وقفة مع "ثـأر الأحرار"... حين ثُقب درع نتنياهو وطاش سهمه

أمِلَ نتنياهو ترميم صورته الشخصية ولملمة صفوف ائتلافه الحاكم وتحقيق الغلبة على معارضة عنيدة ونشطه ضدهما في الشارع.

  • وقفة مع
    وقفة مع "ثـأر الأحرار"... حين ثُقب درع نتنياهو وطاش سهمه

مدفوعاً بالحاجة والرغبة، ذهب بنيامين نتنياهو إلى معركة ظنّها "نزهة قصيرة" مع غزة. حاجةٌ إلى ترميم ائتلافه الحاكم بعد تفشي مظاهر التمرد التي قادها عليه من هم إلى يمينه في الحكومة، ورغبة جامحة في ترميم مكانته المتردية في أوساط الرأي العام الإسرائيلي، وترميم صورة كيانه "الردعية" المتأكّلة على الضفة الأخرى للصراع مع المقاومتين الفلسطينية واللبنانية.

هنا، تجدر ملاحظة مفادها أن كلمة "ترميم" هي الأكثر دقة وشيوعاً (حتى لدى الإسرائيليين) في تفسير دوافع نتنياهو الشخصية والسياسية، التي قادته إلى استعجال المواجهة.

على أن نتنياهو لم يكن ليترك نزعاته ونوازعه تتحكم في قراره الذهاب إلى "حرب" مع غزة، فالرجل وطاقمه الأمني والسياسي المصغر، بنيا قرارهما على جملة من الرهانات، أهمها:

(1) إن الاستهداف لثلاثة من أبرز قادة الجهاد الإسلامي الميدانيين، سيربك الحركة، وسيشل قدرتها على الرد، وسيترك أثراً لن يمحى قريباً بشأن قدرتها على الرد.

(2) إن الرد لن يتعدى نطاق مستوطنات غلاف غزة في المكان، وسيستغرق يوماً أو يومين في الزمان.

(3) إن "الجهاد" ستُترك وحيدةً، كما في مرتين سابقتين.

(4) إن عنصر المباغتة، ومحدودية رد "الجهاد" المتوقَّعة، لن يتيحا للساحات أن تتوحد.

(5) إن استراتيجية "كيّ الوعي" و"المعركة بين حربين" ستفعل فعلها، وستطاول تأثيراتها الفصائل والساحات جميعها. هكذا فكر نتنياهو و"مطبخه" الأمني والسياسي.

ولترجمة هذه الرهانات وشق الطريق أمامها، لجـأ نتنياهو إلى اعتماد تكتيكات ظنّ أنها ستسعفه في تحقيق ما ذهب إليه، ومن أجله. أولها، التأكيد المتكرر أنه يستهدف "الجهاد" فقط، ولا ينوي المسّ بحماس وكتائب القسام. ثانيها، تفعيل الوسطاء وقنوات الاتصال لتأكيد أنه لا يرغب في مواجهة واسعة في جبهات متعددة (اليونيفيل مع لبنان، والقاهرة مع غزة). ثالثها، الإمعان في شيطنة "الجهاد" وتضخيم روابطها بطهران والضاحية الجنوبية، من أجل الزعم أنه يقاتل إيران وحزب الله و"أدواتهما" في غزة، ولا يقاتل الفلسطينيين. رابعها، تفادي "استراتيجية الضاحية" في التعامل مع غزة هذه المرة، وتجنب ضرب أبراجها وإلحاق خسائر بشرية لا تقوى حماس وحلفاؤها بعدها على الاستمرار في "ضبط النفس".

