هل تخسر أربيل معركة النفط مع بغداد؟
أطلق كبار المسؤولين في حكومة الإقليم والحزب الديمقراطي الكردستاني هجمات وانتقادات حادة ولاذعة للمحكمة الاتحادية.
يبدو أن تفاعلات وتداعيات حكم المحكمة الاتحادية العراقية العليا، الصادر في منتصف شهر شباط/فبراير الماضي، والقاضي بعدم دستورية قانون النفط والغاز الخاص بإقليم كردستان في شمال البلاد لعام 2007، توسعت وتصاعدت إلى حد كبير، وأكثر من التوقعات، حتى إنها أفضت إلى مزيد من خلط الأوراق والتأزم بين المركز والإقليم، في الوقت الذي تسعى أطراف مختلفة لحلحلة المواقف وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين، من أجل كسر حال الجمود السياسي التي تسببت بتعطل تشكيل الحكومة الجديدة، رغم مرور أكثر من 9 شهور على إجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة.
ويلزم قرار المحكمة الاتحادية العليا حكومة إقليم كردستان "بتسليم كامل إنتاج النفط من الحقول النفطية في الإقليم والمناطق الأخرى التي كانت وزارة الثروات الطبيعية في حكومة إقليم كردستان تستخرج النفط منها للحكومة الاتحادية المتمثلة بوزارة النفط العراقية، وتمكينها من استخدام صلاحياتها الدستورية بخصوص استكشاف النفط واستخراجه وتصديره".
في مناسبات سابقة، كانت القضايا والملفات الخلافية بين بغداد وأربيل تحسم عبر تفاهمات ومساومات سياسية معينة أو تبقى معلّقة وعرضة للشدّ والجذب والتحشيد السياسي والإعلامي، لكن الأمور هذه المرة اتخذت مسارات مختلفة، ربما لم تكن متوقعة ومحسوبة من قبل حكومة الإقليم.
بدلاً من أن تنتظر وزارة النفط في الحكومة الاتحادية الخطوات والإجراءات التي يمكن أن تتمخض عنها المباحثات بين مراكز القرار العليا، شرعت في اتخاذ زمام المبادرة والعمل على تطبيق حكم المحكمة الاتحادية، من خلال مخاطبة شركات النفط والغاز العاملة في الإقليم بوجوب إبرام عقود جديدة مع شركة تسويق النفط الوطنية (سومو) بدلاً من حكومة الإقليم، إذ صرح وزير النفط في الحكومة الاتحادية إحسان عبد الجبار مطلع شهر أيار/مايو الماضي أنّ "وزارة النفط ستبدأ بتنفيذ حكم المحكمة الاتحادية الصادر في شباط/فبراير الماضي".
ولم تنتظر حكومة أربيل المحلية طويلاً، لتعلن رفضها وعدم تطبيقها قرار المحكمة الاتحادية، إذ صرح مستشار رئيس حكومة إقليم كردستان لشؤون الطاقة ريبوار خنسي، رداً على وزير النفط الاتحادي: "إن الإقليم لن يلتزم قرار المحكمة الاتحادية بخصوص قانون النفط والغاز في الإقليم، والحكومة العراقية لن تستطيع تنفيذ هذا القرار".
أكثر من ذلك، أطلق كبار المسؤولين في حكومة الإقليم والحزب الديمقراطي الكردستاني هجمات وانتقادات حادة ولاذعة للمحكمة الاتحادية، معتبرين أنها غير دستورية، على اعتبار أنها تشكّلت بقرار من الحاكم المدني الأميركي السابق بول بريمر، علماً أنَّ هؤلاء المسؤولين نفسهم أشادوا بمهنية المحكمة وموضوعيتها وحياديتها، حين أصدرت أحكامها الخاصة بشأن صحة نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بعد أن ردت الطعون التي تقدم بها الإطار التنسيقي وقوى أخرى.
وتواصلت لغة التصعيد المتبادل لتصل إلى التشهير بوزارة النفط ووزيرها وعدد من كبار مسؤوليها، بنشر وثائق تشير إلى شبهات فساد بحقهم، في مقابل استمرار الوزارة في إجراءاتها وخطواتها الجادة لقطع كلّ الطرق أمام الإقليم وإرغامه على الإذعان والخضوع لحكم المحكمة الاتحادية.
