نتنياهو.. اللعب بالبيضة والحجر
هزيمة الكيان باتت واضحة للجميع، وهو ما انعكس سلباً على الداخل الإسرائيلي، فباتت التظاهرات شبه يومية، بعدما كانت تخرج في كل يوم سبت فقط، وبات عدد المتظاهرين يتجاوز 150 ألفاً، بعدما كانوا بالعشرات أو المئات.
شهور تسعة مرت على المجازر التي ترتكبها "إسرائيل" بحق الشعب الفلسطيني في غزة، حتى باتت أطول حرب في تاريخ الكيان الغاصب، والأشد عنفاً ودموية وخسارة على الصعيد العسكري والاقتصادي والاستراتيجي.
وباتت الملامح الأساسية لهذه الحرب أكثر ارتساماً ووضوحاً، فهي حرب الإبادة الجماعية بامتياز، إذ صبت "إسرائيل" جام غضبها على الشعب الفلسطيني الأعزل، بعد فشلها في مواجهة حركة حماس التي ما زالت حتى اليوم قادرة على استهداف الداخل الإسرائيلي.
لقد تعرضت غزة لوابل من القذائف يعادل سبع قنابل نووية أو أكثر من التي تم إلقاؤها على هيروشيما، لكن غزة أصغر بكثير من هيروشيما، وهو ما يزيد كثافة النيران التي ألقيت عليها.
تبلغ مساحة غزة 360 كيلومتراً مربعاً. أما مساحة هيروشيما فهي نحو 905 كيلومترات مربعة. وكان قد ألقي على هيروشيما 13 ألف طن من المتفجرات، في حين تجاوز ما ألقي على غزة 79 ألف طن.
كما أنها كانت حرب تجويع وحصار، إذ استطاعت "إسرائيل" إغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات، ولم تغطِ المساعدات التي دخلت أكثر من 10% من حاجة القطاع من المواد الأساسية.
وجد سكان غزة نفسهم أمام خيارين، فإما البقاء على أرضهم والدفاع عنها والالتفاف حول المقاومة ومساندتها، وإما الخروج من غزة والسماح لإسرائيل بتنفيذ مخططها الاستيطاني الذي سعى نتنياهو إلى تطبيقه بكل ما أوتي من قوة.
لقد جاء طوفان الأقصى ليضع حداً لهذا المخطط، وليعيد إلى القضية الفلسطينية ألقها، رغم التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني، لكنه بكل تأكيد كان مدركاً أن طريق التحرر لن يكون معبداً بالورود.
مؤشرات الانهزام الصهيوني
هزيمة الكيان باتت واضحة للجميع، وهو ما انعكس سلباً على الداخل الإسرائيلي، فباتت التظاهرات شبه يومية، بعدما كانت تخرج في كل يوم سبت فقط، وبات عدد المتظاهرين يتجاوز 150 ألفاً، بعدما كانوا بالعشرات أو المئات.
تغير المزاج العام الدولي، ورؤيته لإسرائيل ككيان قاتل جعل ما يزيد على 150 دولة تعترف بإقامة الدولة الفلسطينية، وأكثر من 120 دولة تتعهد بملاحقة نتنياهو تنفيذاً لقرار المحكمة الجنائية الدولية.
لقد تغيرت صورة إسرائيل كـ"واحة للديمقراطية في الشرق الأوسط" على حد زعمهم إلى كيان قاتل. لذا، فقد أعلنت حكومة ماكرون رفضها السماح لشركات صناعة الأسلحة الإسرائيلية بالمشاركة في معرض باريس للسلاح.
الوعود التي قطعها نتنياهو على نفسه وعلى حكومته لم يتحقق شيء منها، فبات بيته قبلة للمتظاهرين الناقمين على سياساته وتصريحاته وفشله في إدارة الحرب، وبات "الانقسام الطولي" سمة من سمات حكومة الحرب المجرمة.
وجاءت زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت إلى الولايات المتحدة الأميركية لتؤكد ذلك، فهي زيارة يقوم بها دون موافقة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عليها، وهو ما يعكس حجم التفكك والخلاف داخل الحكومة.
زيارة غالانت ليست الأولى، إذ كان قد زار أميركا في شهر آذار الماضي، وهذه الزيارة لها خصوصيتها، فهي تأتي في ظرف استثنائي تعيشه "إسرائيل"، وخصوصاً أن قادتها باتوا مقتنعين بأن هذه الحرب ستقرر مصير كيانهم ومستقبله.
غالانت يسعى لإيجاد تفاهمات مع الإدارة الأميركية لضمان استمرارها في دعم "إسرائيل" وتزويدها بالسلاح، بل وربما السعي للحصول على موافقتها على توسيع الحرب تجاه جنوب لبنان.
جبهة لبنان باتت اليوم الشغل الشاغل للجميع، وخصوصاً أن جميع المؤشرات تشير إلى أنها لن تكون نزهة بالنسبة إلى جيش الاحتلال، وأن كل الاحتمالات ستكون مفتوحة في التعاطي مع حزب الله الذي بات اليوم قوة يحسب لها حساب ليس فقط في توازنات القوى الإقليمية، بل وربما الدولية أيضاً.
