موقف التيار الوطني الحر: مع التحقيق ولكن!
الحسابات الانفعالية العاطفية المبنية على الاعتبارات السياسية والحزبية الشخصية شيء، والموقف الرسمي المؤثر للتيار الوطني الحر شيء آخر.
بعيداً عن انتماءاتهم الحزبية المخاصمة بشدة لرئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر، يمثل الثلاثي يوسف فنيانوس وعلي حسن الخليل ونهاد المشنوق أكثر 3 شخصيات لبنانية صقورية تجاه التيار والرئيس عون والنائب جبران باسيل، ومحرضة عليهما في كل صغيرة وكبيرة.
ولا يوجد في أرشيف الثلاثة كلمة إيجابية واحدة تجاه عون أو العونيين أو باسيل، فيما توجد أطنان ورقية من المواقف والتسريبات التي كان لها دور أساسي وكبير جداً في محاولة شيطنة العونيين. ولا شكّ في أن المقارنة بين حجم التحريض على التيار الذي بثه هذا الثلاثي أكبر في ضرره بأضعاف من كل ما ضخّته ماكينة أحزاب القوات والمستقبل والاشتراكي مجتمعين.
ولا يمكن بالتالي توقع أي رد فعل عوني عاطفي وانفعالي مغاير لرد الفعل الحالي في مواقع التواصل الاجتماعي. هم يرون استنهاض المحقق العدلي لكل خصومهم، وشد عصبهم، ويرون ويسمعون كيف أن تلفزيونات المحقق العدلي وصحفه وناشطيه المدنيين لا يأخذون أبداً التمايز العوني بعين الاعتبار، ويواصلون التحريض على رئيس الجمهورية، باعتباره "كان يعلم"، تماماً كما يحرضون على حزب الله. والأهم أنهم في ثقافتهم وخلفيتهم يعلمون أنهم "سيؤكلون يوم يؤكل الثور الأبيض"، لأن النيل من حزب الله ما هو سوى مقدمة للنيل منهم، والعكس أيضاً. ومع ذلك، إن حجم الضغينة المتبادلة مع هذا الثلاثي أكبر من كل ما سبق.
لكن مع ذلك، إن الحسابات الانفعالية العاطفية المبنية على الاعتبارات السياسية والحزبية الشخصية شيء، والموقف الرسمي المؤثر للتيار الوطني الحر شيء آخر. إن موقف التيار من ملف جريمة انفجار مرفأ بيروت لا تعبر عنه تغريدات الناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي، إنما البيانات الرسمية الأسبوعية للهيئة السياسية التي يرأسها رئيس الحزب النائب جبران باسيل.
وبالعودة إلى هذه البيانات، يمكن تحديد 3 "ضرورات" رئيسية تتكرّر باستمرار، ويطالب بها التيار:
1. ضرورة أن يتابع القضاء العدلي تحقيقه الجدي في قضية انفجار مرفأ بيروت، وصولاً إلى معرفة من أدخل النيترات واستعملها (بيان 25 أيلول/سبتمبر). وفي 2 تشرين الأول/أكتوبر، عاد التيار في بيانه الرسميّ وأكّد أن من واجب التحقيق ومن أهدافه أن يكشف مصدر النيترات ومستورديه ووجهة استعماله. ومرة أخرى، عاد التيار ليؤكد أن الجريمة "لا يمكن أن تكون محصورة بالإهمال الوظيفي". وقبل ذلك، في 28 آب/أغسطس، كان التيار قد أبدى قلقه وخشيته من "محاولات حرف التحقيق عن مساره، بهدف طمس حقيقة من استورد نيترات الأمونيوم ومن المسؤول عن تخزينها".
2. ضرورة "عدم تغاضي التحقيق عن الكميات الكبيرة من النيترات التي ظهرت بصورة مشبوهة في منطقة البقاع"، كما جاء في بيان 2 تشرين الأول/أكتوبر.
3. ضرورة أن يبادر جميع المعنيين إلى وضع أنفسهم في تصرف التحقيق" (بيان 25 أيلول/سبتمبر). وقد أكَّد التيار في بيانه في 2 تشرين الأول/أكتوبر رفضه أن تكون "الحصانات عائقاً أمام التوصل إلى الحقيقة"، مؤكداً الخشية من أن يكون الضغط لإقالة المحقق العدلي نية مبيّتة لتجميد التحقيق ووقف سير العدالة، كما أكّد في بيان 28 آب/أغسطس أنَّ احترام "استقلالية التحقيق أمر مفروغ منه".