حقل نتنياهو وبيدره

بعد 5 أيام من القتال الضاري، كيف جاء حصاد "الدرع والسهم"، وهل تطابقت حسابات "حقل نتنياهو" مع حسابات بيدره؟، ما الذي تحقق من رهاناته، وما الذي طاش منها؟، هل تحقق له ما ذهب من أجله، وهل نجح في "ترميم" مكانته وائتلافه وصورة كيانه الردعية؟

نتنياهو أطلق "السهم الأول" في هذه المعركة، بيد أن حركة "الجهاد" هي من أطلقت الصاروخ الأخير فيها، على رغم استشهاد 6 من قادتها الكبار، وليس 3 فقط.

وبدلاً من بضعة صواريخ متفرقة تسقط في محيط "الغلاف"، طاولت صواريخ الجهاد "تل أبيب" والقدس المحتلة، وبدلاً من "يومٍ أو بعض يوم"، امتدت المعركة خمسة أيام، وكان ممكناً أن تمتد أياماً، وربما أسابيع أخرى.

بدلاً من أن تُفضي سهام العملية العسكرية إلى تعزيز درع "إسرائيل" وردعها، جاء فشل "القبة الحديدية" في التصدي لأكثر من نصف صواريخ "السرايا" ليضيف ثغرة جديدة إلى سور "إسرائيل" الذي لم يعد واقياً.

حافظت "الجهاد" على تماسكها ورباطة جأشها، وأصاب نتنياهو الارتباك والقلق، بعد أن أدرك أن "سهمه" الأول طاش، وأن ما أقدم عليه في غزة لن يكون أبداً "نزهة قصيرة"، تنتهي باصطياد بضعة رؤوس كبيرة.

راهن نتنياهو على عزل "الجهاد" وعزلتها، وأكثر من الحديث عن أنه لا يستهدف أحداً غيرها، لكن النتيجة هذه المرة، أن "الجهاد" حظيت بغطاء وطني فلسطيني واسع، وربما غير مسبوق، في الجولات التي انفردت فيها "الجهاد" في تصدر المشهد، وتولت غرفة العمليات المشتركة "المسؤولية، سياسياً ومعنوياً وأخلاقياً" عن المعركة برمتها، الأمر الذي وضع نظرية "الفصل بين الفصائل والكتائب والأجنحة" على محك خطير، وأكد لنتنياهو أن استمرار التصعيد وتوسيع نطاقاته، سيُدخلان الجميع، طائعاً أو "مكرهاً أخوك لا بطلاً" في ميدان القتال.

على أن الأهم من كل هذا وذاك، أن "الجهاد" حظيت باحتضان شعبي غير مسبوق، تجلّى في حشود المشيعين للشهداء والمكبَرين على أسطح المنازل، والمحتفلين بانتصار "ثأر الأحرار".

صحيحٌ أن "الجهاد" خسرت "أحد عشر كوكباً"، من خيرة أبنائها وقادتها، وصحيح أنها دفعت القسط الأوفر من فاتورة الدم والفداء، لكن الصحيح كذلك أن "الجهاد"، بعد "ثأر الأحرار"، ستكون الأقدر على تجديد دمائها وترسانتها، أسرع مما ظنّ نتنياهو ويظن كثيرون، فتلكم هي خلاصة الخبرة الفلسطينية التاريخية المتراكمة، والخلاصة أن سهماً آخر في عملية "الدرع والسهم" طاش ولم يصل إلى هدفه.

راهن نتنياهو والمستوى الأمني – السياسي المحيط به من جديد، على استراتيجية "كيّ الوعي" و"المعركة بين حربين"، لكن نتائج المعركة جاءت بخلاف ذلك: فصيل واحد من فصائل المقاومة (ليس أكبرها ولا أقواها) تحمّل العبء الأكبر من المسؤولية الميدانية ونجح في الزج بمليون مستوطن في الملاجئ، وشل الحياة اليومية في نصف البلاد، في أقل تقدير.

