هزائم ألقت بظلالها على واقعنا الراهن
بعد 55 عاماً من وقوع المأساة، لا يزال هناك من يرغب في أن نتعايش معها، وحتى يرتدع علينا أن نفتح القصة من دون رتوش.
تسقط القلاع من الداخل.. هكذا تجري الوقائع دائماً. فالقلعة، التي كانت تبدو حصينة، سقطت في ستة أيام، ذلك بأن الشروخ كانت واسعة. وحده العدو كان يعرف الشروخ، فاستطاع أن يتسلَّلَ إلى القلبِ، ويباغتَ الماردَ العربيَّ، الذي كان نائماً غالباً، بينما كان يبدو مستيقظاً في الخطابات السياسية، وفي سحق الجماهير.
وحدَه العدو كان يعرفُ الحقيقةَ، من استفحالِ صراعِ الأجنحةِ، إلى عدمِ وجودِ أيّ معلوماتٍ حقيقية عن العدو. لذا، كانت حرب الأيام الستة واحدة من أكثر الوقائع التاريخية مأسَوية، ولا تزال.
أولاً، لأنها كانت بمثابة جسرٍ رجعَ عليه المصريون من التمدد في قارات العالم إلى الانكماشِ، داخل ضلوع مساحة جغرافية محصورة، بينما وجد العرب المناهضون لعبد الناصر ضالتهم في الانكماش المصري والخروج من التاريخ والجغرافيا، فملأوا الفراغ، مثلما يحدث هذه الأيام من تنفيذ نكسة أخرى من دون حرب أيام ستة، عبر ما يسمى اتفاقات سلام، بين المشروع الاستيطاني المباغت والطارئ على المنطقة، وقوى عربية بلا عمق تاريخي، تعتقد أنها تمسك بالمفتاح في اللحظة الراهنة. فهل يمكن الاستفاقة من هذا الكابوس؟
بعد 55 عاماً من وقوع المأساة، لا يزال هناك من يرغب في أن نتعايش معها، وحتى يرتدع هذا البعض علينا أن نفتح القصة من دون رتوش أو تجميل.
والقصة تراجيدية، عاشها جيلي ولا يزال، وأنا واحد من الشهود الأحياء، فلقد عشت في مرحلة الصبا أحداث ما اصطلح على تسميته نكسة حزيران/ يونيو 1967. وفي مرحلة الشباب، عشت حصار بيروت عام 1982.
الحدثان بدأت وقائعهما في الخامس من حزيران/ يونيو، وانتهتا بنكسة بطعم الهزيمة، وما زالت آثارهما تُلقي ظلالها على الواقع العربي الراهن. والحدثان أفضت إليهما مقدِّمات، تمثّلت بانحراف سلوكي، استشرى في القيادات العسكرية والأمنية، وخلل فاضح في العلاقة بالحواضن الشعبية.
ولأننا نمر هذه الأيام في ذكراهما، فرأيت أن من الضروري تناولهما برؤية مغايرة، تلتزم منهجاً نقدياً مبنياً على أساس واقعي، ومواجهة مع الذات. ولا أظن أنني في حاجة إلى التأكيد أن النقد لا يستهدف الانتقاص من الدور التاريخي للزعيم الخالد جمال عبد الناصر، الذي تبوّأ مكانة خاصة في قلبي وعقلي منذ تفتَّح وعيي على الحياة. وكنت، ككثير من أبناء جيلي، مولعاً بشخصية ناصر، حتى إنني، وأنا الفتى الذي لم يتجاوز 12 عاماً، خرجت مهرولاً عدة كيلومترات، لألحق بالجموع الغفيرة التي خرجت رافضة استقالتَه، وظلت لعبد الناصر مكانةٌ خاصةٌ في قلبي، لم يُزِحها انحيازي إلى الفكر اليساري، الذي عانى مناضلوه شراسة أجهزة نظامه، وأيضاً لا يلغي قناعتي الثابتة وإيماني، الذي لم يتزعزع، بأن المقاومة الفلسطينية هي أنبل وأشرف ظاهرة في التاريخ البشري الحديث، وشُرِّفت بالانضواء في صفوفها في الثالثة والعشرين من العمر، تاركاً ورائي فرصةَ الاستمتاع بالعمل في مواقع رفيعة، وذات عوائد وفيرة، وذلك رفضاً لزيارة السادات للقدس المحتلة، وإيماناً بأن القضية الفلسطينية هي قضية العرب المركزية، ولا يمكن إغفال الصمود الأسطوري لفصائل المقاومة الفلسطينية، والحركة الوطنية اللبنانية، في مواجهة حصار آلة الحرب الصهيونية لبيروت، بدعم من قوى اليمين والفاشية اللبنانية.
