واقع البلقان... فرصة مؤاتية لتوسيع دائرة المواجهة الغربية مع روسيا
تبرز أهمية قراءة الحدث الآني بين الإقليم وصربيا من خلال قراءة خارطة المنطقة، حيث إن البيئة المجاورة لصربيا لا تساعد على طرح حلول وسطية للأزمة.
ليست الأزمة بين صربيا وكوسوفو مستجدة أو يمكن قراءتها وتحليلها انطلاقاً من تعقيدات العلاقة بين إقليم يسعى لتكريس استقلاله ودولة تقاتل لعرقلة انسلاخ جزء منها فقط. فكما هو معروف، يقع إقليم كوسوفو في منطقة البلقان التي كانت تمثّل نموذجاً يدلل على فوضى ما بعد الحرب الباردة. فإذا كان من الممكن تعريف تلك المرحلة، فإن ذلك لا يصحّ إلا من خلال حال التحلّل الذي أصاب الكثير من الدول، إضافة إلى تفكّك الأنظمة الاشتراكية والشيوعية التي كانت تستمد قوتها من حليفها السوفياتي السابق.
كذلك تبرز أهمية قراءة الحدث الآني بين الإقليم وصربيا من خلال قراءة خارطة المنطقة، حيث إن البيئة المجاورة لصربيا لا تساعد على طرح حلول وسطية للأزمة، إذ إنّ العلاقة الاستراتيجية والتاريخية التي تربط هذه الأخيرة بروسيا لن تساعد في ضمان موقف أوروبي حيادي.
وإذا عدنا إلى الموقف الصربي من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإنه سيظهر تعاطفاً مع الدولة الروسية، حيث إن دعم حكومة الرئيس ألكسندر فوتشيتش لسيادة أوكرانيا، وتصويتها بالموافقة على القرار الأممي الذي يُدين الهجوم الروسي قد توازى مع رفض للعقوبات التي فرضها الغرب ضد موسكو.
يمكن من خلال تحليل واقع العلاقة بين صربيا وإقليم كوسوفو، والموقفين الأوروبي والروسي من تعقيدات الأزمة الحالية، أن يُستدل على المخاطر التي ستفرض نفسها في الفترة المقبلة. فإذا كانت الأزمة في أوكرانيا، وعدم تردّد الجانب الروسي في التحرّك عسكرياً تحت عنوان إبعاد خطر الأطلسي عن حدوده، وكذلك اعتبار عمليته العسكرية في أوكرانيا ضرورة حيوية لإرساء قواعد نظام دولي جديد على أنقاض الأحادية الأميركية المدعومة أوروبياً، فإن موقع أوكرانيا في أقصى شرق أوروبا يقدّم للاتحاد الأوروبي ميزة لا يمكن توفّرها في منطقة البلقان.
فانحسار المعارك في شرق أوكرانيا ضمن منطقة تفترض القيادة الروسية حتى اللحظة عدم الحاجة لتخطيها تجعل دول الاتحاد الأوروبي في منأى عن خطر مباشر رغم ادعائها عكس ذلك، إذ يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتجنّب بسهولة خطر أي تصعيد محتمل، وذلك من خلال تقدير مخاوف روسيا الاستراتيجية، والعمل على تقديم ضمانات من قبيل التعهّد بعدم قبول أوكرانيا كعضو في حلف النيتو، وجعلها أشبه بمنطقة فاصلة أو منزوعة السلاح.
غير أن الواقع في البلقان سيظهر أكثر تعقيداً. فالخلفيات التاريخية للانقسام المجتمعي في البلقان، والذي أنتج انفصال إقليم كوسوفو، ما زال حاكماً لواقع غير مستقرّ في تلك المنطقة. فعلى الرغم من انحلال الاتحاد السوفياتي، وتعديل روسيا الاتحادية لاستراتيجياتها الحاكمة لسياساتها الخارجية، خصوصاً لناحية مقاربة التوجّهات الغربية في منطقة البلقان، لم يتمكّن الاتحاد الأوروبي من ترتيب الواقع السياسي في تلك المنطقة.
في هذا الإطار، يعتبر الرجوع إلى عام 1995 ضرورةً لتلمّس الدعم الغربي للحركة الانفصالية في كوسوفو. فالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية لم ينجحا في وضع حد للصراع في منطقة البلقان. فإذا قفزنا فوق التدخّل العسكري لحلف النيتو، والذي كان يدَعي حماية الأقليات الألبان في تلك المنطقة، فإنه كرّس تقسيم يوغسلافيا ودعم انفصال كوسوفو من دون أن تنجح محاولة بناء السلم في تلك المنطقة.
