هذه أرقام الحريري لو شارك في الانتخابات
في آخر استطلاع للرأي أجراه مكتب الإحصاء والتوثيق في كل لبنان، تَبَيَّن أن هنالك تراجعاً كبيراً في شعبية الحريري وتيار المستقبل.
لم يخطئ ذاك الثمانيني، ابن الطريق الجديدة في بيروت، عندما قال، تعليقاً على ترشح رجل القانون البيروتي خالد قباني للانتخابات النيابية المرتقبة في أيار/مايو المقبل: "عاش مين شافو". فمن يبتعد أو يُبعد عن الساحة، فقد يستحيل عليه الرجوع إليها بسهولة، إلاّ أولئك الزعماء الذين يخطفون معهم طوائفهم، لأن طوائفهم في الأساس ارتضت، أو ارتضى أبناؤها، أن ُيختَطفوا معها لأي سبب، وفي مقدمتها السبب الغرائزي، أو قل، بأخف ضرر توصيفي، العامل العاطفي.
يبتعد الزعيم أو يُبعد، فتُحبَط الطائفة.
هكذا كانت حال شريحة واسعة من المسيحيين في لبنان بعد انتهاء الحرب (1975-1990) حين نُفي زعيم لهم، وسُجن آخر. وهكذا حال أغلبية أهل السنّة اليوم بعد أن ابتعد رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري عن الحياة السياسية، وعن لبنان، أياً كان السبب.
واليوم، هل يكرّر التاريخ التجربة نفسها في استحقاق مماثل ومع طائفة شبيهة في حالها وحالتها مع ذاك الزمن الغابر؟
في استحقاق الانتخابات النيابية عام 1992، أُحبط المسيحييون للأسباب أعلاه، فقاطعوا الانتخابات احتجاجاً، واعتراضاً على "وصاية" سورية، فملأت الشواغر شخصياتٌ مسيحية لا تقل شأناً، لكن الفارق أنها لم يستلّ شعارات الغريزة. وبحكم مواقعها، استطاعت أن تسيّر أمور الدولة وأمور أبناء طوائفها، فأكملت الحياة دورتها، فسار من سار، وتقوقع من تقوقع مستنكفاً، ليكتشف متأخراً أنه أخطأ في استقالته من الدور في حينه، وندم ساعة لم يعد ينفع الندم.
واليوم، في استحقاق انتخابات 2022، يجهد سعد الحريري في اختطاف طائفته الى الانكفاء والاعتزال حيث هو. ويُعِيب على من وجد في قراره خطأً "مسيحياً" يرفض له أن يكرّره مع أبناء طائفته بعد ثلاثين عاماً، بل ذهب الأمر ببعض الأتباع إلى تخوين هؤلاء، ومنعهم من الترشّح، أو ترشيح آخرين.
إنها لعنة أحزاب الطوائف، والطوائف التي لا تجد ضالّتها في اللادولة، إلاّ بحمى زعماء أحزابها.
قبل الحرب (1975)، كان للطوائف كافةً زعاماتُها المتعددة، المتوازية والمتوازنة والوازنة، قبل أن تبتلعها العسكريتاريا الميليشياوية على امتداد خمسة عشر عاماً. وأكثر ما ظهر ذلك لدى الطوائف المسيحية قبيل أفول الحرب، بينما لم يظهر هذا الابتلاع – الاختزال، لدى الطائفة السنية، إلاّ عند مجيء الرئيس الراحل رفيق الحريري في عام 1992،ـ معزَّزاً بهالتين عربية ودولية، وبإمكانات مادية لم يعهدها اللبنانيون من قبلُ.
وإذا كانت الزعامات، فيما مضى، تأخذ طابعاً مناطقياً، فإن زعامة رفيق الحريري عَبَرت بسهولة المناطق وامتدت على مساحة الوطن، مع صعود للدور السني في الحياة السياسية، والذي كرَّسه دستور الطائف، على حساب ضمور المارونية السياسية التي حكمت البلاد وأدارتها منذ الاستقلال عن الانتداب الفرنسي في عام 1943.
من هنا، يمكن فهم مدى الخسارة السنية، التي تمثّلت باغتيال الرئيس رفيق الحريري، الذي بدأ بعدها الانحدارُ للفريق الذي يمثّله، سواء سنياً أو على المستوى الوطني، على الرغم مما تبع لحظة الاغتيال من صعود أشبه بالانقلابي لما سُمِّي ثورة الأرز "المليونية"، وللفريق الذي انتظم في قوى الرابع عشر من آذار، مع إنشاء محكمة دولية خاصة استُحضر لها أكثر من شاهد زور، مع كل الدعم الدولي المرافق.
بعد اغتيال الحريري الأب، تلاشى "المارد السني"، فالوريث سعد، الذي جيء به لتسلم دفة القيادة منذ عام 2005، لم يستطع أن يكمل ما كان بدأه الوالد على الرغم من الالتفاف الداعم له، محلياً وعربياً ودولياً، وعلى الرغم من توسع دائرة التحالفات التي نُسجت حوله على المستوى الوطني تحت شعار لبنان أولاً، وهو شعار لم يكن مألوفاً تاريخياً لدى سنة لبنان، أصحاب التوجهات القومية - العروبية على مر التاريخ.
