هل تتمكن "طالبان" من تشغيل الأسلحة الأميركية؟
الأيام القادمة ستظهر ما إذا كانت "طالبان" ستتمكَّن من استيعاب الأسلحة وتنظيمها لاستخدامها بشكل فعّال أو أننا قد نرى بعض هذه الأسلحة بحوزة أطراف أخرى.
تعدّدت المشاهد التي تظهر فيها الأسلحة الأميركية الصنع التي تركتها وحدات الجيش الأفغاني وعناصر الجيش الأميركي أثناء انسحابهم "المتعجل" من العاصمة كابول والمدن الأفغانية الرئيسية، لكن السؤال الذي يفرض نفسه في المرحلة الحالية: ما أهمية ما تُرِك من أسلحة وعتاد، وخصوصاً في ظلِّ تخريب القوات المنسحبة بعض هذه الأعتدة قبيل انسحابها؟
كانت هذه الأسلحة والأعتدة العسكرية من المرتكزات التي ارتكز عليها كلّ من انتقد طريقة الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وآخرهم أحد قادة كتائب مشاة البحرية الأميركية الذين عملوا على الأراضي الأفغانية، وهو الكولونيل ستيوارت شيللر، الذي قام سابقاً بتصوير فيديو ينتقد من خلاله طريقة هذا الانسحاب، وضياع مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب الأميركيين، وتحوّلها لتصبح - على شكل أعتدة وذخائر وأسلحة - في حوزة من هاجمهم الجيش الأميركي منذ 20 عاماً.
اللافت هنا أنه رغم اعتراف قادة عسكريين أميركيين رفيعي المستوى، على رأسهم رئيس الأركان المشتركة الأميركية مارك ميلي، بأن الولايات المتحدة مُنيت بفشل استراتيجي هائل في أفغانستان، نتيجة تكتل سلسلة من القرارات الخاطئة على مدار الأعوام الماضية، فإن شيللر يقبع حالياً في السجن بعد عزله من الجيش الأميركي، منتظراً محاكمته بتهمة مخالفة القوانين العسكرية.
في ما يتعلّق بالأعتدة العسكرية التي وقعت في حوزة حركة "طالبان"، فقد كانت من أهم الأدوات التي ساعدتها على التقدم ميدانياً بسرعة لافتة. بشكل عام، اتبعت حركة "طالبان" في تحركاتها الميدانية تكتيكاً بدأ بمحاصرة المواقع العسكرية الأفغانية في المحافظات النائية، واستغلال عدم وصول إمدادات إليها، وترغيب الجنود المتواجدين داخلها بالسماح لهم بالانسحاب شرط ترك كل أسلحتهم، وهو ما منح الحركة، منذ بداية أيار/مايو الماضي، كميات كبيرة من الأسلحة ومساحات واسعة من الأراضي والطرقات.
منذ أواخر حزيران/يونيو الماضي، تحول هذا التكتيك ليركّز على المعابر الحدودية وعواصم المقاطعات، وهو ما أعطى إيحاء للمقاطعات الداخلية بأنَّ الغلبة قد دانت للحركة، ما تسبَّب بسقوط عدد كبير من المقاطعات الجنوبية والوسطى من دون قتال تقريباً.
ساهم هذا التكتيك، إلى جانب عوامل أخرى، منها تقلّص ثقة القوات النظامية الأفغانية بقيادتها العسكرية والسياسية، وتفضيل أغلبها تسليم معسكراتها وأسلحتها لحركة "طالبان"، سواء عبر الاستسلام أو عبر عقد التسويات، في استيلاء الحركة على تشكيلة متنوعة وكبيرة من العربات المدرعة والدبابات والمدافع والرشاشات والبنادق الهجومية والذخائر الخفيفة والمتوسطة. وقد استغلت الحركة صور هذه "الغنائم" للتأثير في ما تبقى من مقاومة من جانب الجيش النظامي الأفغاني خلال المراحل الأخيرة قبل دخولها كابول، وخصوصاً أن هذه الغنائم شملت طائرات حربية.
المصير الّذي لاقته هذه الأسلحة والأعتدة، كان حصيلة أخطاء كلٍّ من الجيش النظامي الأفغاني والجيش الأميركي، علماً أنَّ الأخير حاول على استحياء تخريب بعض المعدات العالية القيمة التي اضطر إلى تركها خلفه، لكن في النهاية كان قسم كبير من المجموع الكلي للأسلحة والأعتدة التي سيطرت عليها حركة "طالبان" صالحاً للاستخدام، وخصوصاً من جانب وحدات تعمل وفق الآليات التي تعمل بها "الميليشيات شبه العسكرية".
