هل العراق ملعب لنفوذ تركيا؟
تحاول أنقرة دق إسفين بين الإقليم الكردي والحكومة المركزية مستفيدة من خلافات المكوّنات الاجتماعية والسياسية العراقية.
تتصرّف تركيا وكأن العراق ما زال في فترة الحرب في تسعينيات القرن الماضي، وكما لو أن "اتفاقية التعاون وأمن الحدود" لعام 1983، التي فتحت الطريق أمامها للقيام بالعمليات ضد حزب العمال الكردستاني في الداخل العراقي ما زالت فاعلة.
لقد شكّلت هذه الاتفاقية أرضية مشروعةً للعمليات ضد حزب العمال الكردستاني، وكان قد تمّ توقيع بروتوكول أمني عام 1984 فتح الطريق أمام القوات التركية لدخول الحدود العراقية إلى عمق 5 كيلومترات. راهنت الحكومات التركية المتعاقبة على الخلافات الداخلية العراقية، ولا تزال سياستها تدور حول النفوذ الإقليمي وحول مسألة الموصل كركوك، وما يتصل بها من قضايا الحدود والنفط، وحول مسألة المياه.
تلعب السياسة الخارجية التركية في ملعب كردستان العراق وتراهن على التناقضات الكردية – الكردية، كما تحاول دق إسفين بين الإقليم الكردي والحكومة المركزية في بغداد، مستفيدة من خلافات المكوّنات الاجتماعية – السياسية العراقية، وذلك من أجل ضمان نفوذها في البلاد، كما تلعب على التناقضات الشيعية - الشيعية التي تحدث ثغرة كبيرة في جسم الدولة العراقية وتقودها إلى الفراغ، ولا سيّما أن الطوائف العراقية السنيّة مكّنت نفسها بفضل علاقاتها الإقليمية السعودية – التركية، بينما ما زال الشرخ بين بعض القيادات العراقية مع إيران يركّز على سلطته في الداخل ويتغاضى عن تأثير الصراعات الإقليمية التي تسعى إلى إضعاف سلطة كل حكومة عراقية تراعي العلاقة مع إيران كجزء من الصراع الإقليمي، فيأتي طرح النأي بالنفس ليضعف هذا الموقع ويصبّ في مصلحة المحور الأميركي والإسرائيلي.
تركيا والعلاقة مع إقليم كردستان العراق
بدأت علاقة تركيا بحكومة إقليم كردستان في تسعينيات القرن الماضي، عقب حرب الخليج الأولى، واعتُبر الغزو الأميركي للعراق عام 2003 من نقاط التحوّل المهمّة في سياسة تركيا تجاه الإقليم، حيث جرى تعزيز مكانة الكرد بفضل دستور عام 2005، وحصلت حكومة إقليم كردستان على وضع دستوري بعد أن كانت تُدَار بحكم الأمر الواقع منذ 1992. حصل كرد العراق من ذلك الوقت على ضماناتٍ كانت كفيلةً بتحويلهم إلى لاعبين في سياسة البلاد؛ فالتعاون السياسي الذي رأيناه بين أنقرة وحكومة إقليم كردستان برئاسة الحزب الديمقراطي الكردستاني توطّدت عام 2007، حيث أدّت إلى قيام تعاون اقتصادي كبير بين الطرفين، وأصبح الإقليم ثالث أكبر سوق للصادرات التركية، كما شاركت الشركات التركية في مجموعة واسعة من القطاعات، بما فيها الزراعة، والخدمات المصرفية والمالية، والبناء، والتعليم، وأنظمة الطاقة الكهربائية، والرعاية الصحية، واستخراج النفط/ الغاز والخدمات، والاتصالات السلكية واللاسلكية، والنقل، والسياحة، والصناعة المتعلقة باستغلال المياه.
اتّصفت السياسة الخارجية التركية تجاه العراق بأنها ثلاثية الأبعاد، تستند إلى محاولة القضاء على حزب العمال الكردستاني، والتحكم في المياه، والسعي لاستجرار الطاقة. وبما أن تركيا تستورد 95 في المئة ممّا تستهلكه من النفط والغاز الطبيعي من الخارج، وتشتري ثلاثة أرباع ما تحتاج إليه من النفط والغاز من روسيا وإيران، فهي قررت تقليل اعتمادها على هذين البلدين في مجال الطاقة، وتنويع مصادر النفط والغاز الطبيعي اللذين تحتاج إليهما، بحيث يتم تصدير إنتاج حقول كركوك عبر خط أنابيب النفط الذي يمر عبر الأراضي التركية إلى ميناء جيهان على البحر المتوسط. ويعتبر هذا الحقل أحد حقول النفط المهمة في العراق، وتشير التقديرات إلى أن احتياطي الحقل يقارب 10 مليارات برميل من النفط من النوعية الجيدة، وتبلغ الطاقة القصوى للحقل مليون برميل يومياً.