والتلاشي من حينها، معطوفاً على كل التطورات التي تلت والتي فشل الوريث سعد في احتوائها أو التعامل معها، شكّلت، مجتمعةً، عوامل أوهنت الرجل، وكان أشدها ليس العامل السياسي في لبنان والتوزُّع الحالي للقوى، التي تعايش معها الولد، والوالد قبله، عن طِيب خاطر، بقدر ما هو الأزمتان الاقتصادية والاجتماعية اللَّتان تشدّان الخناق على اللبنانيين، واللّتان تتحمّل الوزرَ الأكبر من تبعاتهما السياساتُ المالية والاقتصادية التي هندسها الوالد، رفيق الحريري، والمنظومة التي بناها على قواعد اقتصادية لم تراعِ ما قد ينجم من تطورات سياسية في الإقليم، وتجنب أيّ ارتدادات تحصّن البلاد جراءها. وأكثر ما يشتدّ هذان الخناقان، الاقتصادي والاجتماعي، على مناطق السنّة في أطراف البلاد، سواء في صيدا مدينة الحريرية، أو في البقاع والجرود، أو في عكار، أو طرابلس أفقر مدينة شرقي المتوسط، بحسب التوصيف العالمي. وكلها كانت توالي، غَيْباً وعن ظهر قلب، الحريريةَ السياسية، والتي ما ضربت فيها الحريرية تلك معولَ إعمار واحداً، أو مشروعاً ذا جدوى اقتصادية يُوجِد فرص عمل للعاطلين منه.
وإلى سعد الحريري، ينسحب الاعتكاف عن الترشح للانتخابات على واحد من أغنى شخصيات لبنان، الرئيس الحالي للوزراء نجيب ميقاتي، الذي يساير الحريري في موقفة، ليس فقط وقوفاً عند خاطر الحريري خشية إغضاب جماهير أهل السنة، وإنما بسبب الوهن الشعبي الذي يصيبه أيضاً جرّاء الوضع القائم وغياب خدمات الجدوى، على الرغم من تقديمات تياره، وعزمه محاولات مساعدة أبناء مدينته الشمالية طرابلس والجوار.
فهل انكفاء الحريري ومعه كامل تيار المستقبل، وعزوف الرئيس ميقاتي عن الترشّح، وتخفّيه عبر مرشحين متلبِّسِين "العزم" على الولاء له بعد الانتخابات، وكذلك عزوف نادي رؤساء الحكومات السابقين، تمثّل، مجتمعةً، موقفاً مبدئياً مرتبطاً بموقف سياسي عنوانه سلاح حزب الله، وإشاراتٍ عربيةً حجبت معها أي تمويل انتخابي، أم أنها هروب من النتائج المخزية التي كان الحريري وميقاتي، مع تياريهما، سيحصدانها لو خاضا الانتخابات؟
في آخر استطلاع للرأي أجراه مكتب الإحصاء والتوثيق في كل لبنان، تبيّن أن هنالك تراجعاً كبيراً في شعبية الحريري وتياره المستقبل، في كل الدوائر ذات الأغلبية السنية، والتي كان لتيار المستقبل وجودٌ فيها. وهي جاءت على الشكل التالي:
- في دائرة بيروت الثانية: نال تيار المستقبل 18% من مجموع المستفتين في العيّنة، في حين نال الحريري منها 7,9% من الأصوات التفضيلية.
- في دائرة الشمال الثانية: نال تيار المستقبل في طرابلس 9,4%، وفي المنية 19,6%، وفي الضنية 19,9%، في حين نال مرشح الحريري في الأصوات التفضيلية والرقم التفضيلي الذي سيلي، وفي كل الدوائر (من صفر الى عشرة) في طرابلس 2.7%، وفي المنية 3,8%، وفي الضنية 3,4%.
- في دائرة الشمال الأولى: نال تيار المستقبل 12.8%، في حين نال مرشح الحريري في الأصوات التفضيلية 3.3%.
- في بعلبك: نال تيار المستقبل 12.8%، في حين نال مرشح الحريري في الأصوات التفضيلية 2.4%.
- في زحلة: نال تيار المستقبل 8.6%، في حين نال مرشح الحريري في الأصوات التفضيلية 2.7%.
- في البقاع الغربي: نال تيار المستقبل 9%، في حين نال مرشح الحريري في الأصوات التفضيلية 3.1%.
- في صيدا: نال تيار المستقبل 16.2%، في حين نال مرشح الحريري في الأصوات التفضيلية 3.4%
أمام هذه الأرقام والنتائج، يصبح السؤال مشروعاً: هل كان انكفاء الحريري انكفاءً سياسياً بحتاً، أم هروباً من أمام محكمة انتخابية، قد يتعذّر سَوق شهود زُور إليها، على غرار المحكمة الدولية التي أُنشئت من أجل اكتشاف قتلة والده الشهيد؟
وهل كان الحريري لحظة انكفائه زعيماً معشوقاً جماهيرياً أُنزل عن أكتافها وانكفأ رأفة بمَناكبها، أم مجرد زاهد قد يُفسح المجال أمام طاقات شبابية أعمق ثقافة وأكثر إنتاجية؟
الأيام المقبلة بعد الخامس عشر من أيار/مايو ستحمل بالتأكيد الإجابة، إذا ما جرت الانتخابات في موعدها.