من اللاحيادية وُلدت "الميادين"
الحياد، في مفهوم "الميادين"، هو موقف اللاموقف، لا يستوي مع رسالتها، ولا مع رؤيتها.
في مرحلة فارقة من تاريخ المنطقة وُلدت "الميادين". الضبابية التي خلّفها غبار الأحداث، في مراحل معيّنة لدى الرأي العام، انسحبت أيضاً على مفاهيم أساسية، كانت وما زالت محلّ جدال على المستويَين الأكاديمي والإعلامي. من أساسيات عمل أي مؤسسة إخبارية أن تنقل الحدث، أن تُعْلم، وتنبئ، وتفسّر ما يحدث، وتقشع الضبابية، وتزيل الالتباس والتشويش. لكن، ليس هذا ما يحدث دائماً في أرض الواقع. يمارس الإعلام أيضاً دور التضليل والدعاية، وأحياناً يعزّز الالتباس ويشوّه الحقيقة. وهناك من يختار الحياد عندما تكون الحقيقة واضحة، حتى عندما يمارس الجلّاد أفظع جرائمه تحت عين الشمس. فلسطين مثال حيّ على ذلك.
وُلدت "الميادين" في خضم أحداث غير مسبوقة ضربت المنطقة، ما زلنا نشهد تبعاتها. إعصار من الفتنة والالتباس والتشويش والتضليل والإرهاب والتآمر. لم يكن الإعلام العربي بعيداً عن الحدث، بل في صلبه. تحوّلت الشاشات إلى مَدافع تقصف العقول في واحدة، ربما، من أكبر محاولات تشويه الوعي والحروب النفسية، التي مرّت على الأجيال العربية المعاصرة. المفاهيم والمنطلقات الفكرية والسياسية لم تكن على الهامش تماماً. ما زال النقاش مستمراً حتى اليوم بين مفهومي الحياد والموضوعية في الصحافة، وهو نقاش، في جزء منه، مستورد من الأدبيات والمفاهيم الغربية.
بين التصدّي والحياد، لم تتردّد "الميادين". انحازت منذ البداية ضد الحياد والحيادية. انحياز كامل نحو صحافة الموقف، بناءً على قناعة وتصوّر وتصميم. بذلك، وضعت القناة منذ تأسيسها خطاً فاصلاً بين المصطلحين، بين الحياد والموضوعية، في وقت كان الخلط واللغط والتعميم والتشويه والتضليل تسود حيزاً واسعاً من المشهد الإعلامي العربي، في شقّيه: الإعلام الوافد من الخارج، الذي تعبّر عنه فضائيات أجنبية ناطقة بالعربية موجَّهة إلى الرأي العام العربي، والإعلام المقيم والناطق باللغة العربية والمعبّر عن توجهات دول وحكومات شاركت، عبر أموالها وإعلامها وأجهزتها الأمنية، في المعركة الكونية، التي أطلقت عليها "الميادين" "عشريةَ النار".
منذ نشأتها، ميّزت "الميادين" بين المصطلحين: الموضوعية لا تساوي الحيادية. لا يستوي الحياد بين الحق والباطل، بين الجلّاد والضحية، بين الاحتلال والمقاومة، بين "داعش" والأوطان، بين التضليل والحقيقة. الحياد، بهذا المعنى، هو عكس الموضوعية.
لم يكن بديهياً على الإطلاق هذا التمييز. لم يكن ذلك بديهياً خلال ولادة "الميادين"، ولا قبل انطلاقتها، ولا بعد ذلك، عندما شقّت مسارها الجريء بين حقول الفِتَن المتنقلة، وميادين الدمار المموّل، وهواء السموم المذهبية؛ يوم كان الاختلاف مع السردية الإعلامية السائدة، مدعاةً إلى التهكّم والسخرية والإقصاء، ومحلَّ اتهام وتنديد.
لا تدّعي "الميادين" عصمة في عملها، ولا مثالية في أدائها، بل محاولة دائمة في الاقتراب من شعارها "مع الإنسان في كل مكان"، وترجمة "الواقع كما هو"، في رسالتها الإعلامية وفي محتواها ومضامينها. صحيح أنه طموح مهني لا يخلو من التحديات، لكنّ الواقعية تقتضي القول إن "الميادين" لم تتورّط في لوثة الفِتَن، والنفخ في رماد المذهبية والحقد والتفتيت.
"الميادين"، على امتداد مسيرتها، كانت تجمع ولا تفرّق. تنظر إلى التنوّع في المنطقة، اجتماعياً وثقافياً وحضارياً وإنسانياً، على أنه مصدر غنىً. ترفض التطرف والإقصاء وتبحث عمّا يوحّد ويؤلّف، فالتناقض الرئيس هو التناقض مع الاحتلال الإسرائيلي؛ تناقض بين الإرهاب، في كل أشكاله وصوره، وبين الانفتاح والعقل والتنوير. هكذا نفهم "الميادين"، نحن أبناءَها، وهكذا نفهم رسالتنا الإعلامية.
من المفهوم أن يكون الحياد في معركة انتخابية بين الحزب الجمهوري الأميركي والحزب الديموقراطي، أو خلال تغطية أحداث سياسية في بلاد قَصِيّة. لكنّ "الميادين" لا تفهم الحياد ولا تتفهّمه عندما يتعلّق الأمر بصُلب مصالح شعوب المنطقة وأمنها واستقلالها ومستقبلها. من هنا، كانت القدس المحتلة البوصلة التي تجمع، وعنواناً للحق، وستبقى.
عشرة أعوام من النار والدمار، لم يكن التمييز بين المفاهيم ترفاً فكرياً، ولا هواية ذهنية، بل كان في صميم التوجهات والسياسات الإعلامية، وأساس القراءات والتغطيات والتحليلات. لذا، لم يكن صدفة أن تختار "الميادين" شعارها: "الواقع كما هو". شعار لم يكن مجرد ديكور ولعبة بصرية تقتضيهما صناعة الإعلام المرئي، بل رؤية تحريرية تتطلب بالضرورة جرأة وصلابة وتحديد الخيارات وإعلان الموقف.
لا تتّسع المناسبة لإعادة التذكير بعشرة أعوام من الأهوال والدمار، التي قتلت البشر والحجر، وشوّهت النفوس، وغيّرت معالم الديموغرافيا والجغرافيا. لم تكن صدفة أن نصل، بعد عشرة أعوام، إلى الجهر بالتطبيع مع "إسرائيل". ما جرى، منذ عشرة أعوام، نقطف ثماره اليوم. ما يحدث اليوم نقطف ثماره غداً. لذا، ليس من قبيل الصدفة مجدداً أن تختار "الميادين" شعارها للعشرية المقبلة: "غدنا يبدأ اليوم".
لنتخيّلْ لو أن ما مرّ على المنطقة، من تضليل وتشويش وحرب نفسية وحرف للبوصلة، لم تكن فيه "الميادين" مشروعاً، وخياراً إعلامياً، وفضاءً مغايراً لنقل الحقيقة. لو لم تكن "الميادين"، لَكان يتعّين وجود "ميادين".