هرتسوغ في أنقرة.. الأسئلة الخطيرة لما بعد الزيارة

أن يُستقبَل هرتسوغ في أنقرة بهذه الحفاوة، فهذا ينسف كل خطابات إردوغان الحماسية ضد "إسرائيل"، كما الشعارات الرنانة التي كان ينادي بها.

  • هرتسوغ في أنقرة.. الأسئلة الخطيرة لما بعد الزيارة
    ماذا وراء التقارب التركي الإسرائيلي؟ هل جاء فعلاً لخدمة مصالح اقتصادية تركية، أم لأهداف خفية غير معلَنة؟

زيارة إسحاق هرتسوغ لأنقرة تُعَدّ أول زيارة لرئيس للاحتلال الإسرائيلي لتركيا منذ 18 عاماً. وبحسب ما أعلن، فإنها تأتي من أجل إعادة العلاقات الثنائية بصورة فعلية، إذ جاءت بدعوة من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، كخطوة تركية جديدة تجاه "إسرائيل"، وفتح أجواء التقارب مجدَّداً معها.

أعوام حافلة من العلاقات سادها التأرجح بين التعاون والقطيعة. أُعيدت مسيرة التقارب التركي الإسرائيلي مجدَّداً بعد فوز هرتسوغ برئاسة "دولة" الاحتلال الإسرائيلي، عندما هنَّأه إردوغان في اتصال هاتفي، ثم استمرت الاتصالات، وبدأت الوفود تتزاور تمهيداً للحظة عودة العلاقات الرسمية في شكلها الذي جاء. 

تاريخياً، تربط تركيا بـ"إسرائيل" علاقات في مجالات عدة، أبرزها اقتصادية منذ عام 1949. من المعروف أن العلاقات الاقتصادية التركية الإسرائيلية لم تنقطع بصورة كلية، واستمر تسيير رحلات الشحن بين أنقرة و"تل أبيب" على الرغم من القطيعة السياسية في إثر أزمة قتل "إسرائيل" ناشطين أتراكاً كانوا متوجِّهين إلى قطاع غزة على متن سفينة مرمرة التركية عام 2010، إذ عادت العلاقات إلى تسيير رحلات التبادل التجاري بصورة رسمية في عام 2020 بين شركة "العال" الإسرائيلية وأنقرة، بصورة دائمة.

استقبال هرتسوغ في أنقرة بهذه الحفاوة، ينسف كل الخطابات الحماسية لإردوغان ضد "إسرائيل"، كما الشعارات الرنانة التي كان ينادي بها إردوغان من أجل تحرير القدس وفلسطين، والتي لطالما أثار بها العواطف وكسب التأييد لدى الشعب التركي أولاً، ولدى كل محبّي القضية الفلسطينية ثانياً.

ثمة تساؤلات مهمة إزاء هذا المشهد: ما الذي تغيّر اليوم؟ وماذا وراء التقارب التركي الإسرائيلي؟ وهل، فعلاً، جاء التقارب من أجل مصالح تركية اقتصادية كما يروّج؟ أم أن هناك أهدافاً خفية غير معلنة وراء هذا التقارب؟ وكيف سيكون موقف تركيا بعد هذا التقارب من عودة الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين؟

تدّعي السلطات التركية أن الهدف الرئيس لزيارة هرتسوغ لأنقرة اقتصاديّ، يتمثّل بقضية غاز شرقي المتوسط وتطوير الاستثمار والاقتصاد، إلاّ أن أوساطاً تركية أخرى تؤكد أن الهدف من الزيارة سياسي، وكل المحاولات تصبّ في اتجاه تطبيع العلاقات بين الطرفين.

التقارب التركي الإسرائيلي في المسار الاستراتيجي يشكّل إضراراً كبيراً بالقضية الفلسطينية، والموقف الثابت بشأن سياسة التقارب وفتح علاقات رسمية بـ"إسرائيل"، هو أن أي تقارب من أي دولة كانت مع "إسرائيل"، أو تطوير للعلاقات بها، يشكّل حالة من إضفاء الشرعية على كيانها على الأرض الفلسطينية، ويعطي غطاءً لممارساتها وجرائمها وبطشها بحق الفلسطيني وأرضه ومقدَّساته، كما أنه يشكل طعنة غادرة في ظهور الفلسطينيين.

الواقع يقول إنه ليس هناك مصلحة جوهرية استراتيجية لتركيا في التقارب مع "إسرائيل". وإذا كانت الأهداف الحقيقية اقتصادية، فالعلاقات الاقتصادية والتجارية متطورة في الأساس بين الطرفين ولم تتوقف. والسؤال المهم والخطير هنا، هو: ما الحاجة إلى تطوير العلاقات بين تركيا و"إسرائيل"، سياسياً ودبلوماسياً، في مثل هذا التوقيت، إذاً؟

هذا سؤال لا توجد له إجابة واضحة. وإذا كانت له إجابة فهي إجابات خطيرة. ولو افترضنا أن هناك تعاوناً تركياً إسرائيلياً في قضايا المنطقة، فالسؤال الأخطر في ذلك، هو: ما هي قضايا المنطقة التي تريد تركيا أن تتعاون فيها مع "إسرائيل"؟ قضية سوريا، أم إيران، أم ستكون القضية الفلسطينية؟ هذه الأسئلة من المهم أن تجيب عنها تركيا، بصورة رسمية. 

