من "إسرائيل الشرقية" إلى عربان التطبيع: السعيد من اتعظ بغيره!
إن حقيقة عدم وصول مرشح يهودي شرقي واحد لقيادة "إسرائيل" منذ نشأتها هي فشلٌ اجتماعي صارخ، وهي دليلٌ على أن الكيان يسقط سقوطاً مدوياً لمصلحة ثقافة الاستعمار الغربي.
يتحدث قادة "إسرائيل" بكثير من الشوق واللهفة عن اتفاق التطبيع المحتمل مع السعودية، ويسهبون في تعداد النعم الجزيلة والخير الوفير الذي سيجلبه الاتفاق لشعوب المنطقة. وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر قال خلال مقابلة تلفزيونية: "إذا حدث اتفاق سلام بين السعودية وإسرائيل، فهذه بداية نهاية الصراع الإسرائيلي العربي، وسوف نحقق بذلك مصالحة بين اليهودية والإسلام، ونزيد فرص السلام مع الفلسطينيين".
أما وزير خارجية الاحتلال إيلي كوهين، فقال: "الفلسطينيون لن يكونوا عائقاً أمام التطبيع مع السعودية، ولن يكون هناك سباق تسلح نووي، والاتفاقية ستعزز الأمن والاستقرار الإقليميين".
يبدو مشهداً ساخراً وهزلياً بعض الشيء، فـ"إسرائيل" التي بَنَت مشروعها الصهيوني على أنقاض "العروبة" وحوّلتها إلى ثقافة العدو التي يجب أن تحارب، فحاربت اللغة العربية، وازدرت الثقافة العربية، وحوّلت كل العرب إلى "إرهابيين" وخطرين، هي ذاتها التي تظهر علينا اليوم في "ثياب الواعظين"، وتحدثنا عن "ثمار" العلاقة معنا نحن العرب. نعم، العرب ذاتهم الذين دعت، وما زالت، لمحو ثقافتهم ومحاربتها وقدمتهم كخطر حقيقي على وجود اليهود و"الدولة" اليهودية!
بالتأكيد، لن يسعفنا الحديث مع عربان التطبيع؛ عاشقي "إسرائيل" كارهي أنفسهم، عما فعلته وتفعله "معشوقتهم" بالعرب والفلسطينيين تحديداً من قتل وإيذاء وتشريد، فقد عقدوا أمرهم على "تصحيح الرواية التاريخية"، فلم تعد "إسرائيل" محتلة معتدية، وربما، وفي نشوة حالة الغرام معها، نشهد تبرئتها واعتبار أن العرب هم من بادروها بالاحتلال والقتل! فما يقول هؤلاء في "الجارة" التي بَنَت نظامها الاجتماعي داخلياً على مبدأ فصل اليهود العرب (الشرقيين) عن العروبة؟ وربما يتفضل هؤلاء المهرولون نحو "إسرائيل" ويخبروننا: لماذا لا يمكن للمجتمع الإسرائيلي إلى اليوم استيعاب رئيس وزراء "مزراحي" شرقي؟ ولماذا لا يسمح النظام السياسي الإسرائيلي لرئيس وزراء شرقي بتولي هذا المنصب؟
لطالما اعتقد الكثير من الإسرائيليين، وتحديداً الغربيين، وما زالوا، أن اليهود الشرقيين، في أول فرصة أو مع انتخاب أول رئيس وزراء إسرائيلي شرقي، سيعبرون الحدود، ويشكلون ائتلافاً ثقافياً مع نظرائهم من العرب، وسيقصون بالقوة الثقافة السياسية "الأشكنازية" الغربية في "إسرائيل"، مدفوعين بكراهيتهم الشديدة لليهود الغربيين.
إن الارتباط التاريخي لليهود الشرقيين ببلدانهم يثير القلق الدائم في "إسرائيل". ومن وجهة نظر العديد من الإسرائيليين، فإن الخطوة الأولى التي سيقوم بها الشرقيون في حال قيادتهم "الدولة" هي "إلقاء الأشكناز في البحر"، والانضمام إلى "أبناء عمومتهم" المسلمين، وإعادة تبني قيمهم الشاملة، والقضاء على "إسرائيل" التي عزلتهم واضطهدتهم وأذلّتهم.
إن الافتراض بأن اليهود الشرقيين سيتخلون في لحظة الحقيقة عن "إخوانهم اليهود الغربيين"، ويديرون ظهورهم للتقدم والازدهار، وينضَمون إلى "التخلف العربي المحيط"، يقوم لدى النخب الأشكنازية على أساس أن اليهود الشرقيين ليسوا في أعماقهم إسرائيليين حقيقيين، ولا وطنيين بما فيه الكفاية. وحين تتاح لهم زمام الأمور، "سيحولون إسرائيل إلى دولة عربية (متخلفة) أخرى في الشرق الأوسط".