وبالتّدقيق أكثر في بيانات التيار، تبرز "لكن" لافتة جداً في بيان 28 آب/أغسطس، إذ يقول التيار إنَّ "موقفنا من رفع الحصانات نهائي وواضح – لكن – على المحقق العدلي الذي نشيد بمناقبيته أن يتنبّه الى دقة الوضع وحساسيته، ويبتعد عن أي إجراء استعراضي غير ملائم لا يخدم الغاية من التحقيق".
وبالتالي، إنَّ إعادة قراءة الموقف الرسمي للتيار تبيّن 3 ثوابت في ما يخصّ التحقيق:
1. وجوب احترام استقلالية القضاء واستقلالية التحقيق، ووضع الجميع أنفسهم بتصرف التحقيق أو ما يعرف بإسقاط الحصانات.
2. وجوب أن يتنبّه المحقق العدلي إلى دقّة الوضع وحساسيته، ويبتعد عن أي إجراء استعراضي غير ملائم لا يخدم الغاية من التحقيق.
3. وجوب تحديد من استورد النيترات وخزّنها وسرقها ووجهة استعمالها، مع رفض جازم لحصر التحقيقات في الإهمال الوظيفي.
4. وجوب ضمّ ملف نيترات البقاع إلى ملف نيترات بيروت، لمعرفة – على الأقل - من كان يهتم بشراء النيترات المخصصة للتفجير، وليس للزراعة، من آل الصقر.
وبالتالي، إن موقف التيار الوطني الحر الهادئ، بعيداً عن صخب مواقع التواصل وانفعالاتها، يتقاطع من جهة مع موقف جزء كبير من الرأي العام في مطالبته برفع الحصانات واستمرارية التحقيق، لكنّه لا يقف عند هذا الحد أبداً، فهذا نصف الكوب فقط. وفي النصف الآخر، مطالبة واضحة بأن يعرف اللبنانيون من أدخل النيترات وخزّنها، ومن كان يسرق منها، ومن هم الأفرقاء السياسيون أو التجار الذين كانوا يظهرون اهتماماً بشراء نيترات الأمونيوم لاستخدامات غير زراعية، وفي هذا تقاطع كامل مع ما يطالب به حزب الله.
تماماً كما أن مطالبة المحقق العدلي بإيقاف "الإجراءات الاستعراضية غير الملائمة التي لا تخدم الغاية من التحقيق" تتقاطع بالكامل مع ما يشكو منه حزب الله، مع العلم أن عدم تحرك المحقق العدلي في ملف نيترات البقاع، ومواصلته التمييز بين رئيس حكومة وآخر، ووزير أشغال وآخر، وضابط أمني وآخر، وعدم توقيفه الفوري لمن يضلّلون التحقيق والرأي العام بفبركات إعلامية، تفاقم الشكوى من "الإجراءات الاستعراضية".
وفي النتيجة، ثمة استغلال هائل لملفّ انفجار مرفأ بيروت في شد العصب هنا وهناك، وثمة استدعاءات لشخصيات يناكفها جمهور التيار، بموازاة الاستمرار في توقيف واستدعاء شخصيات يحترمها ويحبها هذا الجمهور (النداف، ضاهر، إبراهيم، صليبا)، لكن التيار لا يجد نفسه مخيراً في هذا الملف بين الأبيض والأسود، وبياناته المتلاحقة منذ تفجير المرفأ ترسم خارطة طريق واضحة: استمرارية التحقيق مع "لكن": استمرارية التحقيق، لكن مع تركيز أكبر على كيفية دخول النيترات ومن كان يستفيد منها. استمرارية التحقيق، لكن مع إيقاف الإجراءات الاستعراضية. استمرارية التحقيق، لكن مع شموله "كلهم يعني كلهم"، بدءاً من رئيس الجمهورية الذي وضع نفسه بتصرف المحقق العدلي، لا جزء صغير منهم يصادف أن غالبيته من لون سياسي واحد. استمرارية التحقيق، لكن مع ضم نيترات البقاع إلى الملف، وفضح خلفية إنتاج مسرحيات شهود الزور وأسبابها.
والمؤكد في هذا السياق أنَّ هذه هي خارطة الطريق الوحيدة لإعادة التحقيق إلى الطريق الصحيح الذي يرضي غالبية اللبنانيين، مع العلم أن الموقف الواضح لرئيس التيار سيتحدد يوم السبت المقبل في كلمته في المهرجان الذي ينظمه التيار في ذكرى 13 تشرين الأول/أكتوبر.