لقد انتدبت الوزارة شركة المحاماة الدولية (كليري غوتليب ستين أند هاملتون) للتواصل مع شركات النفط والغاز العاملة في إقليم كردستان، "لبدء المناقشات، بحيث تتوافق عملياتها مع القانون العراقي المعمول به"، وفق خطاب موجه منها إلى الشركة المذكورة في الثامن من أيار/مايو الماضي، موضحة أنَّ تنفيذ حكم المحكمة الاتحادية سيتطلّب إدخال تغييرات على أنظمة عقود الشركات. وقد شكّل ذلك الخطاب أول تواصل مباشر بين الوزارة وشركات النفط العاملة في الإقليم.
هذه الخطوات والإجراءات غير المسبوقة هي التي دفعت اثنتين من كبريات الشركات الأميركية العاملة في الإقليم في مجال التنقيب عن النفط والغاز، وهما شركة "بيكر هيوز" وشركة "شلمبرجر" الأميركية، إلى الانسحاب من إقليم كردستان، التزاماً بقرار المحكمة الاتحادية.
وبحسب بيان للجنة العليا للنفط في أربيل، "إنّ شركة بيكر هيوز الأميركية أبلغتها التزامها قرار المحكمة الاتحادية والانسحاب"، فيما نقلت وكالة الأنباء العراقية (واع) عن مصادر رسمية "أنّ شركة شلمبرجر الأميركية أرسلت رسالة في وثيقة رسمية إلى وزارة النفط العراقية تؤكد التزامها قرار المحكمة الاتحادية المرقم 59، والمتضمن عدم التعامل مع إقليم كردستان فيما يخص الملف النفطي"، في حين أعلنت شركة "إكسون موبيل" النفطية الأميركية أواخر شهر نيسان/أبريل الماضي انسحابها من العمل في القطاع النفطي في الإقليم، عازيةً السبب في ذلك إلى قلة الجدوى الاقتصادية في الحقول النفطية التي تعمل فيها.
وقد أوضح في حينه المشرف على منظمة "رونبين" المختصة بقطاع الطاقة في الإقليم، يادكار صديق، "أنّ الأخبار المتداولة والمنشورة في الإعلام الغربي بشأن انسحاب الشركة من حقول كردستان ليس أمراً جديداً، لأن الشركة عزمت على ذلك منذ فترة، لأسباب تتعلق بقلة الأرباح وانخفاض الجدوى الاقتصادية لتلك الحقول بالنسبة إليها"، بيد أن مطلعين على جانب من خفايا الأمور في بغداد يؤكدون أن "إكسون موبيل" التي تملك استثمارات كبيرة في حقول نفطية في جنوب العراق، أبرزها حقل القرنة، أرادت أن تحافظ على تلك الاستثمارات من خلال التزام قرار المحكمة الاتحادية.
ومن الطبيعي جداً، حين تنسحب الشركات الكبرى، وهي بلا شك لم تتخذ قرارات انسحابها بطريقة انفعالية وارتجالية، أن الشركات المتوسطة والصغيرة لا بدّ من أن تفكر في أن تسير في الاتجاه نفسه. هذا في حال كان عملها يحمل طابعاً قانونياً. أما إذا كانت تعمل بطرق وأساليب غير قانونية ملتوية، فهي ربما سوف تواجه تبعات ومشاكل كبيرة وكثيرة.
ولا شك في أنّ تلك المستجدات تجعل حكومة إقليم كردستان في وضع حرج للغاية، فهي في السابق لم تكن تعبأ كثيراً بأي خطوات تتخذها الحكومة الاتحادية، لاطمئنانها إلى أنها قادرة على تأمين مصالح الشركات النفطية المستثمرة في القطاع النفطي في الإقليم، إلا أن الأمور تبدلت الآن، ووجدت نفسها أمام خيارين أحلاهما مرّ؛ الأول أن تصر على موقفها الرافض قرار المحكمة الاتحادية. ومع مرور الوقت، ستنسحب أغلب الشركات من دون أي ترتيبات أو تعديلات لاتفاقياتها مع الإقليم بما ينسجم مع قرار المحكمة. وعندئذ، سيخسر الإقليم جزءاً كبيراً جداً من موارده المالية الأساسية، مع زيادة الضغوطات عليه من المركز.
ويتمثل الخيار الثاني بالإذعان والقبول، ما سيجعل كل التعاملات والاتفاقيات السرية السابقة مكشوفة، ولن يكون متاحاً الالتفاف والمراوغة إلا بقدر قليل جداً.