تركيا، التي انتقدت سابقاً التطبيع الإماراتي مع "إسرائيل"، ووصفته بالخيانة، وهددت بإغلاق سفارتها في أبو ظبي بسبب التقارب مع "إسرائيل"، هي اليوم تنساق إلى المستنقع ذاته. وهي، عندما تطلب التقارب، وتعود في العلاقات بـ"إسرائيل" أكثر من "إسرائيل" نفسها، فإن ذلك يشكل تراجعاً عن المبادئ والمواقف الثابتة تجاه القضية الفلسطينية، ويضعها في موقف محرج للغاية. وهذا فعلاً يحتاج إلى تفسيرات، ويضع علامات استفهام كثيرة تجاه هذه التحولات، وخصوصاً أن الشروط الخمسة المسبّقة، والتي وضعتها تركيا على لسان وزير خارجيتها كشروط لإعادة العلاقات بـ"إسرائيل"، لم يتحقق أيٌّ منها.

كل محاولات تبرير القطيعة مع "إسرائيل" بأنها أضرّت بالقضية الفلسطينية، أثبتت أنها غير واقعية وغير صادقة. وما يُروَّج له الآن، ومفاده أن عودة التقارب والعلاقات التركية الإسرائيلية ستصب في مصلحة القضية الفلسطينية، رُوّج له سابقاً في الإمارات والبحرين والمغرب، وأثبتت التجارب عدم صدقيته مطلقاً، ويكرّره إردوغان ووزير خارجيته تزامناً مع زيارة هرتسوغ لأنقرة، في تقليد واضح لتصريحات الزعامات الخليجية المطبّعة مع "إسرائيل".

انطلاقاً من معطيات كثيرة، فإن التقارب التركي الإسرائيلي لن يحقق لأنقرة أيّاً من المصالح الجوهرية التي تراهن عليها. ومثل هذا التقارب سيبقى يخدم "إسرائيل" وأهدافها، ليس إلاّ، في الوقت الذي أرسلت إشارات طمأنة إلى اليونانيين والقبارصة، مفادها أن زيارة هرتسوغ لتركيا لن تأتي على حساب التحالف معهم. وبالتالي، لن يكون هناك، في المدى البعيد، اختلاف جوهري يخدم تركيا في مثل هذا التقارب، كما تحاول تركيا تبرير هذه الخطوة. 

الخطوات المتسارعة من تركيا نحو التقارب مع "إسرائيل" تفسّر أن أنقرة عادت إلى الحظيرة الرسمية لأنظمة المنطقة، وتتعامل مع القضية الفلسطينية وفق النهج ذاته الذي تتعامل به الأنظمة العربية التي طبّعت مع "إسرائيل". وهذا تجسَّدَ عملياً خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده إردوغان وهرتسوغ، وهو مؤتمر يشبه كثيراً المؤتمرات التي عقدها زعماء الخليج عندما طبّعوا العلاقات بـ"إسرائيل"، واستقبلوا قادتها، وأكدوا أهمية إيجاد حل للقضية الفلسطينية، قائم على "مبدأ حل الدولتين". 

ثمة انعكاسات مهمة على المشهدين الفلسطيني والإسرائيلي ستطرأ على الخطوة التركية في طلبها التقارب مع "إسرائيل"، تتمثل بتغيير النهج السابق في التعامل مع القضية الفلسطينية، والتراجع إلى حد كبير لم يكن معهوداً كما السابق، في مقابل تعزيز العلاقات بالسلطة الفلسطينية وتقويتها، بينما ستشهد العلاقات بحركة "حماس" نوعاً كبيراً من التراجع والفتور، وهذا يشكل ثمناً لخطوة التقارب مع "إسرائيل"، وتحقيقاً لجزء من مطالبها، بينما ستستمر "إسرائيل" في نهجها واستمرار استيطانها في القدس المحتلة وعدوانها على الأقصى.

ستكتفي تركيا ببيانات الشجب والاستنكار، المعهودَين من جانب أنظمة عربية كثيرة في المنطقة، ولن يبقى لفلسطين وقضيتها إلاّ محور المقاومة، التي ترأسه إيران وتدافع عنها بالموقف السياسي والدعم والإسناد للمقاومة، بكل إيمان وثقة بأن المقاومة ستنتصر وفلسطين ستتحرر. وسيسجّل التاريخ تخلي كثيرين عن فلسطين، تحت مبررات ومصالح وحجج واهية، فالتاريخ يقول إن كل دولة اقتربت من "إسرائيل" وأقامت علاقات بها، أصابتها لعنة الجوع والتبعية والتشرذم وعدم الاستقرار. والشواهد كثيرة.