في التاريخ. وتسعى وراء التفسيرات التي تهتم بالطبيعة، أو في الإمبراطوريات الأوروبية في القرن التاسع عشر التي تفسّر لنا حدوث ظواهر مثل العنف الجماعي أو اتخاذها الشكل الذي تتخذه أو سبب بروزها الكبير وانتشارها.
ترجمة الكتاب صادرة عن جامعة الكوفة، والكتاب في تسعة فصول من القطع الوسط.
التناغم بين الإنسان والتدييات
السؤال الذي ألقى بظلاله على تفكير المؤلف في هذه الكتاب هو: ما هي العلاقة بين القديم والحديث؟ هل ثمة نزعات مسبقة وميول وإمكانيات تعود إلى الثدييات وتستمر بوسائل وأشكال عديدة وتفاعلات لها في مستقبل التاريخ البشري كله؟ وكيف يتسنّى للمرء أن يتأمل إمكانية وجود مثل هذه الميزات البشرية الثابتة من دون أن يكون حتمياً؟
لذلك يميل المزاج التاريخي للتوحيدية إلى المشاكسة واللجوء الكامن للعنف، طامحاً أو محاولاً استبعاد واضطهاد ومعاقبة ومحو العالم غير التوحيدي.
أما بالتعرّف على القواسم المشتركة بين التعددية والتوحيد، واستكشافها حين يبرران العنف الناشب بين الجماعة الواحدة.
ويركز الكاتب على دراسة ظاهرة الإبادة، وخصوصاً دراسات الإبادة الجديدة المبتكرة والمبدعة التي تطوّرت في أواخر 1990 فصاعداً. حيت لا تطمح هذه الدراسات الى أن تُحدّد بتعريف ضيق أو حصري للإبادة. بل لها اهتمام متجدد بفكر «مؤسس» دراسات الإبادة رفائيل لمكن، الذي اشتق المصطلح في العام 1944، ورأى في دراساته المنشورة وغير المنشورة، توسيع نطاق المفهوم ليستوعب العمليات الطويلة مثل الاستعمار، بالإضافة إلى الأحداث أو الأعمال أو الوقائع الكارثية (التي هي جزء من الاستعمار).
تسعى «دراسات الإبادة الجديدة» كي تكون مُقارنة لاستكشاف العلاقات بين الإبادة وظروف الاستعمار الاستيطاني في تاريخ العالم، وأن تكون منفتحة على مقتربات ومنظورات جديدة.
العنف والإبادة بين الجماعات
يناقش الكتاب العنف والإبادة، ويسائلهما بوصفهما من مكوّنات الشرط الإنساني منذ العصور السحيقة. ولا يركّز على العنف بين الأفراد بل على العنف بين الجماعات. وهدفه هو أن يعرضَ ويفسّر هذا النوع من العنف بوسائل تشمل العنف الجسدي والعنف المتوارث فى اللغة والثقافة والأفكار والمفاهيم والمرويات والصور، وأن الحجج التي يطرحها تأتي من انهماك المؤلف خلال السنوات المنصرمة في حقل دراسات الإبادة، وفي الأخص، تقصي كتابات القانونيّ والمؤرخ البولندي اليهودي رفائيل لَمْكِنْ (1900- 1959)، الذي نال الجنسية الأميركية فيما بعد، واشتقّ مصطلح «الإبادة» في كتابه "حكم المحور في أوروبا المحتلة" الصادر في عام 1944.
