هاريس في أفريقيا واستدراك نفوذ أميركي متعثّر
تتمحور الزيارات الأميركية إلى أفريقيا حول أزمة الديون الأفريقية وإعادة جدولتها، التحوّل الطاقوي في أفريقيا وتحدياته، قضايا المناخ، والارتدادات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية وبالأخصّ على الأمن الغذائي الأفريقي.
مهما وُريت خلف مسمّيات التعاون والمساعدة الاقتصادية الأميركية للدول الأفريقية المتعثرة اقتصادياً بفعل آثار الجائحة وارتدادات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإنّ المرامي الحقيقية التي تحذو كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأميركي، ومن ورائها إدارة بايدن، في زيارتها إلى كل من غانا، تانزانيا وزامبيا، هي في اعتقادنا من طبيعة جيوسياسية تحفّزها حسابات المصالح والصراع على مناطق النفوذ الذي تخوضه الولايات المتحدة الأميركية وجهاً لوجه مع الصين وروسيا في أفريقيا.
هذا هو العنوان الأنسب لمهمة هاريس وللانشغال الأميركي المتجدّد بالقارة الأفريقية مذ أعلن عن الاستراتيجية الأميركية الجديدة حيال أفريقيا في آب/أغسطس 2022، ولا سيما أنّ زيارة نائبة الرئيس الأميركي تأتي عقب زيارة كلّ من ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة، وجانيت يلين وزيرة الخزانة الأميركية، إلى أفريقيا في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير المنصرمين على التوالي.
وفي ظل حديث عن زيارات مرتقبة للرئيس ولوزراء آخرين هي قيد التحضير، يجري تأكيد أنّ هذه الحركية الدبلوماسية حيال أفريقيا هي تجسيد للتواصل الأميركي-الأفريقي رفيع المستوى منذ العام الماضي، وناهيك بهذا، هي تجسيد عملي لمخرجات قمّة الولايات المتحدة الأميركية-أفريقيا التي عقدت في 15 كانون الأول/ديسمبر الماضي والتي أعلن بايدن في ختامها دعمه لأن يصبح الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين.
مبدئياً، يفضي التمعّن في هذا الاستدراك الأميركي للعلاقة مع أفريقيا إلى اكتشاف طغيان المقاربة الاقتصادية على محاوره، فسواء تحدّثنا عن زيارة هاريس، أو يلين قبلها، تتمحور العناوين الكبرى للزيارات الأميركية في مجملها حول أزمة الديون الأفريقية وإعادة جدولتها، التحوّل الطاقوي في أفريقيا وتحدياته، قضايا المناخ، وأخيراً، الارتدادات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية على القارة وبالأخصّ على الأمن الغذائي الأفريقي.
ذلك ما يفهم من خطاب هاريس منذ وصلت إلى أكرا (غانا)، إذ أكدت أنّ سعي الإدارة الأميركية إلى تعزيز الشراكة مع القارة الأفريقية هو وليد إدراك أميركي راسخ لثقل أفريقيا بمقدراتها -الظاهرة والكامنة- في الحسابات المستقبلية للاقتصاد العالمي، وأنّها "ستحدّد مساره خلال القرن المقبل" بحكم جملة من العوامل أبرزها متوسّط العمر في القارة الذي لا يتجاوز 19 سنة، وكذا عدد الأفارقة الذين سيبلغون سنّ العمل في السنوات الاثنتي عشرة المقبلة والذي سيكون الأكبر مقارنة بكلّ قارات العالم.
لا ريب أنّ الأهداف المذكورة كيّفت أيضاً كي تستجيب لحاجات اقتصادية ملحّة للدول الأفريقية تفاقمت بفعل جائحة كوفيد 19 ثمّ بسبب الأزمة الأوكرانية. فهي بهذا نتاج للرغبة في تلافي أخطاء الماضي وبناء استراتيجية أميركية جديدة تتلاءم مع الحاجات الراهنة لأفريقيا، مستندة في ذلك إلى المطالب التي يجري التعبير عنها في خطاب الحكومات والمؤسسات الأفريقية المدنية منذ سنتين على الأقل.
وفوق كل هذا، لا يمكن أن نغفل طموح هاريس عبر ما أعلنته من أهداف إلى ترميم صورة الولايات المتحدة الملطخة بالهيمنة والطغيان المتجذرة في وجدان الأفارقة. بالمقابل، وإذا نحّينا جانباً ما أعلن من أهداف، يمكن الإقرار بأنّ انبعاث حركية المبادرة والاهتمام الأميركي بالقارة الأفريقية الآخذ في التطوّر يوعز إلى السعي الأميركي لتدارك التدهور الذي ألحقته إدارة الرئيس ترامب بالعلاقات الأفريقية-الأميركية، وهو مدفوع بنية استرداد نفوذ تآكل أفرز وضعاً متراجعاً في العلاقات الأميركية-الأفريقية.
أمّا الأهم من كل ما سبق، فهو التنافس مع الصين في قارّة لا يمكن إهمالها وإهمال ثقلها البتة في حسابات الموازين الاستراتيجية لكل دولة تطمح للوصول إلى الريادة العالمية أو المحافظة عليها. والحال هذه، فإنّ الولايات المتحدة المقتنعة أخيراً بأنّ بنية القطبية العالمية آيلة لا محالة إلى التعدّدية بدل الأحادية، انتبهت إلى مستوى تراجع نفوذها في القارة الأفريقية لصالح الصين التي انتهزت فرصة انغماس الولايات المتحدة في معضلات الشرق الأوسط كي تمدّ نفوذها الاقتصادي مع دول القارة الأفريقية وتعمّقه.
