هل تمضي الرياض إلى النهاية في علاقاتها العسكرية مع موسكو؟
التوتر الأخير بين السعودية والولايات المتحدة قد يجعل التقارب العسكري الحالي بين موسكو والرياض مختلفاً عمّا سبقه من محاولات للتقارب.
تكررت خلال مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، المواقف التي لجأ فيها بعض دول الخليج العربي، خاصة المملكة العربية السعودية، إلى فتح باب التواصل مع قوى دولية كبرى تتجاوز الولايات المتحدة الأميركية، خاصة في ما يتعلق بالصفقات العسكرية، واللافت أن هذه المواقف كان القاسم المشترك بينها هو أنها كانت دوماً مرتبطة بالمد والجزر الذي يشوب العلاقات بين العواصم الخليجية وواشنطن.
المملكة العربية السعودية تعدّ المثال الأوضح على هذه المعادلة؛ فبرغم أن تسليحها في أغلبيته العظمى مكوّن بشكل أساسي من منظومات أميركية الصنع، فإن الأسلحة الصينية والروسية كان لها وجود دائم في الترسانة السعودية، خاصة الأسلحة الصينية التي تعدّ المكوّن الأوحد للصواريخ الباليستية في المنظومة العسكرية السعودية.
على مستوى الأسلحة الروسية، كان وجودها على المستوى النوعي والكمي في الترسانة السعودية ضعيفاً بشكل عام، لأن الولايات المتحدة كانت دوماً ما تتلقف أيّ محاولات من جانب الرياض لتوسيع التعاون العسكري مع موسكو، لكنّ التوتر الأخير بين المملكة والولايات المتحدة قد يجعل التقارب العسكري الحالي بين موسكو والرياض مختلفاً عمّا سبقه من محاولات للتقارب، خاصة أن النقاش الحالي بين الجانبين يتعلق بأسلحة ومنظومات نوعية.
المناورة بصفقات السلاح مع روسيا
بشكل عام، تم تدشين نقطة البداية للتقارب السعودي الفعلي مع موسكو في ما يتعلق بالشأن العسكري عام 2008، حين وقّعت موسكو والرياض اتفاقية للتعاون العسكري، ثم استقبل العاهل السعودي في آب/أغسطس من العام التالي وفداً عسكرياً روسياً كبيراً، تضمن أحد كبار مسؤولي شركة "روس أوبورون"، إحدى أكبر وأهم شركات تصنيع الأسلحة الروسية. في ذلك الوقت تحدثت الصحافة الروسية عن أن كلا البلدين على وشك توقيع صفقة بقيمة 2.39 مليار دولار، تتزود بموجبها الرياض بأسلحة وتكنولوجيا عسكرية روسية، وحينها كان الحديث يدور حول شراء الرياض لمروحيات نقل وقتال، ودبابات من نوع "تي-90"، ومركبات مدرّعة لنقل المشاة، إلى جانب منظومات للدفاع الجوي.
اتّضح بعد هذه التطورات أن الرياض كانت تحاول الضغط بشكل غير مباشر على صانع القرار في الولايات المتحدة من أجل السماح بتصدير بعض منظومات الدفاع الجوي - خاصة منظومة باتريوت - إلى الرياض، فضلاً عن أن الرياض حاولت أن تفرض بعض الشروط على الجانب الروسي من أجل إتمام الصفقة التي تم اقتراحها عام 2008، وتم إعادة التفاوض عليها عام 2012، مثل إلزام روسيا بعدم بيع منظومات متقدمة للدفاع الجوي إلى إيران، خاصة منظومات "أس-300"، وهو ما رفضته روسيا.
لذا، فعلياً لم يتم توقيع أيّ صفقات عسكرية بين المملكة وروسيا، حتى تموز/يوليو عام 2017، حين أعلنت شركة "روس أبورون" أن كلا البلدين توصّلا إلى اتفاق مبدئي حول صفقة أسلحة قيمتها 3.5 مليارات دولار، وهو ما تم بالفعل في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، خلال زيارة العاهل السعودي لموسكو، حيث وقّعت الشركة السعودية للصناعات العسكرية مذكّرة تفاهم مع الشركة الروسية، تشمل الإنتاج المحلي ونقل تكنولوجيا التصنيع لمنظومات الصواريخ الموجهة ضد الدبابات "كورنيت"، والرشاشات الخفيفة من نوع "كلاشنيكوف-103"، وقاذفات القنابل اليدوية "أيه جي أس-30"، إلى جانب منظومات المدفعية الصاروخية "توس-1".
