هجوم شيراز ودموية "داعش" ضد بيوت العبادة

تنظيم "داعش" كان يعكس العقيدة الدينية والسياسية التي تعطي خصوصية لضرب خصومه في قلب انتمائهم الديني وما ينبثق منه من أصداء نفسية وعاطفية.

  • هجوم شيراز ودموية
    هجوم شيراز ودموية "داعش" ضد بيوت العبادة

استهداف "داعش" الدموي لمزار شيراز في إيران يعيدنا إلى سؤال استراتيجية "داعش" في مركزية الحرص على مهاجمة بيوت العبادة بين الحافز الفكري النفسي والمتطلب السياسي، في وقت يعاد إنعاش دوره الإقليمي، وربما العالمي، بهدف خلط الأوراق وخلق الفوضى لعبور المشاريع الأميركية في أتون الجثث المتفحمة وما تخلفه من ردود أفعال وانفعالات عاطفية، وخصوصاً عندما يتصل الأمر بقداسة بيوت الله وأماكن الخلوات الدينية التي يُفترض أنها أماكن آمنة خارج دائرة الصراعات الميدانية.

وقع تفجير مقامي الإماميْن الهادي والعسكري في سامراء عام 2006 قبل ظهور "داعش" كمنظمة أو "مشروع دولة"، ولكن خلفية التفجير الفكرية والنفسية، وربما السياسية، استندت إلى الرؤية والمرجعية نفسها، فتنظيم "داعش" كان، وهو في أوج تمدده، كما في مرحلة تراجعه، يعكس العقيدة الدينية والسياسية التي تعطي خصوصية لضرب خصومه في قلب انتمائهم الديني وما ينبثق منه من أصداء نفسية وعاطفية.

وكانت ذروة الدموية الداعشية ضد بيوت العبادة في الهجوم الدموي ضد مسجد الروضة الصوفي في سيناء عام 2017، والهجوم على مساجد صنعاء الزيدية، كما مسجد الصادق الشيعي في الكويت، مع تفجير مسجد الخضر السني في الموصل عام 2015، وقبل ذلك تفجير وقتل المصلين في مسجد بعقوبة السني الدموي عام 2014، وتفجير عشرات المساجد الأفغانية، الشيعية والسنية، فوق رؤوس المصلين منذ عام 2017 حتى عام 2022.

وشملت هجمات "داعش" الكنائس والمناسبات الدينية للمسيحيين، فقد هوجمت كنائس مصر على امتداد عام 2011 حتى 2018 مراراً، وكذا حصل مع كنائس الموصل، وفي سريلانكا وإندونيسيا، ومعظم الدول العربية من ليبيا حتى تونس، بل وصلت وحشية "داعش" حتى المسجد الحرام في مكة، بما يطرح سؤال العقيدة والسياسة، وربما العامل النفسي، خلف تخصيص استهداف الأماكن الدينية.

سبق للحركة الصهيونية التي أسّست "دولة إسرائيل" على أطلال الشعب الفلسطيني، والتي قامت على أسس دينية يهودية تراثية، أن خصصت المساجد بهجماتها في فلسطين، لأن المعركة في جوهرها دينيّ، وإن كان دينياً تراثياً مفتعلاً بأطماع سياسية، بغية تهجير الشعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحيّيه وإحلال العنصر اليهودي في قلب الأمة الإسلامية، لتأسيس كيان يؤدي دور رأس الحربة للمشروع الغربي ضد العالم الشرقي، وخصوصاً الإسلاميّ.

كان طبيعيّاً، وإن بين قوسين، هذا التخصيص الصهيوني باستهداف العبادة الإسلامية، وخصوصاً ضد المسجد الأقصى المبارك، بما يمثله من مركز للصراع الكوني بين حضارتين؛ غربية مادية مدفوعة بالفكر الرأسمالي، وشرقية إسلامية تحمل قيم السماء في استنهاض العالمية الإسلامية الثانية.

ولكن الغريب ابتداء هو تخصيص الدواعش، وهم مسلمون ابتداء، للأماكن الإسلامية بشهيّة تفوق كل منطق عقلي وعاطفي. ولو أجرينا جردة حسابية لعمليات "داعش" في زمن تمدده، وحتى بعد تبدده، وعند كل محاولة لانبعاثه مجدداً، لرأينا أن عين وحشيته ظلت تتجه نحو الشعائر الإسلامية في المقام الأول. 

