هل تنزلق إندونيسيا للتطبيع مع "إسرائيل"؟
شهدت العلاقات بين "إسرائيل" وإندونيسيا تطوّراً ملحوظاً إبّان فترة حكم الرئيس الإندونيسي الأسبق، إلاّ أن هذه العلاقة واجهت معارضة شعبية واسعة أرغمت الحكومة على التراجع عنها.
تسعى "إسرائيل" جاهدة منذ خمسينيات القرن الماضي لإقامة علاقات "طبيعية" مع إندونيسيا؛ أكبر دولة إسلامية من ناحية عدد السكّان (نحو 280 مليون نسمة)، وصاحبة الموقع الاستراتيجي في جنوب شرقي آسيا بين المحيط الهندي والمحيط الهادئ.
لكن توجد عقبات جديّة أمام "إسرائيل" لإنجاز تطبيع كهذا لا يُشبه مسارات التطبيع مع بعض الدول العربية والخليجية، إذ أدّى الأميركيون دوراً أساسياً خلال السنوات الأخيرة في إطلاق هذه المسارات وتفعيلها وتجاوز الممانعة الشعبية الواسعة للتطبيع أو تدجينها، وهو أمرٌ يبدو متعذّراً مع الحكم الإندونيسي، في ظل وجود قوى إسلامية "متشدّدة" في هذا البلد، ورفض شعبي واسع لأي تطبيع قسري، وخصوصاً مع امتناع "صديقة" النظام الإندونيسي التاريخية، السعودية، عن سلوك هذا الخيار حتى تاريخه.
في 6 أيلول/سبتمبر 2023، تحدّث موقع صحيفة "يديعوت أحرونوت" عن اتصالات إسرائيلية سريّة تجري خلف الكواليس مع مسؤولين في دولة مهمة هي إندونيسيا؛ أكبر دولة إسلامية في العالم، ورابع أكبر ديمقراطية".
وبحسب الموقع، فإن "انتخابات مهمة ستُجرى في شباط/فبراير 2024 للرئاسة ولنائب رئيس البرلمان، ونتائجها ستحسم إن كانت إندونيسيا ستُطبّع العلاقات مع إسرائيل".
وعلى الرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين، "فإن إسرائيل لديها قنوات حوار مباشرة مع مسؤولين وجهات في إندونيسيا معنيّة بتعزيز العلاقات"، بحسب "يديعوت أحرونوت"، و"توجد بين البلدين علاقات تجارية وسياحية وتعاون أمني".
في المقابل، نقل الموقع إشارة مسؤولين إسرائيليين إلى منع دخول رياضيين إسرائيليين إلى إندونيسيا في الأشهر الفائتة، ما أدّى إلى خسارة استضافة بعض المنافسات الرياضية الدولية.
وقال مسؤول إسرائيلي كبير للموقع إن "إندونيسيا تخشى حدوث تظاهرات واحتجاجات واسعة من قِبل متطرّفين. ولذلك، من المنطقي أن تنتظر السعودية"، وأضاف: "في التركيبة الحالية للحكومة، سيكون من الصعب جداً دفع الإندونيسيين إلى هذه الخطوة".
وفي هذا السياق، يأتي ما كشفته نائبة وزير الخارجية الإسرائيلية تسيبي حوتفلي في شهر آذار/مارس من العام 2016 من تفاصيل سريّة عن اتصالات تُجريها "إسرائيل" مع إندونيسيا، تمهيداً لتقوية العلاقات بين الشعبين"، مشيرة إلى زيارة قام بها رئيس دائرة آسيا في الوزارة للعاصمة جاكرتا.
وقالت حوتفلي: "إن منع وزيرة الخارجية الإندونيسية من زيارة مقرّ الرئاسة الفلسطينية في مدينة رام الله جاء بناءً على انتهاك جاكرتا تفاهمات سريّة أجرتها إسرائيل وإندونيسيا، تنص على أن كلّ زيارة مقرّرة إلى رام الله تكون أوّلاً إلى إسرائيل لمقابلة المسؤولين الإسرائيليين في وزارة الخارجية، ومن ثم العبور إلى الضفة الغربية".