الملاحظ هنا أن هذه الصفقة في مجملها لم تتضمن أيّ أسلحة نوعية من الممكن أن تتسبّب في خلق خلل جدي في العلاقة بين الرياض وواشنطن، لكنها في الوقت نفسه كانت خطوة متقدمة من جانب المملكة بالنظر إلى أن جميع التلميحات السابقة حول صفقات سلاح مع روسيا لم يكن لها أساس من الصحة.
يضاف إلى ذلك أن الصحافة الروسية تحدثت، في وقت توقيع هذه الصفقة، عن أن الرياض وقّعت بالفعل على مذكّرة تفاهم، لإطلاق مباحثات بشأن تزويدها بمقاتلات من نوع "سوخوي-35" ومنظومات الدفاع الجوي الروسية المتفوقة "أس-400". هذه المذكرة وإن كان السفير السعودي في موسكو قد أعلن في شباط/فبراير 2018 أن المفاوضات النهائية الخاصة بشأنها قد بدأت بالفعل، إلا أن واقع الحال يشير إلى أن هذه المذكرة لم يتم تفعيلها بشكل عملي حتى الآن، وهو ما يشير إلى أن هذا الملف يعتبر من وجهة النظر السعودية ورقة للمناورة، في نهج مشابه للنهج الذي اتبعته أنقرة في هذا الملف، وبالفعل نجحت الرياض في التعاقد على منظومة "ثاد" الأميركية للدفاع الجوي البعيد المدى في تشرين الأول/أكتوبر عام 2017.
إحياء ملف الـ "أس 400" مرة أخرى
عاد هذا الملف إلى الواجهة مرة أخرى عقب قيام إدارة بايدن، في كانون الثاني/ يناير الماضي، بتجميد مبيعات الأسلحة الأميركية للمملكة، وتبعت هذا الإجراء عمليات سحب متتالية لبطاريات الدفاع الجوي الأميركية "باتريوت" من الأراضي السعودية، وهو ما قرأته المملكة كتراجع حاد في الدعم العسكري الأميركي، ليس فقط في ما يتعلق بالسياسة الدفاعية للمملكة، بل أيضاً في ما يتعلق بالحرب في اليمن، لذا عادت الرياض إلى المناورة مرة أخرى بملف "أس-400"، واستقبلت في آذار/ مارس الماضي وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، لمناقشة إمكان شراء هذه المنظومة.
التطور الأبرز في هذا المسار كان في آب/أغسطس الماضي، حين زار نائب وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان آل سعود، العاصمة الروسية، من أجل المشاركة في معرض "الجيش-2021"، وعقد حينها مباحثات مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ونائبه الفريق أول ألكسندر فومين، ووقّع مع هذا الأخير اتفاقية لتطوير مجالات التعاون العسكري بين البلدين. الأوساط العسكرية في روسيا والمملكة تحدثت عن أنه تمت إعادة التفاوض حول منظومات "أس-400" خلال هذه المباحثات، وكذلك على منظومات أخرى مثل مقاتلات"سوخوي-35"، التي كان الجانبان قد وصلا عام 2017 إلى مرحلة متقدمة من المفاوضات لتوريد ما بين 12 إلى 18 مقاتلة منها إلى سلاح الجو السعودي.
من المنظومات التي بدأ التفاوض بشأنها بين الجانبين، منظومة الحرب الإلكترونية "كراسوخا"، وهذه الأخيرة تعتبر من أولويات الجيش السعودي، إلى جانب منظومات الدفاع الجوي البعيدة المدى، نظراً إلى فشله المستمر في التصدي للذخائر الجوالة والصواريخ الباليستية المطلقة من اليمن.