ولعل الهجوم على مزارات شيراز، وهو الثاني خلال عامين، بموازاة هجمات عديدة على مساجد أفغانستان ومزاراتها خلال الأعوام الثلاثة الماضية، يكشف حقيقة الهجوم السياسي الموجه ضد أعداء أميركا في أفغانستان وإيران.

تتفق غالبية المتابعين للشأن السلفي الدموي على التطويع الأميركي للوحشية الداعشية وتوجيهها بما يخدم المؤامرات الأميركية في المنطقة، وخصوصاً في افتعال الفتنة السنية الشيعية، وفي تمزيق النسيج الداخلي المحلي إلى قطع صغيرة تتضاءل رويداً رويداً، بما يديم حالة الاحتراب الداخلي أطول فترة من الزمن.

 خطَّط الأميركي، ومعه الوكيل الإسرائيلي، لتمتد فتنة "داعش" 20 عاماً حتى عام 2035، ولكن جهود الفريق الشهيد قاسم سليماني بتفعيل نقاط القوة المحلية والإقليمية والدولية، على قلّتها، ولكن تضافرها، قلّصت تلك الفترة في 3 سنوات، وإن نجح الأميركي في المحافظة على نواة للتنظيم في عمق البادية السورية العراقية، مع نقل بعضها إلى أفغانستان، ليعاد تفعيلها في الوقت الذي يناسب مشاريعه.

تخصيص "داعش" أماكن العبادة يلحّ على المتابع الإسلامي على وجه الخصوص لكي لا يتوقف عند المرمى السياسي في هذا التخصيص، رغم أهميته البالغة، ولكنه سؤال العقيدة والفكر والفتوى، ثم سؤال القدرة الأميركية على تفعيل ما تبعثر في التراث، ليعاد تنظيمه وتجييش هذه الطاقات الشبابية الإسلامية الهائلة للموت الداخلي، وعلى بعد خطوات هناك وطن محتل اسمه فلسطين يحمل من القداسة الدينية ما يتجاوز كل قداسة، ولكنها قداسة مغيّبة في الميدان، رغم أن الله جعلها آيات بيّنات في كتابه يعيها العوام كما أهل العلم.

تفجير المسجد وهدم المزار والفتك بالمصلين هما وحشية تتجاوز الصراع الميداني، وتعيدنا إلى أصل الفرقة في أمتنا، وإلى مربع الجهل في وعي أصول ديننا ومقاصده الشرعية وقيمه الأصيلة واختزال كل هذه الينابيع الصافية فيما تعكّر من مفاصل الصراعات التاريخية وما بُني عليها من مبانٍ حلّت محلها.

مسجد الضرار الذي أمر الله نبيه ألّا يقم فيه بنص القرآن، لأن حركة النفاق اتخذت منه مركزاً لحركتها، تحول في التأصيل التراثي إلى هدم وإحراق كل مسجد يصلي فيه من يخالف غيره في فروع واجتهادات عبادية، وكل اختلاف في الفروع انتقل بفعل الصراعات المذهبية، وأقل منها بكثير، إلى ردة عقائدية تبيح الدم والدين والعرض، وهي ردة دموية تطال كل جوانب الحياة، حتى العجزة والأطفال، بل وصل الأمر إلى أولوية محاربة الذين يخالفون في الفروع، بعد تحويلها إلى أصول مفتعلة، على محاربة العدو الخارجي الذي يحتل قدس المسلمين.

لهذا، كان "داعش" يتمدد كالسيل عام 2015، ولكنه يتوقف أمام المرابض العسكرية الإسرائيلية قبالة سيناء والجولان، وهو ما جعله، كما كل أشباهه الفكرية، يتحمس لذبح المصلين المسلمين، ولكنه يتكلس أمام حرمة المسجد الأقصى المحتل، وسؤال أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا.

تخصيص العقل الداعشي لبيوت الله في الفتك والتدمير يأتي امتداداً لتشوهات فكرية، بل عقدية تراثية، كانت وما زالت ألغاماً جاهزة للانفجار وفق مرامي القوى الكبرى الخبيثة، إلا إذا تمت معالجتها وعزلها عن النبع الإسلامي الصافي، ويكفي أمتنا كل هذا الزمن الذي يظل فيه بأسها بينها شديداً، في مخالفة جوهرية لأصل الإسلام الذي قامت أوتاده على التوحد كالبنيان المرصوص!