لا ينطبق ما سبق كلياً على روسيا، إلا أنّ نزوع الأخيرة إلى تمديد مناطق نفوذها الأمني شمال القارة الأفريقية ووسطها وغربها، واقترابها التدريجي من السواحل الأفريقية على الأطلسي، بات أيضاً دافعاً بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية للانخراط في مواجهة باتت حتمية بلا ريب مع روسيا، ولعلّ هذا الذي يفسّر لنا نسبياً سبب بداية هاريس زيارتها لأفريقيا بغانا، الدولة الأطلسية المجاورة لبوركينا فاسو حيث يترسّخ الحضور الروسي أكثر يوماً بعد يوم.
إذا قرأنا زيارة هاريس من هذه الزاوية، سنجد بأنّ انخراط إدارة بايدن في استراتيجية جديدة إزاء أفريقيا هو أمر فرضه عليها النفوذ المتصاعد للصين وروسيا في القارة الأفريقية، فهو حتمية أكثر منه اختيار، إذ لم يعد من العقلانية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية في ظل هذا المعطى الجيوسياسي، وفي ظل قطبية أحادية هي آيلة للزوال لا محالة، أن تقف موقف المتفرج أمام هذه المتغيّرات ولا أن تتجاهل حركية غرمائها الجيوسياسيين وهم يواصلون تعديل موازين القوّة لصالحهم.
ذلكم هو التحدي الأساسي بالنسبة للولايات المتحدة الذي يدفعها إلى مزيد من الانخراط في الشؤون الأفريقية عبر مدخل دعم الديمقراطية، مثلما صرّحت هاريس في أكرا، إنه التفوّق لصالح الصين الذي تثبته الأرقام والاستثمارات. ففي وقت تصرّح فيه نائبة الرئيس الأميركي بوجوب تعزيز الشراكة الأميركية-الأفريقية، نجد أنّ الصين استثمرت خلال العقدين الماضيين (2002-2021) ما يناهز 240 مليار دولار في 22 دولة أفريقية أنفقتها على مشاريع البنية التحتية، الطرقات السريعة، السكك الحديدية، المطارات، المرافق السكنية وكذا بنايات لمؤسسات حكومية...
مشاريع هي بلا شكّ ذات عائد اقتصادي بالنسبة للدول الأفريقية وتنسجم مع أهدافها التنموية، وتحقّق في الآن ذاته المصالح والأهداف الصينية المسطّرة في مشروع الحزام والطريق وعلى رأسها الحفاظ على معدل نمو مرتفع للاقتصاد الصيني.
في هذا الصدد، من المفيد أن نورد مؤشّرين اثنين يؤكّدان كيف يحدّد هاجس المنافسة مع الصين أهداف الاستراتيجية الأميركية في أفريقيا: أولهما هو الخطاب الداعم لمشاريع البنى التحتية ولا سيما الرقمية منها في أفريقيا. كان هذا محور المبادرة التي أطلقها بايدن في القمة الأميركية-الأفريقية الأخيرة حين أعلن عن تخصيص مبلغ 350 مليون دولار لتوسيع شبكات الإنترنت في أفريقيا وتطويرها رقمياً.
وثانيهما، هو التركيز على استعداد الولايات المتحدة لمساعدة الدول الأفريقية للتخلص من مديونيتها إزاء الصين. وهنا، يركّز خطاب كامالا هاريس وجانيت يلين على تصوير الديون الصينية كقيد على التنمية في القارة الأفريقية.
تظهر هذه المؤشرات كيف أنّ عمل أميركا على استدراك نفوذها المتعثّر في القارة الأفريقية يقوم في شق منه على تقليد الصين في شراكتها مع الدول الأفريقية، وعلى محاولة تعطيل هذه الشراكة عبر تشويهها. في شقّه الآخر، إنها الاستراتيجية نفسها التي تطبّق على العلاقات الأفريقية-الروسية. وبالنظر إلى التحدّي، ليس من المفاجئ رؤية واشنطن وهي تعمد إلى هذه السياسات في ظل استمرارية ترسّخ العلاقات الأفريقية-الصينية والأفريقية الروسية على حساب علاقتها هي مع أفريقيا.
ومع هذا، يبدو أنّ واشنطن تهمل أنّ ما يعطي أسبقية للصين وروسيا في القارة الأفريقية ليس من طبيعة مادية واقتصادية فقط، ذلك أنّ العوامل التاريخية والدعم الصيني والروسي للحركات التحررية الأفريقية ضد الكولونيالية الغربية يؤدي دوراً قوياً في ترسيخ معطى التفوق الصيني والروسي في أفريقيا.
كما يبدو أن واشنطن لن تعير اهتماماً كبيراً لتحدٍ آخر أكبر؛ إنه الفلسفة التي تبنى عليها العلاقة مع أفريقيا، ففي حين تقدّم الصين وروسيا عروضاً للشراكة تتلافى منطق المشروطية والإملاء والازدراء، ما زالت الولايات المتحدة والغرب من ورائها تتخفّى خلف مسمّى المساعدة لتغطي مساعيها نحو الهيمنة. إنها مفارقة لا ينبغي ألا تهمل في التشخيص حتى لا يكون هناك خطأ في العلاج.