يُبرهن لَمْكِن على أن الإبادة هي ظاهرة متكرّرة تُعامِل فيها جماعة بشرية جماعةً أخرى، مثلما تحدث جرائم القتل باستمرار في العلاقات بين الأفراد. كان الشعور السائد بعد عقود على حدوث الهولوكوست، بأن يَحُولَ الرعب الذي حدث، من دون ارتكاب جرائم إبادة في المستقبل، فكانت الإبادة أمراً غير وارد حينها. لكن الفترة الأخيرة من القرن العشرين شهدت جرائم إبادة عديدة حدثت في كمبوديا، وفي يوغسلافيا السابقة ورواندا، والإبادة المستمرة التي ترتكبها "إسرائيل" يومياً بحق المواطنين الفلسطينيين الأصليين في فلسطين المحتلة. هذه الجرائم جدّدت أهمية إدراكنا الضروري لبصيرة لَمْكِنْ في قراءة التاريخ البشري: حدثت الإبادة بين الجماعات، وجرائم القتل بين الأفراد دائماً، وسيستمر على الأرجح حدوثها.
العلاقة بين الإبادة والاستعمار
استعرض المؤلف جون دوكر النتائج المتجهمة والمترتبة على إعادة صياغة المفاهيم التاريخية التي قام بها لَمْكِنُ فبدلاً من اعتبار العنف فعلاً غير طبيعي، فهو يراه خصيصة ملازمة للنشاط الإنساني. وتاريخ البشرية هو تاريخ العنف متمثلاً في الحرب والإبادة؛ والغزو والاستعمار وإقامة الإمبراطوريات بأمر الله أو الآلهة في الديانات التوحيدية والتعددية والجمع العقيم بين الديمقراطية والإمبراطورية والثورة والمجزرة، والتعذيب، والتمثيل بالجثث والقسوة. ويؤكِّدُ لَمْكِنْ في دراسته للتاريخ البشري أن العلاقة وطيدة بين الإبادة والاستعمار، ويشير إلى قائمة فيها أصناف مفصلة تُحَلّل بواسطتها جرائم الإبادة التاريخية. فيدرس تأريخ الإبادة بوساطة أصناف مثل: الخلفية التاريخية مناهج وتقنيات الإبادة من جسديّة وبيولوجية وثقافية، ومواقف مقترفي الإبادة؛ والدعاية، أي الوسائل التي تبرّر الجريمة والاستجابات السلبية والإيجابية لجماعات الضحايا؛ واستجابات الجماعات الخارجية وعواقب الإبادة، والتي من خلالها يتألّفُ معظم كتاب المؤلف.
وظُفُ المؤلف في كتابه "أصول العنف" عدداً من الأفكار والمفاهيم والمصطلحات التي تقصّى بواسطتها العنف الجماعي. تتضمنُ هذه المفاهيم الإبادة، والإحلالية (إحلال شعب مكان شعب كما في فلسطين) وعلم الضحية و"الشعب المختار" و"الاستعمار النبيل".
العنف ونظرية القضاء على الآخر
الإبادة: نظرية العنف بين الجماعات؛ وهي الهيكل السردي لهذا الكتاب.
الإحلالية supersessionism: هي واحدة من أكثر الاعتقادات ضرراً في تاريخ العالم. وهي النظرة التي تُبيح محو أو إزالة بعض الشعوب، وإحلال شعوب ومجموعات أخرى محلّها، فهي ترى ذاتها وريثة التاريخ الشرعي.
علمُ الضحية victimology: اعتقاد ونصوص سردية تقول إن عمليات الاستعباد والاضطهاد والمعاناة السابقة تبرّر أعمال العنف والغزو والتدمير اللاحقة في بلاد أو جزر أخرى، والموجهة ضد شعوب لا يد لها في عمليات الاستعباد والاضطهاد الأصلية.
الشعب المختار: وهو عقيدة يؤمن بها شعب يدّعي بأنه مبارك من قبل الله أو الآلهة. نظرة الشعب إلى نفسه بوصفه مختاراً هي نظرة مشكوك فيها لأن بإمكان شعب آخر أن يدعي أنه مُختار هو الآخر، من قبل آلهة أخرى. يسود شعورٌ أحياناً بأن شعباً معيناً قد اختير لفترة قصيرة وأنه قد حلّت عليه اللعنة الإلهية، وأن الله أو الآلهة قد ينتخبون شعباً آخر يسمّونه الشعب المختار. يشهد تاريخ البشرية على تنافس مستمر بين الشعوب على أن تكون شعوباً مختارة وعلى أن تُعرف بوصفها كذلك.