التصاعد المستجد في العلاقات العسكرية بين موسكو والرياض يعزّزه استمرار التبعات السلبية بين الرياض وواشنطن، وكان آخر دلائل هذه التبعات السلبية، تأجيل المملكة في أيلول/ سبتمبر الماضي الزيارة التي كانت مقررة لوزير الدفاع الأميركي لويد أوستن للرياض، وكذا استقبال ولي العهد السعودي رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما الروسي، في التوقيت نفسه الذي كانت زيارة أوستن مقرّرة فيه.
تصعيد غير محتمل
بشكل عام، لا يتوقع أغلب متابعي الشأن السعودي أن تُقدم المملكة في المدى المنظور على توقيع صفقات عسكرية نوعية مع موسكو، بالنظر إلى خشية الرياض من تأثر علاقاتها بواشنطن، وكذلك بسبب بعض النقاط الخلافية مع موسكو، خاصة في ما يتعلق بالعلاقات مع إيران.
تشير التوقعات إلى أن الرياض قد تكتفي بتوقيع صفقة إضافية غير نوعية مماثلة لصفقة عام 2017، بهدف توجيه رسالة جديدة للولايات المتحدة الأميركية، وهنا تضع الرياض أمام ناظريها ما حدث للعلاقة التركية - الأميركية بعد حصول أنقرة على منظومات "أس-400".
النقطة اللافتة في هذا الأمر هو ملاحظة أن الرياض بدأت بشكل واضح بتوسيع قاعدة صناعاتها العسكرية، اعتماداً على اتفاقيات نقل تكنولوجيا التصنيع التي وقّعتها خلال السنوات الماضية مع دول عديدة، ومن بينها روسيا وتركيا. فقد بدأت الرياض، في آذار/مارس الماضي، تصنيع طائرة الاستطلاع من دون طيار التركية الصنع "كاراييل سو"، بترخيص من شركة "فيستيل" التركية، بموجب اتفاقية لنقل تكنولوجيا التصنيع تم توقيعها عام 2017.
يضاف إلى ذلك إعلان المملكة في أيلول/سبتمبر الماضي عن تأسيس "الهيئة العامة للتطوير الدفاعي"، بهدف إدارة وتطوير وتصنيع وشراء الأنظمة الدفاعية المختلفة، خاصة أن أحد أهداف الاستراتيجية العسكرية للمملكة، هو الوصول بنسبة المنتج المحلي في المنظومات الدفاعية التي تمتلكها المملكة إلى 50 في المئة بحلول عام 2030، وهو ما يطرح احتمال توسيع الرياض في المدى المنظور تعاونها العسكري مع بعض الدول الأوروبية والآسيوية، وهو ما قد يكون أقل استفزازاً لواشنطن.
على الجانب الآخر، يرى بعض المحللين أن الرياض قد تكون أمامها فرصة سانحة لطرح ملف "أس 400" و"سوخوي 35"، مقابل دخولها كشريك في بعض المشاريع العسكرية الأميركية، مثل مشروع مقاتلة الجيل الخامس "أف-35"، الذي سبق أن حاولت المملكة الحصول على أعداد منها ولم تلقَ تجاوباً من الولايات المتحدة الأميركية. أصحاب هذا الاقتناع يرتكزون على تجربة شراء الرياض للصواريخ الباليستية الصينية البعيدة المدى "سي أس أس-2" المسمّاة "رياح الشرق"، التي يصل مداها إلى 2500 كيلو متر، حيث خدمت الظروف الإقليمية في فترة الثمانينيات حينها المملكة، ولم تلقَ هذه الخطوة معارضة من الإدارة الأميركية حينها.
خلاصة القول إن اقتراب الرياض من موسكو عسكرياً يعتبر تكتيكاً سبق أن قامت الرياض بتجربته في حقب سابقة، وكانت له نتائج إيجابية في العلاقة مع واشنطن، لكن تبقى الشكوك قائمة في إمكان تحقيق نتائج مماثلة في التجربة الحالية، بالنظر إلى متغيرات إقليمية ودولية عديدة، ما بين تغيّرات جذرية في الأولويات الاستراتيجية لواشنطن على المستوى الدولي، واحتمالات جدية للتوصل إلى اتفاق نووي جديد بين طهران والمجتمع الدولي.