وكان من المقرّر خلال زيارة الوزيرة افتتاح قنصلية فخرية لجمهورية إندونيسيا في الأراضي الفلسطينية. في الشهر ذاته، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في لقاء مع صحافيين إندونيسيين زاروا "إسرائيل": "حان الوقت لإقامة علاقات رسمية بين تل أبيب وجاكرتا، لأن الأسباب التي منعت إقامتها لم تعد موجودة اليوم"، وقال إن لديه العديد من الأصدقاء في صفحته في فيسبوك.
لكن إندونيسيا رفضت دعوة نتنياهو، وتعهدت بمواصلة دعمها إقامة دولة فلسطينية، كما أعلنت وسائل الإعلام المحلية نقلاً عن أرماناثا ناصر، المسؤول في وزارة الخارجية الإندونيسية، الذي أعرب عن خيبة أمله إزاء قرار وفد من الصحافيين الإندونيسيين قبول دعوة لزيارة "إسرائيل"، إذ قدّم نتنياهو الدعوة لتطبيع العلاقات خلال لقاء مع الوفد في القدس المحتلة.
عام 2017، تحدّثت تقارير عن توجّهات جاكرتا لإضافة "إسرائيل" إلى قائمة الدول التي لا يحتاج مواطنوها إلى الحصول على تأشيرات خاصة لدخولها، إلّا أن السلطات الإندونيسية نفت ذلك، بحسب صحيفة "هآرتس"، وهو ما تكرّر في العام التالي أيضاً.
وقد كشفت الصحيفة حينها أن "وزارة الاقتصاد في سنغافورة هي المسؤولة عن الاتصالات الإسرائيلية مع إندونيسيا. وعام 2015، شهدت العلاقات التجارية ارتفاعاً ملحوظاً وصلت قيمتها إلى 500 مليون دولار في السنة، إذ تتركّز البضائع التي تستوردها إسرائيل منها على المواد الخام، مثل البلاستيك والخشب والفحم والمنسوجات وزيت النخيل، فيما تُصدّر إليها صناعات الطاقة والمياه والتكنولوجيا".
في مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2018، ادّعى نائب الرئيس الإندونيسي يوسف كالا أن لقاءه نتنياهو في نيويورك لم يكن سريّاً أو مرتّباً له، بل جرى بشكل عفوي. جاء ذلك رداً على تقارير إسرائيلية تحدّثت عن أن كالا التقى نتنياهو سراً في نيويورك.
وأضاف: "إذا أردنا المساعدة في تحقيق السلام في بلد ما، علينا التعرّف إلى جميع الأطراف. لذا عندما التقينا، وتعرّفنا إلى بعض البعض، تحدّثنا عن السلام".
لكن، وفي منتصف الشهر عينه، وفي وقت بدا اللقاء المذكور دافعاً مشجّعاً، كشف نتنياهو أنه يرغب في الدفع بالعلاقات الدبلوماسية مع إندونيسيا، وقال: "إندونيسيا مهمة جداً بالنسبة إلينا. إنها بلد مهم للغاية، وهي أحد آخر البلدان على الكرة الأرضية التي لا تربطها علاقة مفتوحة وقوية بإسرائيل كمعظم البلدان".
وأضاف: "في إندونيسيا، هناك أكثر من 200 مليون نسمة، وهي تضم مسلمين وعشرات الملايين من المسيحيين. نودّ أن نراهم هنا. نودّ أن تكون لدينا علاقات ممتازة معهم".
وجاءت تصريحات نتنياهو "الماكرة" رداً على سؤال وجّهته ناشطة مسيحية مؤيّدة لـ"إسرائيل" من جكارتا، التي حضّت نتنياهو على فتح حدود "الدولة" للمؤمنين الإندونيسيين حتى يتمكنوا من زيارة الأراضي المقدّسة بحريّة.