لنبدأْ بنكسة حزيران/ يونيو 1967، التي شهدت هزيمة مخزية، وانهياراً سريعاً، لأكبر جيش عربي خلال ساعات. وكان ذلك نتيجة طبيعية لتفشّي الصراعات والانحرافات السلوكية والأخلاقية في أوساط القيادات العسكرية المصرية، والتي تزامنت مع فُجور في الخصومة مع المعارضة السياسية، وصل إلى حد العنف المفرط، تجاه قوى سياسية يسارية وقومية، كان من الممكن أن تمثّل قوة مضافة إلى النظام السياسي، في توجهاته الوطنية والاجتماعية والقومية.
هذا الواقع المزري، الذي كانت تمر فيه البلاد، كشف عنه بوضوح محضر اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي، والذي انعقد في 3 آب/ أغسطس 1967؛ أي بعد الهزيمة بأقل من شهرين، برئاسة جمال عبد الناصر، وحضور جميع القيادات السياسية والعسكرية. وشهد الاجتماع عدداً من الاعترافات، وتشريح الموقف بشأن نظام الحكم، والكوارث التي أدى إليها، والممارسات المشينة من بعض أركان النظام، وإصرار عبد الحكيم عامر على الاستمرار في الهيمنة على القيادتين العسكرية والأمنية.
وكان هناك اتفاق في الاجتماع على أن «العيب» كان في «السيستم»، أو نظام الحكم، والذي قال فيه ناصر نصاً إن «النظام اللي إحنا فيه أنا خايف منه، أنا أقوى واحد فيكم، لكن خايف لأني شفت انحرافات مش قادر أقوَّمها ولا أوقفها».
وكشف عبد الناصر رأيه في أن "عبد الحكيم هو شخص مدني، انتهت معلوماته العسكرية سنة 1952، لكن لابس بدلة عسكري! مرت 1956 وبعدها، والدنيا تتغير، وإنني اليوم لا أستطيع أن أقود الجيش، ولا أحد فيكم يصلح. إننا ممكن نتكلم استراتيجي، ولكن القائد يجب أن يكون متعلم ومحترف، وكل ثلاث سنوات يغير، ونكون بنعلم واحد. هذا كان الخلاف الأساسي مع عبد الحكيم، ولم نستطِع أن نصل إلى حل". وأعلن عبد الناصر أن أمام القيادة السياسية، التي تحكم البلاد، واجبَين: "لمّ البلد اللي اتفسخت، وإصلاح الأخطاء اللي في نظام الحكم". واعترف بأنه كانت توجد عصابة في الجيش، "بتجهز نفسها عشان تستلم دفّة الحكم". وأكد عبد الناصر ضرورة أن نغير نظام الحزب الواحد، الذي أثبت فشله، فهو يمثل بيئة خصبة للفساد والانحراف. وطالب بحل مجلس الأمة، والدعوة إلى انتخابات طبقاً لقانون يشهد تعددية حزبية.