تدهور العلاقة مع حكومة بغداد
تدهورت علاقات أنقرة مع حكومة بغداد المركزية بسبب محاولات تركيا زيادة بسط نفوذها سياسيّاً واقتصاديّاً وأمنيّاً في شمال العراق، وهناك نحو 19 قاعدة تركية، 15 منها قواعد عسكرية، والأربع الأخرى قواعد استخبارية، تضم جميعها نحو 3 آلاف جندي تركي. حاولت أنقرة لعب دور جيو - أمني ضد حزب العمال الكردستاني، وجيو - سياسي داخل العراق عبر ادّعاء حماية حقوق السنّة، رغم مطالبة الحكومات المركزية في بغداد بسحب القواعد العسكرية، وآخرها من بعشيقة، التي تمّت الموافقة على وجودها التدريبي أثناء التصدي لداعش، ومع انتهاء المهمة طلبت الحكومة العراقية سحبها، لكنها جوبهت برفض أنقرة.
تتجاهل أنقرة وجود سلطة شرعية ومؤسسات، وتستظل بالوجود الأميركي كي تقوم بقصف شمال العراق، حيث ازدادت العمليات العسكرية مؤخراً ضد حزب العمال الكردستاني، وتتعاون مع استخبارات إقليم كردستان ومع حكومته من دون التنسيق في أغلب العمليات مع بغداد، وتأخذ الضوء الأخضر من الولايات المتحدة التي تُدرج حزب العمال في لائحة الإرهاب.. وعندما تجد اعتراضاً عراقياً، تتّهم الحشد الشعبي وإيران بالوقوف خلف حزب العمال الكردستاني. اتّهمت تركيا الحكومات العراقية المتتالية، التي طلبت منها سحب قواعدها العسكرية من الأراضي العراقية، بأنها موالية لإيران أو تدخل في فلك النفوذ الإيراني، وترى أنّ إيران قد واصلت توسيع نفوذها في العراق من خلال الحملة ضد داعش. تضع تركيا نفسها بشكل متزايد كحامٍ للسنّة في الأراضي التي كانت تحت السيطرة العثمانية في السابق، وخاصة في سوريا والعراق. وكان إردوغان قد صرّح بأن لديه "مسؤولية تاريخية" لحماية "إخواننا العرب السنّة وإخواننا التركمان".
نسّقت تركيا بعض عملياتها في شمال العراق مع حكومة الكاظمي، بضوء أخضر أميركي. أما في عمليتها الأخيرة، فهي استغلت الفراغ الحكومي، وتصرّفت كما لو أن العراق ساحة خالية إلا من مؤيّديها ومن حلفائها، فأتت عملية "قفل المخلب" لتضيء على تعامل تركيا مع العراق، ورؤيتها لنفوذها وكأن الإقليم الكردي يشكل دولة ضمن الدولة العراقية، ولم تأبه للاستنكارات المختلفة من قبل سياسيين عراقيين.
الغاز والنفط والشراكة مع "إسرائيل"
تسعى تركيا إلى شراكة مع "إسرائيل" التي تشتري النفط من كردستان، بينما تدّعي حكومة الإقليم أن التجارة تتم عبر شركات لا مباشرة. تستثمر تل أبيب في إقليم كردستان بكثافة في مجال الطاقة والبناء والاتصالات والأمن؛ فحكومة إقليم كردستان تريد الاستفادة من زيادة الاستثمارات الأجنبية والخبرة التكنولوجية والانفتاح على الأسواق الأوروبية. وكان الرئيس التركي قد ناقش مع رئيس إقليم كردستان، نيجرفان برزاني، إمكانية تزويد تركيا بالغاز الطبيعي، فوعده ببحث الموضوع مع الحكومة المركزية في بغداد، وأكد الرئيس التركي أن هناك إمكانية لاستخدام الغاز الإسرائيلي في بلاده، والعمل على نقله إلى أوروبا عبر التعاون المشترك بين الجانبين. وكانت حكومة كردستان العراق قد أعدّت مؤخراً خطة برعاية أميركية لتزويد تركيا وأوروبا بالغاز بمساعدة "إسرائيل"، وعُقد اجتماعان على الأقل لبحث هذا الأمر مع خبراء الطاقة من الولايات المتحدة و"إسرائيل" لربط خط الأنابيب الجديد بخط استُكمل بالفعل على الجانب التركي من الحدود.
تتصرّف كل من الولايات المتحدة و"إسرائيل" وتركيا بحرية في العراق، مستغلّة التضعضع الشيعيّ الشيعيّ الذي يعيش حالة ضعف منذ افتعال التظاهرات وتمويلها للإضرار بالتحالف مع إيران التي ساعدت العراق في زمن محنته الكبرى مع النظام البعثي، فيما تتعثّر القيادة الشيعية الفائزة في الانتخابات بسبب إصرارها على عدم التآلف مع القوى الأخرى من البيت نفسه، ما يتسبّب في إضعاف الاثنين معاً. فلا معارضة قوية لما يقوم به كل من التركي والأميركي وظلّه الإسرائيلي في منطقة تذهب دولها إلى التطبيع وتشكيل تحالفات استراتيجية.