أرض الميعاد وهو مفهوم مُلازم ومرتبط بأفكار مثل الشعب المختار وعلم الضحية. تتضمن هذه السرديات المؤثرة، أن شعباً محتلاً من بلاد أخرى، قد عانى من الاضطهاد، وحرقة التشرد والنفي، يسانده إله أبوي، سواء أكان هذا الإله توحيدياً أم تعددياً، ويعينه على إيجاد ملاذ أخير بوساطة غزو بلد آخر واستيطانه. هذا البلد «الجديد» هو وعد الإله الأبوي لهم. حتى وإن كانت تسكن هذا البلد شعوب أصلية مقيمة منذ الآف السنين أو سابقة لوجوده.
ناقلو الثقافة :culture bearers لقد أخذتُ هذا المفهوم مباشرة من كتاب واسو الأسطورة المؤسسة للحضارة الغربية. يحيل هذا المفهوم على الذين قدموا من بلاد ما مستوطنين وغزاة، والذين يرون أنفسهم ناقلي حضارة وبحيازتهم ما يعدونه معرفة راقية في مجالات الزراعة والمدن والقانون والدين. يعد ناقلو الحضارة هؤلاء أن حضورهم في مكان ما أحرى بعناية الله أو الآلهة للسكان الأصليين أو الشعوب التي تقطن هذه الأرض أو تلك الجزيرة، والتي يُخضعونها من طريق الغزو أو الاستعمار، مما يؤدي، حسب مصطلح لِمْكِنْ إلى الإبادة ولكن يرى ناقلو الثقافة أنفسهم مُسْتَعْمِرين نبلاء.
مقاربة العنف بين الجماعة الواحدة "الثدييات"
يبدأ أصول العُنف، متأملاً القدر الذي تشكلت به الإنسانية في مراحلها الأولى لكونها ثديية لتشابهها مع الثدييات الأخرى، متقاسمة معها تاريخاً تطوريّاً، ونازعة مثلها نحو العُنف، ومنه العنف بين أفراد الجماعة الواحدة. ربما صاغت هذه النزعات التطورية التاريخ البشري وما زالت مؤثرة وبارزة فيه. والإبادة واحدة من هذه النزعات من خلال التفكير في علم الثدييات وقد عمل الباحث جین كودال في كتابه "شمبانزيو كومبي"، وحجج تاريخ العالم التي قدّمها الباحث جاريد دَيْمَنْد في كتابه "صعود الشمبانزي الثالث وسقوطه" وعمل هيو برودي "الجانب الآخر من جنة عدن"، والبحث الذي قام به القائد الأسترالي البارز "غالاروي يُنْبِنْغو" عن ماهية المجتمعات البدوية والصيد والالتقاط والزراعة، يمكننا القول إن الإبادة وتنقلات البشر وهجراتهم منذ البدء نراها تحديداً في الغزوات، وفي الحملات الاستعمارية والتوسعية للمجتمعات الزراعية - التجارية في أنحاء الأرض عندما ظهرت حديثاً في التاريخ. كما يشدد كل من ديمند وبرودي أن تزايد العنف بين الجماعات في الفترة التي ظهرت فيها المجتمعات الزراعية - التجارية منذ ستة إلى ثمانية آلاف عام بشكل كبير جداً، وذلك بسبب جهود هذه المجتمعات في التوسع والانتشار والغزو والإحلال، وهي جهود موجهة أصلاً ضدّ مجتمعات الالتقاط والصيد.
يحاجج الكاتب أن الإبادة كانت ميّزة شائعة في عالمي البحر المتوسط والشرق الأدنى، وهي المنطقة التي نشأت فيها المجتمعات الزراعية التجارية. ولعل جرائم الإبادة التي حدثت في عالم البحر المتوسط، قد أرست السوابق التاريخية التي مهدت لاحقاً لتاريخ الاستعمار الأوروبي في حقبة ما بعد عام 1492. أما في العصور الكلاسيكية، فقد ناقش المؤلف أمثلة عديدة لأعمال الإبادة الفارسية والإغريقية، والتي ذُكرت في كِتابَي التواريخ لهيرودت والحرب البيلوبونيزية لثوسدديس، خصوصاً في تدمير الإثينيين لميلوس في عامي 415 – 416، قبل الميلاد.