أمّا الجدل بشأن "كيّ الوعي" والجدية والجدوى لاستراتيجية "المعركة بين حربين"، فبدأ ينتقل بسرعة للداخل الإسرائيلي، بدلاً من أن يهمين على الرأي العام الفلسطيني والجيل الفلسطيني الجديد "Gen Z". فغزة وفرت حاضنة دافئة لمقاومتها، بينما الضفة الغربية تقف على فوهة بركان، بحيث تتحول مدنها وقراها ومخيماتها إلى ساحات مواجهة يومية لا تنقطع، وكابوس يقضّ مضاجع المستوى الأمني قبل السياسي في "إسرائيل"، وذلكم سهم ثالث طاش قبل أن ينطلق من جعبته.

أمِلَ نتنياهو ترميم صورته الشخصية ولملمة صفوف ائتلافه الحاكم وتحقيق الغلبة على معارضة عنيدة ونشطه ضدهما في الشارع.

حقق نتنياهو فوزاً تكتيكياً في هذا المضمار، عزز أرقامه في استطلاعات الرأي بعد انهيارها غير المسبوق، وعاد بن غفير إلى مزاولة "مهمّات تطرفه" في الحكومة والكنيست، لكن ثمة في "إسرائيل" مروحة واسعة من المراقبين والمحللين، الذين يصفون هذه المكاسب بالمتواضعة والموقتة، ويتوقعون أن يجد الرجل نفسه في موقع أصعب بعد أن صمتت المدافع، فلا المعارضة في وارد التخلي عن حربها المعلنة عليه، ولا "شعبيته" مرشحة للثبات والتصاعد، بعد أن أيقن الإسرائيليون أن ما بعد "الدرع والسهم"، كما قبله، لا أمن تعزز، شخصياً أو "وطنياً"، بل جولة إضافية من القتل والقصف، في انتظار جولة تالية.

في الأداء الفلسطيني

في "ثأر الأحرار"، تفوقت "الجهاد" على نفسها، في الميدان كما في السياسة. نجحت في استيعاب الصدمة الأولى، ونجحت في "ملء فراغ" 6 من قادتها الأساسيين استهدفهم العدو في 5 أيام، وتلكم قضية يتعين على "الجهاد" أن تعكف على دراستها ومراجعتها، إذ بدا أن ما في حوزة "إسرائيل" من معلومات استخبارية، يمكن أن تكون عواقبه وخيمة، إن لم يُتخذ ما يكفي من إجراءات حماية وسلامة وتأمين، لكن حيوية التنظيم وكفاحيته مكّنتاه من استعادة زمام المبادرة سريعاً، والتحكم في مسار العملية العسكرية، حتى الدقيقة الأخيرة، وبعدها بقليل.

سياسياً، فاوضت "الجهاد" بقوة وصلابة كذلك. رفضت العروض الأولى للتهدئة، وكانت بمثابة ترجمة عربية لما يريده نتنياهو، ووصلت في نهاية المطاف إلى تفاهمات تشبه إلى حد ما، تفاهمات نيسان/أبريل 1996 بين حزب الله و"إسرائيل": تحييد المدنيين ومنازلهم، والكف عن استهداف الأفراد (اقرأ القيادات). أما الإخفاق في انتزاع قبول "إسرائيل" بالإفراج عن جثمان الشهيد خضر عدنان، فكان "نقيصةً" أملتها حسابات اللحظة ومفاضلة الربح والخسارة، في ضوء معرفة المفاوض الفلسطيني والوسيط المصري الدلالات والتبعات الثقيلة لأمر كهذا على الطرف الآخر من معادلة الصراع: نتنياهو وائتلافه.

أداء حماس كان الأكثر إثارة للنقاش والتساؤل في الأوساط الفلسطينية والإسرائيلية، على حد سواء. الحركة الأكبر، الممسكة بزمام سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، اكتفت بتوفير غطاء سياسي لـ"الجهاد"، من خلال غرفة العمليات المشتركة، وهذا تطور قرأه مراقبون على أنه التزام بشأن الانخراط في المواجهة حال خروجها على السيطرة، وربما كان هذا عاملاً مهماً دفع الجانب الإسرائيلي إلى العمل على اختصار أمد المعركة وقبول التهدئة، بل استعجالها قبل انزلاقها إلى سيناريو الانفجار الكبير، الذي تخشاه حكومة نتنياهو ولا تريده.