جبهة لبنان تختلف بكل تأكيد عن جبهة رفح، فإمكانات الحزب أكبر بكثير من قدرات حركة حماس، ودعم الحزب سيكون أكبر من باقي دول محور المقاومة بكل تأكيد.
موقف نتنياهو تجاه الحرب مع لبنان مختلف عن موقفه من عملية رفح، فهو يبدو أكثر تردداً في توسيع الحرب مع لبنان، في حين أن القيادات العسكرية ترغب في ذلك.
أما في معركة رفح، فقد كان نتنياهو أشد اندفاعاً لتنفيذها، فيما كانت القيادات العسكرية مترددة خوفاً مما تمتلكه المقاومة من أنفاق، وقدرتها على توظيف المنطقة وطبيعتها ضد جيش الاحتلال الصهيوني، مع ضرورة التذكير أنهم اجتاحوا رفح ولم نرَ الكتائب الأربع التي كانوا يتحدثون عنها، بمعنى أن نقطة النهاية هي نقطة البداية نفسها.
لهجة التصعيد تجاه لبنان وقرع طبول الحرب من قبل إسرائيل وأميركا والطابور الخامس في لبنان بدأ يخف ويخفت، وبدأنا نسمع من نتنياهو كلاماً مختلفاً.
لقد بات واضحاً أن نتنياهو يشترط موافقة أميركا على تزويده بالدعم والسلاح من أجل الانتصار في غزة واستعادة الردع مع حزب الله، بمعنى أنه بات يشترط مشاركة أميركا وتورطها في الحرب سبيلاً لتحقيق الانتصار في غزة.
نتنياهو يكشف خطته لإدارة غزة
أعلن نتنياهو خطته لإدارة غزة بعد الحرب أو ما يسمى "اليوم التالي". لم تحمل هذه الخطة أي جديد يذكر، بل جاءت لتؤكد سياسة نتنياهو المتعنتة والرافضة لإقامة "دولة فلسطينية"، معلناً أنه لن يسمح بتسليم غزة للسلطة الفلسطينية.
هذا الرفض جاء بعد إعلان نحو 150 دولة في العالم تأييدها إقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
كما أنه جاء بعد توقف المفاوضات وخطة بايدن التي أعلنها لوقف الحرب في غزة، ليؤكد من جديد أن نتنياهو لا يكترث سوى لمصلحته الشخصية ومصلحة كيانه التوسعي، حتى لو اقتضى الأمر التنكر لكل ما قدمه له بايدن منذ اليوم الأول للحرب.
وقف الحرب يعني إعلان هزيمة "إسرائيل"، ونهاية نتنياهو سياسياً، والمضي به إلى السجن. أما استمرار الحرب، فقد بات ينذر باحتمالية توسعها، لتصل حد المواجهة المفتوحة مع حزب الله.
حزب الله لا يسعى لتلك المواجهة بكل تأكيد، لكنه يستعد لها كما لو أنها آتية لا محالة، ورسائل الردع الأخيرة التي كشف عنها الحزب خير دليل على ذلك.
قبول نتنياهو خطة بايدن يعني أنه أعطى ورقة انتخابية لبايدن ضد صديقه ترامب، وهو ما لن يقوم به نتنياهو بكل تأكيد، بل سيسعى بكل ما أوتي من قوة للحصول على تعهد انتخابي من ترامب بأنه، وفي حال فوزه في الانتخابات، سيقدم كل الدعم الذي تحتاجه "إسرائيل" لتحقيق انتصارها في غزة.
دعوة الكونغرس الأميركي نتنياهو لإلقاء كلمته أمام أعضاء الكونغرس تعطي دفعاً سياسياً كبيراً له، وتزيد من الضغط على حكومة بايدن للإسراع إلى تقديم كل ما تحتاجه "إسرائيل" من السلاح.
رغم كل الدعم الذي تحظى به "إسرائيل"، فإنَّ قدراتها باتت تتراجع، وخسائرها تزداد، وقدرتها على حسم المعارك لم تعد ممكنة، وهو ما جعل الحرب التي تجري اليوم في غزة أطول الحروب في تاريخ الكيان وأكثرها دموية.
تناقص قوة الردع الإسرائيلية تبدو واضحة في طول مدة الاشتباك، والإفراط في استخدام القوة، واستمرار قوة المقاومة وقدرتها على الفعل والمواجهة حتى اليوم.
مفهوم الحملة العسكرية في غزة انتهى، لأنه لا يمكن توقع أي جديد، فبنك الأهداف الإسرائيلية من الواضح أنه انتهى ونفد، وهو ما قد يجعل نتنياهو يلجأ إلى تسخين جبهة الشمال، استمراراً في سياسة "بيع الوهم" التي يتبعها منذ اليوم الأول للمعركة.
كل المعطيات تشير إلى أن "إسرائيل" باتت عبئاً استراتيجياً على داعميها، وأن المستقبل سيحتم على تلك الدول إعادة النظر فيها كقوة ردع يمكن استخدامها عند الحاجة في المنطقة، وخصوصاً أن الغرب كيان مصلحي.
كما أن "الحتمية التاريخية" تشير، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن الشعوب ستنتصر على مستعمريها، طال الزمان أو قصر.