يُشكّل هذا التحقيق في الغزو والاستعمار والإمبراطورية والإبادة، الذي شَمَلَ الآف السنوات جزءاً من صياغة مفاهيم القانون الدولي وتطويرها، وتحدياً مستمراً وصريحاً لتاريخه المضطرب والعبثي في أحيانٍ كثيرة؛ وهو التحدي الذي أخذهُ رفائيل لَمْكن على عاتقه في العصر الحديث بجرأة لا تُضاهى في المحاكم الدولية المعاصرة المعنية بالإبادة والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.
رفائيل لَمْكن مؤرخ المجازر
يعتبر رفائيل لَمْكن التاريخ البشري بوصفه تاريخ الإبادة، بسبب اقتصار التعريفات المتأخرة لمصطلح «الإبادة» على القتل الجماعي الذي تمارسه الدولة، وخاصة في ضوء الهولوكوست، وفي ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. صاغ لَمْكن تعريفه، وعبّر عنه بصورة كاملة في كتابه "حكم المحور في أوروبا المحتلة" خلال الحرب العالمية الثانية، عندما تحتم عليه الهرب من بولندا في العام 1939 وموت معظم أفراد عائلته الأوروبيين. وصلَ لَمْكِن إلى الولايات المتحدة في العام 1941 وأظهر نشاطاً وتفانياً ملحوظين في كتابة ما أصبح فيما بعد مرجعاً (حكم المحور في أوروبا المحتلة).
أبدى لَمْكن عنايةً كبيرةً في تعريف مصطلح الإبادة بوصفها مركّبةً ومتعددة الجوانب، وذلك عندما اقترح في كتابه مفهوماً جديداً لها، وقد اشتقهُ من الكلمتين الإغريقية genos (عشيرة أو عرق) واللاتينية cide (قتل) (كما ترد في قتل الطاغية، وقتل النفس وقتل الأخ tyrannicide, homicide, fratricide) ).
فلا تقتصر الإبادة، بالنسبة للَمْكِن على القتل الجماعي، وإن شملته، ولا ينحصر تنفيذها بمؤسسة أو سلطة حكومية. فتدلُّ الإبادة، في تصوّره، على خطة منسقة من أنشطة مختلفة تهدف إلى تدمير المقوّمات الأساسية لحياة مجتمع ما. تنطوي هذه الأنشطة على اعتبارات ثقافية وسياسية واجتماعية وقانونية وفكرية وروحية واقتصادية وحيوية وفسيولوجية ودينية ونفسية وأخلاقية.
فهو يفرّقُ بدقةٍ بين التغيير الثقافي والإبادة الثقافية، ويؤمنُ بأهمية الأخيرة في عمليات الإبادة. ويشير إلى عدم استقرار العلاقة بين الجلاد والضحية، على مر التاريخ وهناك أمثلة تبرهن على تحوّل ضحايا الإبادة إلى مرتكبي إبادة، وهكذا يُصبحُ ضحايا الأمس جلادي اليوم. وهو يُفضّل خصائص متكررة في الإبادات الجماعية التاريخية مثل التمثيل الجماعي بالأجساد البشرية، والترحيل القسري الذي يحدث في ظروف قاسية غالباً ما تتضمن سوقاً إجبارياً، والاعتداء على حياة البشر، وعزل الذكور عن الإناث منعاً للتكاثر، وانتزاع الأطفال ونقلهم، وتدمير القيادة السياسية والموت الناجم عن المرض والجوع والأوبئة الناجمة عن التنافس على المؤن واكتظاظ معسكرات الاعتقال.