نصر الله والسنوار...قراءة في سطور الخطاب ودلالات الانتخاب
واشنطن في الخندق الآخر من المعادلة، و"المتغطي بها عريان"، والسائرون وراء سرابها، سيقبضون الريح، وسيندمون حين لا ينفع الندم، وما حك جلدك غير ظفرك، وليس ثمة من طريق سوى مقارعة النار بالنار.
هي مصادفة محضة، تلك التي أفضت إلى تزامنٍ غير مقصود، بين خطاب السيد حسن نصر الله في ذكرى أسبوع الشهيد فؤاد شكر، وقرار قيادة حماس انتخاب "الشهيد الحيّ" يحيى السنوار رئيساً لمكتبها السياسي، لكنها "مصادفة تتكشف عن ضرورة" كما يأتي في قواميس الفلسفة.
بين الخطاب والانتخاب، مساحة وعيٍ مشترك... قيادتا المقاومة الفلسطينية واللبنانية تقرآن في الكتاب ذاته، وتصلان بالضرورة إلى الخلاصات ذاتها، ومن بعض ما كشف عنه الخطاب وأوحى به الانتخاب:
أولاً؛ وحدة الساحات والمسارات...الأمين العام شدد للمرة العاشرة على الأقل، منذ بدء الطوفان، أن هزيمة المقاومة الفلسطينية في غزة، أمرٌ دونه خرط القتاد، وهو خط أحمر، تعمّد بالدم الغزير والكثير، ولا أمن ولا سلام، لا تهدئة وهدوء على مختلف جبهات الإسناد، قبل أن تنعم به غزة وشعبها المظلوم ومقاومتها الباسلة.
قيادة حزب الله "صوتت" بالدم والنار لقرار السابع من أكتوبر حتى وهي لم تكن تعرف بتوقيته وتكتيكاته وتفاصيله، ولم تتردد في خوض معارك المشاغلة والإسناد، وصولاً إلى الانخراط الواسع في "المعركة الكبرى"...قيادة حماس بقرارها انتخاب السنوار زعيماً للحركة، "منحت الثقة" مجدداً لقرار السابع من أكتوبر، وخيار الطوفان والمقاومة...وفيما الحرب البربرية على غزة تدخل شهرها الحادي عشر، تُجدد المقاومتان، التزامهما الذي لا يأتيه الباطل عن يمين أو شمال، بصوابية القرار والاختيار والنهج، وتلكم مسألة تستحق الالتفاتة والتقدير والتظهير.
ثانياً؛ لم يكن "الخطاب" أكثر وضوحاً يوماً، لجهة كشفه زيف الوعود والتعهدات الأميركية، فواشنطن لا تنتبه إلى حاجة الإقليم والعالم إلى التهدئة وخفض التصعيد، حين تشرع "تل أبيب" في التصعيد والاستباحة، بيد أنها لا تترك حجراً إلا وتقلبه بحثاً عمّا يمكن أن تعثر عليه من حيل وحبال وحبائل، لتكبيل أيادي المقاومة وخداعها و"تكتيفها" وهي في طريقها لردّ الصاع صاعين للغطرسة والاستعلاء الصهيونيين...هكذا تحدث نصر الله، مقارناً بين اهتياج واشنطن الراهن ذوداً عن "إسرائيل" ودرءاً لكأس الانتقام الحتمي الآتي، وبين لجوئها إلى صمت القبور، فيما "تل أبيب" تفبرك القصص والاتهامات وتختلق الأعذار في واقعة "مجدل شمس"، توطئة لأوسع حملات التعدي والاستباحة من شمال طهران، إلى جنوب بيروت.
اختيار حماس للسنوار، عطفاً على سلسلة المواقف والتصريحات الصادرة عن قيادة حماس طيلة أشهر التفاوض حول "صفقة التهدئة والتبادل"، يشي بضيق حمساوي من ألاعيب واشنطن وأكاذيبها، التي ما انفكت تمد الحبل جرّاراً لنتنياهو، وتعطيه ما يلزم من وقت وسلاح وذخائر ومال للمضي في حرب التطويق والتطهير والإبادة، وتوفير شبكات الأمن والحماية لهذا الكيان بعد أن ظهر عجزه عن حماية نفسه، في غير محطة من هذه الحرب، ليس السابع من أكتوبر والرابع عشر من نيسان، سوى غيض من فيض هذا العجز، المصحوب بسقوط الأساطير والخرافات التي أحاطت بهذا الكيان وقدرته الفائقة على الردع وانتزاع الانتصارات السريعة والمجانية.
خلاصة الخطاب والانتخاب: واشنطن في الخندق الآخر من المعادلة، و"المتغطي بها عريان"، والسائرون وراء سرابها، سيقبضون الريح، وسيندمون حين لا ينفع الندم، وما حك جلدك غير ظفرك، وليس ثمة من طريق سوى مقارعة النار بالنار، والولايات المتحدة والعالم لا تحترم إلا الأقوياء، ولا تفهم سوى لغة القوة... ولدينا ركام من تجارب "الخذلان والتخلي"، لدينا سجل حافل من الوعود الكاذبة والرهانات الخائبة والمفاوضات الفارغة.