حتى الآن، لم تلُح في الأفق أي مؤشرات على استعداد حكومة الإقليم على القبول بالأمر الواقع والتعامل مع شركة "سومو"، علماً أن وزارة النفط الاتحادية أعلنت في وقت سابق نيتها إنشاء شركة نفط خاصة بالإقليم تخضع لإشرافها الكامل، وتكون إدارتها لحكومة أربيل، في حين ما زالت الأخيرة ترى أن المخرج الوحيد والمناسب لإنهاء الخلافات والتقاطعات بين الطرفين يتمثل بإقرار البرلمان العراقي الاتحادي قانون النفط والغاز.
ولعلّ ما زاد الطين بلّة هو تعرض منشآت مختصة باستخراج الغاز وإنتاجه، تديرها شركة "دانه غاز" الإماراتية في حقل كرومور في قضاء جمجمال التابع لمحافظة السليمانية، لهجمات صاروخية مطلع الأسبوع المنصرم.
وتعد تلك الهجمات الثالثة من نوعها خلال فترة زمنية قصيرة، علماً أن مصفاة نفط كاوركوسك التي تمثل أكبر المصافي في المنطقة الغنية بالنفط الواقعة شمال غرب أربيل تعرّضت في شهر نيسان/أبريل الماضي لهجمات صاروخية مماثلة.
وبينما وجهت أصابع الاتهام إلى فصائل مسلحة قريبة من الحشد الشعبي، اتهمت كتائب حزب الله في العراق مجاميع مرتبطة بالمخابرات التركية بالوقوف وراء استهداف حقول النفط والغاز في إقليم كردستان، إذ قال المتحدث باسم الكتائب جعفر الحسيني: "بحسب معلومات الجهد الاستخباري والأمني، فإنّ مجاميع مارقة تسكن في قضاء طوخورماتو، وعلى ارتباط بالمخابرات التركية، هي من يقوم بقصف حقول كردستان".
في الوقت ذاته، أصدرت الهيئة التنسيقية للمقاومة العراقية بياناً قالت فيه: "نعتقد أنّ ما حصل من عمليات استهداف لبعض الشركات في السليمانية هو عمل تخريبي تقف خلفه جهات خارجية، والغرض منه هو تقويض الجهود المبذولة للخروج من أزمة البلاد".
وبصرف النظر عن الجهة المتورطة في تلك الهجمات والأهداف الكامنة وراءها، فإن مثل ذلك الاستهداف، ما لم يدفع شركة "دانه غاز" الإماراتية إلى مراجعة حساباتها والإقدام على الخطوة ذاتها التي اتخذتها الشركات النفطية الأميركية المشار إليها آنفاً، سيكون بلا أدنى شك عاملاً طارداً وغير مشجع لأي شركات بترولية أخرى حتى للتفكير في التوجه إلى إقليم كردستان والعمل فيه، ولن تكون الأمور كما قال نائب رئيس حكومة الإقليم قوباد الطالباني: "عزيمة الشركات العاملة في كردستان أكبر من أن تنهار بصاروخين".
وربما لا يختلف اثنان على أن فرص الإقليم في جلب استثمارات جديدة في قطاعات النفط والغاز آخذة بالانحسار إلى حد كبير، ما يمكن أن يعمق الأزمات المالية والاقتصادية والحياتية العامة، ولا سيما تأمين رواتب الموظفين الحكوميين والمتقاعدين وذوي الشهداء والفئات الاجتماعية الأخرى التي تتقاضى رواتب أو إعانات مالية منتظمة من الحكومة، ناهيك بإمكانية توفير الوقود بأسعار مناسبة، وبكميات كافية. والملاحظ أن الإقليم يشهد منذ أكثر من 4 شهور أزمة خانقة في البنزين، مع ارتفاع أسعاره بشكل ملحوظ مقارنة بأسعاره في محافظات الوسط والجنوب.
قد يأمل أصحاب القرار في الإقليم تشكيل الحكومة الجديدة في أقرب وقت، وفق الشروط والمبادئ التي شدد عليها رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، المتمثلة بالشراكة والتوازن والتوافق، لتكون مفتاحاً لحل المشكلات بين بغداد وأربيل، ولكن نظراً إلى تشابك الملفات والقضايا العالقة وتداخلها، فإن أي حكومة، وأياً كان رئيسها، لن تكون قادرة على حلحلة الأمور في غياب الثقة والوضوح والشفافية، وفي غياب الاستعداد الحقيقي لحل المشكلات، لا الالتفاف والقفز عليها.