وإذا ما انتقلنا إلى رصد مقدمات حصار بيروت عام 1982، فالمشهد لم يكن أفضل حالاً، بحيث كانت المناطق، التي تسيطر عليها قوات الفصائل الفلسطينية، والحركة الوطنية اللبنانية، غابة من السلاح المنفلت أحياناً. حتى إن ياسر عرفات كان كثيراً ما يفاخر بما سمّاه "ديمقراطية غابة البنادق"، فكانت تلك المناطق (الوطنية)، تشهد بشكل شبه يومي توترات بينية بين بعض الفصائل الفلسطينية، وكذلك الأمر، بالنسبة إلى الحركة الوطنية اللبنانية. وكثيراً ما كانت تتحول تلك التوترات إلى اشتباكات مسلحة، نتيجة أسباب تبدأ بالخلاف السياسي أو الفكري، والسعي لفرض النفوذ وتوسيعه، ولا تنتهي عند دوافع شخصية للمسلحين من تلك الفصائل. ووصلت ذروة تلك الاشتباكات في عام 1981، ولم يوقفها سوى الغزو الصهيوني للبنان في صيف عام 1982.
كل ذلك أدّى إلى استنزاف الفصائل الفلسطينية، وفصائل المقاومة، فضلاً عن توسع حجم التذمر في البيئة الحاضنة، الأمر الذي سهّل للقوات الصهيونية أن تبسط سيطرتها على ثلث الأراضي اللبنانية، خلال 5 أيام من العدوان، وتصل إلى مشارف بيروت. وعقب ذلك بيومين، دخلت القوات الصهيونية شرقيّ بيروت، حيث سيطرة قوات الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار، وطوّقت القسم الغربي من بيروت، الذي كان معقلاً رئيساً للمقاومة الفلسطينية، والحركة الوطنية اللبنانية، وتمكنت من السيطرة على طريق بيروت – دمشق. وبعد حصار استمر ما يقرب من 80 يوماً، تعرضت خلالها بيروت لقصف عنيف ومستمر، من البر والجو والبحر، مع محاولات دؤوبة ومتكررة من القوات الصهيونية لاقتحامها من دون أن تُفلح إلّا في احتلال مساحات مفتوحة جنوبي بيروت.
وفي التاسع عشر من آب/أغسطس، اضطُرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى قبول اتفاق، تم برعاية أميركية، ونص على مغادرة نحو 14.000 مقاتل من منظمة التحرير الفلسطينية، في ظل حماية قوة متعددة الجنسيات، مع وعد بأن تضمن هذه القوة سلامة اللاجئين الفلسطينيين في بيروت، وعدم السماح للقوات الصهيونية بدخول بيروت الغربية.
لكن القوات الصهيونية، بالتعاون مع قوات حزب الكتائب، اجتاحت أكبر مخيمات بيروت، وارتكبت مجزرة بشعة في حق اللاجئين الفلسطينيين، بينما توزَّع قادة الثورة الفلسطينية ومقاتلوها بين المنافي البعيدة عن فلسطين، الأمر الذي أدّى إلى اتفاقية أوسلو؛ النسخة الأسوأ من اتفاقية كامب ديفيد.
هاتان الهزيمتان، من ناحية الشكل، تم تجاوزهما بدرجة ما، من خلال انتصار الجيش المصري على القوات الصهيونية في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وكذلك انسحاب القوات الصهيونية من لبنان في الخامس والعشرين من أيار/مايو من عام 2000 في إثر الضربات الموجعة من المقاومة اللبنانية، لكن ظلالهما ما زالت حاضرة. فمصر، عبر توقيعها اتفاقية كامب ديفيد مع العدو الصهيوني برعاية أميركية، فقدت مكانتها الإقليمية، واخترقتها الأفكار الوهابية. ومنظمة التحرير غُيِّبت عن المشهد، لتحل محلها "السلطة" الفلسطينية، التي أضحت بمثابة إدارة ذاتية محدودة الصلاحيات، في ظل هيمنة الإدارة الصهيونية على الجو والبحر والمعابر.
في ظل هذا المشهد، جاءت المقاومة الشعبية الفلسطينية في الداخل المحتل، والتي يمكن أن تعيد تشكيل صورة الصراع مع الكيان الصهيوني، ليس في الساحة الفلسطينية فحسب، بل في كامل الساحات العربية أيضاً.