تهنئة قادة حماس لـ"الجهاد" بعد المعركة، وتثمينهم دورها المتصدر لفعالياتها، وتحملها عبئها الأكبر، تؤكد الحدود الميدانية المتواضعة لمشاركة حماس في القتال. البعض ردّ الأمر إلى ما يمكن وصفه بـ"تقاسم الأدوار"، والبعض أدرجه في عداد "المنافسة" بين فصيلين أساسيين في المقاومة، والبعض الثالث عزاه إلى حسابات حماس، بصفتها السلطة القائمة على القطاع وما يمليه ذلك من مقتضيات، لا تقتصر على حدود القطاع، بل ترتبط بمشروع حماس الأوسع نطاقاً في الساحة الفلسطينية وحساباتها الإقليمية. أما نحن، فنرد موقف حماس وتموقعها في هذه المعركة، إلى الأسباب المذكورة مجتمعة، ولا سيما أن موقف الحركة الأخير، لا يُقرأ بمعزلٍ عن مواقفها في مواجهتين سابقتين، تصدرتهما "الجهاد الإسلامي" أيضاً.

السلطة الفلسطينية، بدورها، ظلّت سادرة في غيبتها وغيبوبتها، مكتفية بالحد الأدنى من الحراك الدبلوماسي المعتاد في مثل هذه الحالات، والمخاطبات التقليدية للأمم المتحدة والجامعة وبعض العواصم. ولم يجد رئيسها غضاضة في مغادرة رام الله في ذروة معارك غزة، ومن بعدها التوجه إلى الأمم المتحدة لطلب الحماية، في صورة أقرب إلى التذلل والاستجداء.

وحدة الساحات الفلسطينية (قدس، ضفة، أراضي الـ 48 والشتات) لم تتحقق إلا بصورة جزئية ومحدودة، عبرت عنها بعض التحركات الشعبية في فلسطين ودول الجوار وعواصم أوروبية. ومرد ذلك يعود إلى عاملين اثنين من وجهة نظر كاتب هذه السطور:

الأول أن المعركة لم تأخذ مداها الكافي في الزمان والمكان وكثافة القتال، كما في "سيف القدس"، على سبيل المثال.

ثانيها هو "المعادلة الصفرية" التي تحكم طرفي الانقسام، وهي بمثابة ثقب أسود، كفيل بابتلاع معظم أو جميع مكتسبات المواجهة والصمود والبسالة في ميادين المواجهة وساحاتها المفتوحة.

"وحدة الساحات" مقاربة فلسطينية ذات مغزى استراتيجي، بدلالة القلق الإسرائيلي من هذه المقاربة، يجسد وحدة الشعب والقضية والنضال، لكن تجلياتها لا تحدث فوراً وتلقائياً، كردود أفعال على فعل هنا أو تطور هناك، بل هي مسار وسيرورة، وتلحظ تباين الظروف والسياقات والشروط، التي يجد الفلسطينيون أنفسهم بين ظهرانيها، وتستهدف استحداث التزامن والتوازي في المدى الأبعد، بين كفاحات الفلسطينيين في مختلف أمكان انتشارهم.

"ثأر الأحرار" يوم من أيام فلسطين، ومحطة كفاحية تستبطن كثيراً من العِبَر والدروس السياسية والعسكرية، التي يتعين قراءتها بإمعان، لا من جانب "الجهاد الإسلامي" وحده، بل من جانب مختلف الأطراف الفلسطينية وساحات الفعل العربي المقاوم.

الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية تعلن عن تنفيذ عملية "ثأر الأحرار" بتوجيه ضربات صاروخية كبيرة لمواقع ومستوطنات الاحتلال، وذلك رداً على جريمة اغتيال قادة سرايا القدس.