عقدان من توريد الأسلحة لكابول
تظهر الأرقام المتوفّرة لحجم التدفّقات العسكرية من الأسلحة والذخائر التي تسلَّمها الجيش الأفغاني خلال الفترة بين العامين 2001 و2020، أنّ إجمالي المساعدات العسكرية التي تلقّتها كابول من الولايات المتحدة خلال هذه الفترة كان نحو 80 مليار دولار، لكنّ القسم المخصّص منها لشراء وتمويل الأسلحة التي تم شراؤها لمصلحة الجيش الأفغاني كان يقدّر بنحو 28 مليار دولار. ويشمل هذا القسم شراء الرشاشات الهجوميّة والمدافع والذخائر المتنوعة وأجهزة الرؤية الليلية والطائرات المروحية والطائرات من دون طيار وناقلات الجند المدرّعة.
وفقاً لبيانات مركز "ستوكهولم" الدولي لأبحاث السلام، كانت الولايات المتحدة الأميركية خلال الفترة بين العامين 2003 و2020، هي المورد لنحو 74% من واردات أفغانستان من الأسلحة والذخائر، إلا أنَّ الصادرات العسكرية الأميركي تزايدت خلال السنوات الخمس السابقة، لتشكّل نحو 90% من واردات أفغانستان العسكرية.
خلال السّنوات العشرين الماضية، زوّدت الولايات المتحدة القوات الأفغانيّة بما يقدّر بنحو 21924 ناقلة جند مدرعة، و208 طائرات متنوعة، و65 طائرة من دون طيار من نوع "سكان إيجل"، إلى جانب ما لا يقل عن 600 ألف بندقية هجومية، ونحو 16 ألف جهاز للرؤية الليلية، إلى جانب كمّيات كبيرة من وسائط الاتصال والمدافع المتنوعة والذخائر المتوسّطة والخفيفة والقنابل والصواريخ.
تُضاف إلى هذه المعدّات والأسلحة، كميات أخرى من الأسلحة وصلت من نحو 15 دولة أخرى إلى الجيش الأفغاني، على شكل هبات أو بموجب صفقات موّلتها الولايات المتحدة، مثل روسيا التي كانت ثاني أكبر مورد للأسلحة لأفغانستان، بإجمالي 14% من واردات كابول من الأسلحة خلال الفترة بين العامين 2002 و2014. وكانت أغلب هذه الواردات تتعلق بنحو 90 مروحية نقل مستعملة من نوعي "مي-8" و"مي17".
يُضاف إلى الولايات المتحدة وروسيا عدة دول من حلف شمال الأطلسي، منها إيطاليا التي صدرت إلى كابول ما يناهز 4% من واردات أفغانستان من الأسلحة، بما في ذلك نحو 16 طائرة نقل مستعملة من نوع "جي-222"، وجمهورية التشيك التي زودت سلاح الجو الأفغاني بـ12 مروحية من نوعي "مي-24" و"مي 17"، وجمهورية البوسنة والهرسك وجمهورية تركيا، اللتان قدّمتا عشرات قطع المدفعية المستعملة للجيش الأفغاني. وقدّمت النرويج ما يقدر بـ159 صاروخ "تاو" مضاداً للدبابات.
كما زوّد العديد من الدول غير الأعضاء في الناتو الجيشَ الأفغاني بأصناف نوعية من الأسلحة، منها البرازيل التي كانت رابع أكبر مورد للأسلحة إلى كابول، بما في ذلك 26 طائرة تدريب متقدم من نوع "سوبر توكانو"، كانت تعدّ القوة الهجومية الأولى في سلاح الجو الأفغاني، نظراً إلى قدرتها على حمل ذخائر.
من جانبها، زوّدت سويسرا كابول بـ18 طائرة نقل خفيفة من نوع "بي سي-12"، وقامت الهند بتقديم 7 مروحيات لسلاح الجو الأفغاني، من بينها 3 مروحيات خفيفة للاستطلاع من نوع "شيتال"، و4 مروحيات هجومية من نوع "مي-24"، إلى جانب تمويل نيودلهي صفقة شراء 4 مروحيات قتالية أخرى من بيلاروسيا في العام 2019.
أسلحة ضخمة في حوزة "طالبان"
تشير التقديرات الغربية إلى أنّ أغلبية الأسلحة والمعدات العسكرية السالف الإشارة إليها أصبحت بحوزة حركة "طالبان"، منها نحو 2000 ناقلة جند مدرعة، إلى جانب عشرات الدبابات ومئات قطع المدفعية المتنوعة، ناهيك بكميات ضخمة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
النقطة الأهم هنا تتعلَّق بالطائرات المروحية وذات الجناح الثابت. وعلى الرغم من أن القوات الأميركية قامت قبيل انسحابها من مطار حامد كرزاي في العاصمة كابول بإعطاب نحو 28 طائرة ذات جناح ثابت و47 مروحية متنوعة، فإنَّ حركة "طالبان" وضعت يدها في مطارات أخرى على 13 طائرة ذات جناح ثابت، وما بين 20 و45 مروحية متنوعة، إلى جانب 7 طائرات استطلاع من دون طيار من نوع "سكان إيجل"، بعضها كان مخزّناً.