في أواخر العام 2020، كشفت إندونيسيا حقيقة إقامة علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل"، فقد نفت الحكومة الإندونيسية تقارير أوردتها وسائل الإعلام الإسرائيلية بأنها تُجري مباحثات متقدّمة لإقامة علاقات دبلوماسية معها.
وقال المتحدّث باسم وزارة الخارجية الإندونيسية تيوكو فايز سيا: "في الوقت الحالي، لا توجد أي خطة لإقامة علاقات مع إسرائيل. نحن مُلزمون بالدستور بدعم الفلسطينيين وتحريرهم من الاحتلال".
كذلك، رصدت عدسات وسائل إعلام على هامش منتدى "حوار المنامة" للأمن الإقليمي الذي عقد في البحرين بتاريخ 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، والذي شارك فيه وزير الدفاع الأميركي، لقاءً علنياً بين رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي ووزير الدفاع الإندونيسي، والذي فسّره المراقبون كإشارة إلى حدوث تقارب ومفاوضات بين الطرفين لوضع خطط فعلية للتطبيع.
لكن سلطات جاكرتا كانت تراقب من كثب ردود أفعال المنظمات الإندونيسية غير الحكومية، وخصوصاً بعد خروجها بتصريحات قويّة قبل سنة من ذلك التوقيت عقب اتفاق التطبيع الإسرائيلي -الإماراتي (13 آب/أغسطس 2020)، واصفة إيّاه بـ"الجريمة التي تضرّ القضية الفلسطينية".
وكانت العلاقات بين "إسرائيل" وإندونيسيا قد شهدت تطوّراً ملحوظاً إبّان فترة حكم الرئيس الإندونيسي الأسبق عبد الرحمن واحد، إلاّ أن هذه العلاقة واجهت معارضة شعبية واسعة أرغمت الحكومة على التراجع عنها.
في كانون الثاني/يناير 2022، وعلى الرغم من الإخفاقات المتكرّرة، واصلت "إسرائيل" محاولاتها لاختراق جدار الرفض الإندونيسي الصلب للتطبيع الكامل معها، إذ نجح المركز العالمي لإحياء ذكرى ما يسمّى "المحرقة"، المعروفة باسم "ياد فاشيم"، ومقرّها في القدس المحتلة، في افتتاح أول متحف دائم مُخصَّص لذكرى "ضحايا الهولوكوست" في إندونيسيا.
وقد أعلن القائمون على المتحف أن هذه الخطوة أتت تحدّياً لتزايد المشاعر المعادية لليهود في إندونيسيا، وكذلك مواجهة لبعض الادّعاءات التي تُشكِّك في حدوث المحرقة، بحسب تصريح يعقوب باروخ؛ رجل الأعمال الإندونيسي والحاخام اليهودي.
لكن قبل مضي الأسبوع الأول على افتتاح المتحف اليهودي، بدأت تحرّكات الجماعات الإسلامية الإندونيسية، وعلى رأسها "منظمة نهضة العلماء"، للمطالبة بإغلاقه، إذ اعتبر المحتجّون أن إنشاء هذا المتحف في هذا التوقيت يأتي لخدمة أجندة الاحتلال الإسرائيلي الراغب في تطبيع علاقاته مع أكبر دولة ذات غالبية مسلمة في العالم.
أما على المستوى الدولي، وفيما يخص واشنطن، راعية "إسرائيل" الأولى، فهي تعوّل على عدّة عوامل قد تدفع نحو تسهيل صفقة التطبيع الإسرائيلي – الإندونيسي المستعصية حتى الساعة؛ فإندونيسيا، المختلفة عن جارتها "ماليزيا" التي يتبنّى قادتها خطاباً "معادياً للسامية"، بحسب وصف المسؤولين الإسرائيليين، تبدو أكثر قابلية لتغيير موقفها بسبب التطورات المتلاحقة في السياسة الخارجية لعدد من الدول حولها، كالإمارات.