ثالثاً؛ للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، تجارب مؤلمة مع المنظومة الرسمية العربية، عناوينها تراوح بين عجز دول وحكومات، وتواطؤ أخرى وتآمرها... حرب تموز 2006 ما زالت شاهداً على هذا التخلي والخذلان، وحرب الطوفان، تنهض كشاهد حيّ آخر على بلوغ العجز أسفل درك، وبلوغ التآمر حدّ الفجور... حتى إن بعض الرسميات العربية، لم تدارِ خجلها حين ذرفت الدمع على ضحايا الطوفان من "المدنيين الإسرائيليين الأبرياء"، منددة بحماس و"إرهابها"، لتلوذ بعد ذلك، بصمت القبور، فيما الطائرات والاستخبارات الإسرائيلية، تستبيح غزة وبيروت وطهران والحديدة وجنوب لبنان، وتطيح قادة المقاومة، من فلسطينيين ولبنانيين، وتضرب في عمق السيادة و"الشرف"، وتشعل النار والدمار بأهداف وبنى تحتية مدنية خالصة.
خلاصة الخطاب والانتخاب: لا تعويل على هؤلاء، ولا "ترياق" يرتجى من تصريحاتهم وتحركاتهم، خطابهم موجّه لتخدير شعوبهم ومجتمعاتهم، ألسنة بعضهم معنا، وسيوف غالبيتهم ضدنا، ولا بدّ مما ليس منه: المضي في تعزيز لحمة الساحات ووحدتها، فهي الرهان الأخير، حين عزّت الرهانات الأخرى.
رابعاً؛ في الخطاب، التزم السيد نصر الله، بالرد الحتمي الفاعل والمؤثر والمؤلم والشجاع الآتي لا ريب فيه، وذكّر بالتزام طهران وصنعاء بالثأر ممن تطاول على الكرامة والشرف والبنيان... وفي الانتخاب، أوصلت حماس لنتنياهو رسالة إجماع نادر: قتلتم المفاوض منّا، فأتيناكم بالمقاتل فينا، بل بزعيم المقاتلين وإمامهم، فإن كنت عاجزاً عن الحديث مع هنية والحية في القاهرة والدوحة، فاذهب للحديث مع السنوار في خنادق غزة وأنفاقها.
لغة كسر التحدي بالتحدي، ورد التحية بأحسن منها، أو بالأحرى ردّ الصاع صاعين، فنحن قوم لا ننكسر برحيل القادة واستهدافهم، فقد مررنا بعمادة النار والبارود، وإن ظن نتنياهو ويمينه الفاشي، أننا سنضرب صفحاً عن جرائمه واغتيالاته، أو أننا سنأتي بوجوه كسيفة ورؤوس مطأطئة، فقد طاش سهمه وخاب ظنه... الرد آت لا محالة، من لبنان واليمن وطهران، ومن خنادق غزة وأنفاقها...تلكم هي خلاصة الخطاب والانتخاب.
خامساً؛ للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية سجل حافل في توديع قيادات واستقبال أخرى، وفي ملء فراغاتها بسرعة قياسية، وتجربة المقاومتين، تشي بأن الأجيال الجديدة، أكثر حزماً وحسماً وإمساكاً بجمر القضية والبندقية... "إسرائيل" اغتالت السيد عباس الموسوي فجاءها السيد حسن نصر الله، وهي اغتالت "فؤاد المقاومة" على أن المقاومة لن تفقد فؤادها وأذرعها القوية...
و"إسرائيل" اغتالت جيلاً من الآباء المؤسسين لحماس، وبعض أبنائهم، على أن أحفادهم الذين يخوضون غمار المعارك اليوم، ليس أقل صلابة ودراية وتصميماً من جيل الآباء المؤسسين... إن غاب سيد قام سيد، هكذا خاطب الشهيد هنية قائد الثورة والجمهورية الإسلامية في إيران السيد خامنئي كأنه يرثي نفسه، ذهبوا بـ"أبو العبد" فجاءهم "أبو إبراهيم"...تلكم دورات متعاقبة من التحدي والاستجابة، لا يعرفها إلا من اجتاز بجدارة وجسارة، معمودية الدم...لم تكن صورة الابن المقاوم يرثي أباه المقاوم الشهيد، كما حصل في الضاحية بالأمس جديدة على المخيال العربي المقاوم، ولا جديد في قول نصر الله أن لدينا ثلاثة أجيال من المقاومين يمتشقون السلاح، تلكم أيضاً صور حفل بها التاريخ الكفاحي للشعب الفلسطيني، وما سرعة اختيار حماس لقائدها، سوى أحدث الصور الدالة على دروب الأجيال.
سادساً؛ أخيراً، وليس آخراً، المقاومة في فلسطين، كما في لبنان، عاقلة وراشدة، وهي "أم الصبي"، بخلاف المزايدين عليها من أبناء جلدتها... حماس لن تبرح الخندق ولن تترك قاعة المفاوضات، بما يسرّع وينهي معاناة شعبها، والسنوار كان مفاوضاً من الخندق والنفق، والمقاومة اللبنانية، تعرف أكثر من غيرها، معاناة اللبنانيين وظروفهم الصعبة، وهي تأخذ ذلك في الاعتبار حين ترسم قواعد الاشتباك، وتقرر إلى أي مدى ينبغي لقذائفها أن تصل وأي أهداف ستختارها صواريخها...
المقاومون ليسوا هواة ولا مغامرين، هم أهل هذه الأرض وأصحابها والأولى بها، هم الذين قدموا الدماء رخيصة لاسترداد حريتها وعروبتها، وهم في الوقت الذي يرفضون فيه الضيم والخنوع والخضوع، لا يتركون "شاردة" دون التقاطها لرفع الظلم والألم والمعاناة عن شعوبهم... تلكم خلاصة أخرى، لا تُخطئها العين، وهي تمر بين سطور الخطاب وتقرأ في دلالات الانتخاب.