وعلى الرغم من مرور أكثر من عقدين على حرب كوسوفو وإرساء قوات حفظ سلام دائمة في تلك المنطقة، فإن الاتحاد الأوروبي لم يتمكّن من دمج تلك المنطقة في مشروعه لحفظ السلم الإقليمي.
وبالتالي، ما زال يشكّل الانقسام السياسي بين صربيا التي تعتبر أن الموقف الأوروبي من أزمة كوسوفو لا يرتبط بحق أقلية في تقرير مصيرها، وإقليم كوسوفو الذي يحاول استغلال لحظة دولية في محاولة لتوسيع دائرة الاعتراف الدولي، وتسريع خطى انضمامها للاتحاد الأوروبي أرضية تزيد من تعقيدات الأمن في شرق أوروبا.
بالنسبة لروسيا، يمكن تصنيف الموقف الأخير الذي عبّرت عنه الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زخاروف ضمن إطار المحدّدات التي ستحكم آلية الحل في الإقليم.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا الموقف يؤكد التوجّه الروسي لإعادة إنتاج توازنات جديدة في شرق أوروبا استناداً إلى واقع المواجهة مع الغرب. فإعلان ماريا زخاروف عن أن سبب الأزمة الحالية مرتبط بانتهاج كوسوفو سياسة التطهير العرقي والمذابح والطرد والإرهاب ضد الصرب، بتواطؤ كامل من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، يدفع لإعادة إدراج الأزمة بين صربيا والإقليم ضمن إطار ساحات الصراع بين روسيا والغرب.
من ناحية أخرى، يُبرز الموقف الروسي محاولة إعادة إنتاج خطاب قومي يتوافق مع توجّهه الاستراتيجي الساعي إلى إبعاد خطر التحالف الغربي الذي وصل إلى حدوده في أوكرانيا. إضافة إلى ذلك، يظهر هذا الموقف إصراراً روسياً على تنفيذ مخططه لاستعادة الدور الذي فقدته روسيا مع انحلال الاتحاد السوفياتي.
وإذا كانت الدولة الروسية قد أشارت إلى تواطؤ الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي إلى جانب إقليم كوسوفو من دون التهديد بتدخّل عسكري على غرار ما يحصل في أوكرانيا، فإن موقفها قد شجّع الدولة الصربية على رفع سقف ردّها على ما يحدث في الإقليم، حيث أن دعوتها إلى عقد جلسة لمجلس الأمن تؤكد ثقتها بحليفها الروسي. فالمعروف أن الحلول التي دائماً ما يُسوَّق لها من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لا تراعي الموقف الصربي، وإنما تخدم توجّه الإقليم الانفصالي.
وعليه، فإن الدعوة إلى ضرورة عقد جلسة لمجلس الأمن، مع الإشارة إلى علمها بصعوبة اتخاذ قرار بسبب الخلاف الروسي الغربي، تدفع لتصنيف الموقف الصربي ضمن إطار إظهار الفشل الأممي كدافع لاتخاذ خطوات أحادية ضد أي محاولة للتعدي على الصرب في الإقليم. فالسلام في الإقليم لم يكن نتيجة تفاهم صلب على أطر العلاقة بين الطرفين، وإنما كان نتيجة موازين قوى فرضها التدخّل العسكري الأطلسي من جهة، وغياب الحليف الموثوق لصربيا من جهة أخرى.
وعليه، تظهر روسيا جنوحاً نحو إعادة إنتاج علاقات استراتيجية مع حلفاء الأمس، مستفيدة من التوجّه القومي الذي ما زال حاضراً لدى هؤلاء، إضافة إلى ثقتها بإمكانية المبادرة خارج حدودها بعد نجاحها في فرض إيقاعها على الجبهات في أوكرانيا، خصوصاً في مرحلة الهجوم المضاد الأوكراني.
وأخيراً، كان من الممكن قراءة المشهد بين إقليم كوسوفو وصربيا من خلال الأدبيات نفسها التي سادت منذ اندلاع العنف في تلك المنطقة عام 1995. غير أن إصرار كلا الطرفين الروسي والغربي على محاولة إشغال الآخر بما يمكن أن يؤثر على أدائه في أوكرانيا يفرض قراءة مختلفة. فإذا كان من الطبيعي أن تبادر روسيا عند بداية عمليتها العسكرية في أوكرانيا إلى إشغال الغرب بأزمات داخل حدوده، فإن الموقف قد تغيّر، إذ قد يكون الحراك في كوسوفو مجرد ردّ فعل على انعدام الخيارات الغربية في أوكرانيا بعد نجاح روسيا في إفشال هجوم أوكرانيا المضاد.