في حقيقة الأمر، إنَّ بعض الأوساط الغربية ركز على هذه النقطة، باعتبار أنَّ حركة "طالبان" نجحت خلال الفترة الأخيرة بتشغيل عدة مروحيات من نوعي "بلاك هوك" و"مي-17". واعتبرت هذه الأوساط أنَّ الحركة باتت تحوز قوة جوية مخصّصة للنقل، لكنَّ حقيقة الأمر أنَّ غياب قطع الغيار والدعم الفني اللازم لإدامة تحليق هذه المروحيات يجعلان هذه الطائرات مجرد أرقام ضمن الخسائر التي تكبّدتها الولايات المتحدة في أفغانستان.
رغم هذا، يمكن لحركة "طالبان"، في حالة تمكنها من تكوين فرق للصيانة بمساعدة خارجية، من استغلال قطع الغيار الموجودة في الطائرات والمروحيات التي تم إعطابها من جانب القوات الأميركية في مطار كابول، من أجل إطالة أمد الخدمة العملياتية لما تملكه حالياً من طائرات عاملة، علماً أن سحب كل الوحدات العسكرية الأميركية من أفغانستان قد تضمن بطبيعة الحال سحب الفنيين الذين كانوا يقدمون الدعم التشغيلي والفني لسلاح الجو الأفغاني، ما قلَّص بشكل كبير من الصلاحية الفنية لمعظم الطائرات الموجودة في الترسانة الأفغانية.
المشكلة الأخرى الّتي قد تواجه حركة "طالبان" في هذا الصدد هي توفر الطيارين، فقد أظهرت صور الأقمار الصناعية المتوفرة أنَّ مجموعة كبيرة من طائرات سلاح الجو الأفغاني توجّهت، قبيل دخول حركة "طالبان" إلى كابول، إلى أوزبكستان المجاورة، وتحديداً مطار "تيرميز"، إذ وصلت إلى هذا المطار تشكيلة من 46 طائرة ومروحية تابعة لسلاح الجو الأفغاني، من ضمنها 6 طائرات للهجوم الأرضي أميركية الصنع من نوع "سوبر توكانو"، إلى جانب 11 طائرة للاستطلاع والمراقبة من نوع "بيلاتوس"، مضافاً إليها أعداد من مروحيات النقل الأميركية الصنع "بلاك هوك" والروسية الصنع "مي-17". يُضاف إلى هذه الطائرات نحو 15 طائرة ومروحية لجأت إلى مطار مدينة "بخارى" في طاجيكستان.
مجموع الطيارين الذين تم نقلهم على متن هذه الطائرات يبلغ 475 طياراً وملاحاً، بدأت عمليات نقلهم إلى قاعدة عسكرية أميركية في الإمارات العربية المتحدة منتصف الشهر الماضي، نظراً إلى أنَّ حركة "طالبان" طالبت الحكومة الأوزبكية بتسليمهم، وهو ما يعني عملياً أنَّ الحركة تفتقر إلى العنصر الفني البشري اللازم لتشغيل الطائرات التي ما زالت موجودة بحوزتها.
بالنّسبة إلى حركة مسلّحة مثل حركة "طالبان"، يمكن القول إنَّ قطع المدفعية والشاحنات العسكرية وناقلات الجند المدرعة وراجمات الصواريخ والأسلحة الخفيفة والمتوسطة، تعدّ بالنسبة إليها أهم وأثمن من الطائرات والمروحيات، وخصوصاً أنَّ المعدات التي تركتها القوات الأميركية خلفها تشمل أجهزة متقدّمة للرؤية الليلية، ومنطاد استطلاع من نوع "أيروستات" تركته القوات الأميركية في مطار قندهار، وروبوتات خاصّة بالكشف عن الألغام والمتفجّرات، وكذلك أجهزة قياس بايومترية كانت القوات الأميركية تستخدمها للتدقيق في هُوية الأفغان المتعاونين معها، عن طريق مسح قزحية العين وبصمات الأصابع، ومطابقتها مع البيانات الموجودة في قواعد البيانات المركزية الأميركية الخاصة بالمتعاونين الأفغان. يُضاف إلى ذلك أنَّ حركة "طالبان" صادرت كمّيات إضافية ضخمة من الأسلحة والذخائر، بعد دخولها وادي بنجشير شرقي البلاد مؤخراً، تضمّنت عدداً كبيراً من الصواريخ الباليستية السوفياتية "لونا-أم" و"سكود-بي".
خلاصة القول إنَّ الانسحاب الأميركي "المرتبك والمتعجّل" من أفغانستان ساهم بشكل كبير في تقديم كميات ضخمة وباهظة الثمن من الأسلحة والذخائر لحركة "طالبان"، لكنه في الوقت نفسه لم يمنحها "قدرات نوعية" تميزها عن أي حركات مسلحة مماثلة.
تبقى الأيام القادمة هي الفيصل في تحديد ما إذا كانت الحركة ستتمكَّن من استيعاب هذه الأسلحة وتنظيمها بشكل يمكن من خلاله ضبط استخدامها أو أننا قد نرى قريباً بعض هذه الأسلحة بحوزة أطراف أخرى!