وفسّرت بعض المصادر التزام جاكرتا الصمت بشأن اتفاقية التطبيع بين الإمارات و"إسرائيل" بالعلاقة المتينة التي تربط الرئيس الإندونيسي الحالي جوكو ويدودو بأبو ظبي، التي كانت على رأس قائمة الدول الخليجية التي منحت إندونيسيا استثمارات هائلة في بناء العاصمة الجديدة في جزيرة بورنيو، بخلاف ترؤّس ولي العهد محمد بن زايد اللجنة التوجيهية لبناء هذه العاصمة المُخطَّط لها في "شرق كاليمانتان".
إلى جانب ذلك، تراقب جاكرتا "الاستجابة الهادئة" التي قابلت بها الرياض اتفاقيات التطبيع الإسرائيلي مع بعض دول الخليج. وبالنظر إلى أن السعودية تتمتع بنفوذ أكبر في إندونيسيا من أي دولة عربية أخرى، فإن مباركة السعودية المُحتملة ربما تدفع جاكرتا إلى المضي قُدماً.
ومهما تعدّدت وتنوّعت المغريات الأميركية والإسرائيلية للحكومة الإندونيسية، بدءاً من اللياقات الدبلوماسية المخاتلة أو الزائدة عن الحد في إطار استقبال المسؤولين الإسرائيليين وفوداً إندونيسية مختلفة، إلى العروض الجذّابة لتفعيل وتوسيع مجالات التعاون الاقتصادي والتجاري والطبي والزراعي والتكنولوجي، وهي قائمة بالفعل منذ سنوات، فإن على الدولة الإندونيسية وشعبها المسلم أن يقولا كلمة قاطعة ورافضة لمساعي التطبيع الإسرائيلية، مهما كانت المكتسبات أو الفوائد التي تجنيها إندونيسيا من التعاون مع "إسرائيل" التي تمتلك إمكانيات تكنولوجية متفوّقة يحتاجها الإندونيسيون، وخصوصاً في المجالات الطبيّة والزراعية والتعليمية.
وبإمكان إندونيسيا الاستعاضة عن مكاسب، واقعية أو مفترضة، من العلاقات مع "إسرائيل" وراعيتها الولايات المتحدة، من خلال تفعيل علاقاتها مع السعودية وتركيا ومصر وإيران، وصولاً إلى الصين وروسيا والهند وغيرها من القوى العالمية الصاعدة، ومن دون أن تضطرّ إلى المساومة على قضية مقدّسة تبنّتها في دستورها منذ سنوات طويلة.
وفي هذا الإطار، يوضح نائب رئيس مجلس الشعب الاستشاري، هدايت نور، أن رفض "إسرائيل" في إندونيسيا مسألة قانونية ودستورية، وهناك حظر للتطبيع بكل أشكاله، إذ أصدرت وزارة الخارجية الإندونيسية في 8 شباط/فبراير 2019 قراراً لتنظيم العلاقات الخارجية والتعاون الدولي للحكومات المحلية المنتخبة في المحافظات والأقاليم والمدن الإندونيسية.
وتنصّ المادة 150 من القرار على أن "لا علاقة لإندونيسيا بإسرائيل التي تُعَدّ محتلّة لفلسطين. لهذا السبب، فإن إندونيسيا ترفض كل أشكال العلاقة بها".
وأكّد الرئيس الأوّل لإندونيسيا، سوكارنو، أنه ما دامت "إسرائيل" محتلّة لفلسطين، فإن إندونيسيا لن تؤسّس علاقات معها. هذا الموقف لسوكارنو يُفهم ضمن سياق مقدّمة دستور البلاد لعام 1945، التي تؤكّد أن "الاستقلال حقٌ لكل الشعوب. لذلك، لا بدّ من أن تزول كل أشكال الاحتلال على وجه هذه الأرض، لأنها تتعارض مع مبدأي الإنسانية والعدالة".
وأخيراً، لن ينسى العالم كيف نزل ملايين المسلمين الإندونيسيين إلى الشوارع عقب إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب اعتراف بلاده بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل" في 6 كانون الأول/ديسمبر 2017. هذا الأنموذج هو ما يراهن الفلسطينيون والمسلمون على تجديده في أي وقت في مواجهة حملات التطبيع الإسرائيلية المحمومة.