مناورات موسكو في المتوسّط.. العالم لا يتغيّر عند الحدود الأوكرانية فقط
كان المشهد من سماء سوريا يعيد إلى الأذهان مشاهد العالم المرتجف على وقع نزاعات حافة الهاوية في حقبة الحرب الباردة.
الأخبار المتسارعة من الحدود الأوكرانية الروسية، بحربٍ أو من دونها، تؤشّر إلى سياقاتٍ جديدة في علاقات مراكز الثقل الدولية، تؤدي موسكو فيها دور صانع الألعاب. اللعبة هنا أبعد من تشبيه ما يجري بمبارزة شطرنج. ما يجري، وفق سرديّة تنتشر في الصحافة الغربية، هو قرار روسي بإعادة تركيب المشهدين العسكري والسياسي الدوليين انطلاقاً من موازين القوة الجديدة، وانطلاقاً من الترهّل الذي بدأ يظهر بوضوح على عضلات المنظومة الغربية التي تسيّدت العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
لعلّ السطور السابقة تصلح لتأويل أيِّ حركة عسكرية روسية وازنة في العالم، بالنظر إلى مغزاها، وهو أنَّ موسكو تعيد تثبيت ما يمكن تثبيته من حضورها في البقع المفصلية من جغرافيا العالم بحاراً وحدوداً وقطباً شمالياً.
من هنا، يمكن الانطلاق لفهم مشهد روسي عسكري ثقيل، ليس في الحدود الجليدية مع أوكرانيا، بل في مياه المتوسط الدافئة. طرادات "فارياغ" و"مارشال أوستينوف"، وفرقاطات "الأميرال كاساتونوف"، قوة موسكو الضاربة، تستعرض مقاتلات "الميغ 31" المزودة بصواريخ "كينجال" وهي تقترب من قاعدة طرطوس البحرية. 16 نسخة بحرية منها، وأكثر من 60 طائرة، شاركت في المناورات الأخيرة على ضفاف المتوسط.
تتوالى صنوف الأسلحة الاستراتيجية التي غيّرت روسيا باستخدامها معادلات ميدانية معقّدة. نتحدَّث هنا عن صواريخ "كاليبر" المجنّحة مثلاً. السفن العائمة التي تخرج هذه الصواريخ من قلبها تعادل بحشدها قاعدتي حميميم وطرطوس الروسيتين في سوريا. كان المشهد من سماء سوريا يعيد إلى الأذهان مشاهد العالم المرتجف على وقع نزاعات حافة الهاوية في حقبة الحرب الباردة.
استعراض القوة الروسية في المتوسط ومتانة التحالف مع سوريا عبّر عنهما حضور وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو المناورات وإطلاعه الرئيس السوري بشار الأسد عليها. أخذت هذه المناورات مداها الطبيعي في فترات متقاربة جداً مع مثيلاتها في البحر الأسود والمحيطات الأطلسي والهادئ والمتجمد الشمالي.
اختارت موسكو أن تتوسّع غرباً، ووجدت في الجغرافيا المتوسطية، سوريا، قاعدة مواجهة روسيّة لأميركا. ما سلف لا ينفي ضرورة وضع المناورات أيضاً في سياق العمليات الروسية المستمرة في سوريا، وتدعيم الانخراط الروسي العسكري هناك، واختبار جاهزية القوات أو الأسلحة المشاركة فيها.
لقد أكَّدت مصادر سورية رفيعة للميادين أنَّ "دمشق ترى المناورات تعزيزاً عسكرياً استراتيجياً لنفوذ روسيّ بات يرتبط أكثر فأكثر بالأمن القومي، وليس مجرّد تحالف في الحرب على الإرهاب".
وأضافت المصادر أنّ "نشر صواريخ "كينجال" الفرط صوتية في قاعدة حميميم الجوية يوسّع المجال العسكري لروسيا إلى قطر 2000 كلم، ويجعل سوريا مركز توازن بين روسيا وأعدائها، ويضعها ضمن معادلة دولية جديدة".
أوكرانيا ليست وحدها في أجندة المناورات إذاً. الإبحار في المتوسط يلتفّ على الدرع الصاروخيّة التي تطوّق بها أميركا روسيا في منصّاتها المنشورة شرق أوروبا، ويعطّل عمل الدرع الصاروخية والحصار البحري الَّذي فرضه الناتو طويلاً في البحرين الأسود والمتوسط.
تقع خطوط الغاز أيضاً في بنك أهداف المناورات التي تأتي بعد مناوراتٍ روسية إيرانية صينية، وبعد تصلّب نفوذ موسكو في الضفة الشرقية للمتوسط، وعلى تخوم خطوط الغاز في سوريا ولبنان وفلسطين المحتلّة. عندما قرّر الروس الانخراط بشكل واسع في سوريا أجروا سلسلة من المناورات في مطلع أيلول/سبتمبر 2016، وكان التمرين الَّذي أجرته القوات الروسية هو اختبار قدرة القوات الجوية على نقل قوات كبيرة إلى قواعد بعيدة عن روسيا.
سياسياً، لطالما استفادت سوريا من ذلك لتقوية القرار السوري وتعزيز قدرة دمشق على الاعتراض على عملية سياسية لا تتناسب وشروطها. وعندما تستعرض المناورات أساطيل البحرين الأسود والمتوسط الروسية، وكلّ هذه القدرة النارية، فهذا يعني أنّها تصبّ في خدمة الحلف بالمعنى الاستراتيجي، بما ينعكس إيجابياً على مناعة القرار السوري السياسي.
أما عسكرياً، فإنَّ جزءاً كبيراً من القوات التي تجري عمليات ومناورات في المتوسط يعزّز العمليات الميدانية. وليس سراً أنَّ جزءاً كبيراً من القوات التي شاركت في هذه المناورات يتأهَّب للبقاء في المنطقة، وفق ما تؤكّده المصادر السورية الرفيعة للميادين، والتي تتحدّث عن توسيع الحضور العسكري الروسي براً وبراً وجواً في سوريا، وربما إنشاء قاعدة جوية روسية جديدة قد تكون في الشعيرات، وهي إحدى رسائل هذه المناورات، كنقلة نوعية في الدعم الروسي لسوريا، انطلاقاً من كسر موسكو حدود معادلات القوة التي فرضها الغرب لعقود خلت.