لم تَبقَ هذه النظرة العنصرية الغربية حبيسة الأرشيف السري، بل فاضت بها علناً أنفسهم المسكونة بعقد الاستعلاء والكراهية للقيم الشرقية؛ ففي عام 2018، وفي مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية، صَرَحَ الرئيس السابق لبلدية مستوطنة "سديروت" إيلي مويال قائلاً: "لو كان الإسبان هم من أقاموا الدولة، لكانت إسرائيل دولةً عربية أخرى في الشرق الأوسط".
وربما هذا هو أيضاً سبب تعزز "التوجه اليميني" لدى كثير من الممثلين السياسيين الإسرائيليين الشرقيين، من أمثال ميري ريغيف وأمير أوحانا، وحتى في أوساط الجمهور اليهودي الشرقي، مستندين إلى أنّ تعزيز كراهية العرب قد يميزهم عنهم ويجمّل صورتهم في نظر اليهود الغربيين، لأنه إذا "لم تظهر كراهيتك الشديدة للعرب، فكيف سيعرف اليهود الغربيون أنك لست عربياً مثلهم؟".
إن حقيقة عدم وصول مرشح يهودي شرقي واحد لقيادة "دولة إسرائيل" منذ نشأتها هي فشلٌ اجتماعي صارخ، وهي دليلٌ قاطع على أن الكيان يسقط في امتحان الممارسة العملية سقوطاً مدوياً لمصلحة ثقافة الاستعمار الغربي.
وفي الوعي الاجتماعي اليهودي، يسود الشك في أن "المزراحي" اليهودي الشرقي هو العدو، وينكشف "حكم البيض" و"الأبارتهايد" الممارس ضد اليهود الشرقيين والعنصرية والسخرية والسّب بسبب الأصل الطائفي، فالسبب الحقيقي لعدم استيعابهم داخل المجتمع الإسرائيلي ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية هو "لونهم" وتقاليدهم الشرقية البعيدة من "الأشكنازية الإسرائيلية".
ورغم كل الممارسات العنصرية والاضطهاد الذي يعيشه اليهود الشرقيون في "إسرائيل"، لا يشعر "الأشكناز" الليبراليون الغربيون بالذنب لما فعلته الصهيونية منذ قيامها بهم. ورغم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك أعرب عام 1997 عن أسفه لما حدث لليهود الشرقيين مع إقامة "الدولة"، فإنه تحدث عن أخطاء ارتكبت "بحسن نيّة"، وليس عن هيكل منهجي للتمييز والقمع، لكن الواقع الذي تحاول "إسرائيل" أن تخفيه هو أن موقف المؤسسة الأشكنازية تجاه اليهود الشرقيين لا يزال غارقاً في العنصرية والتعالي والتمييز.
ولم تقف وقاحة "الأشكناز الليبراليين" عند حد عدم الشعور بالندم أو الذنب على ما حدث لليهود الشرقيين أو حتى التفكير في الاعتذار منهم، بل تجاوز الأمر إلى اعتبار أن "الصهيونية ودولة إسرائيل" قدمتا خدمة عظيمة لليهود الشرقيين، من خلال "إنقاذهم من الهاوية السحيقة للثقافة العربية وفتح نافذة العالم الغربي أمامهم".
وإن لم يكن هذا كافياً، فربما يودّ زعماء التطبيع العربي أن يسمعوا قيادة "إسرائيل" وهي تنادي علانيةً بأن "اليهود الأشكناز أنقذوا اليهود الشرقيين من محرقة كان من الممكن أن يلحقها بهم الحكام القتلة في العالم العربي والإسلامي".
واليوم، ورغم مرور أكثر من 75 عاماً على قيام هذا الكيان، وبعدما سادت وطغت الثقافة الغربية واللسان الغربي في المجتمع الإسرائيلي، ما زالت القيادات الإسرائيلية الغربية تعمد إلى "تخويف الشرقيين بشرقيتهم"، وتدفعهم إلى التبرؤ منها، وتفهمهم أنها تعني "نبذ قيم الغرب الديمقراطية"، وأنها الأكثر تدميراً وخطراً على وجود "الدولة" وازدهارها، لأنها "ستنهي المشروع الصهيوني الثوري".
اعتادت النخب الأشكنازية حكم "المزراحين" اليهود الشرقيين، وزرعت في الجمهور الإسرائيلي أن المنصب لم يبنَ لرئيس وزراء شرقي، فحقيقة أن "إسرائيل" لم يكن لديها رئيس وزراء شرقي حتى يومنا هذا هي خير دليل على التفوق المتأصّل للثقافة "الأشكنازية الاستعمارية" التي لا ترغب، ولن تتمكّن "إسرائيل" من التخلص منها، حتى لو طَبَّعَ معها العرب جميعاً.
ولا أجد في هذا المقام أجمل مما كتب الشاعر أحمد شوقي لأختم به رسالة اليهود الشرقيين لعربان التطبيع، لعَلَهم لا يكونون من الأشقياء، فيتعظون بغيرهم:
بَلّغ الثَعلَبَ عَنّي عَن جدودي الصالحينا
عَن ذَوي التيجان ممَّن دَخَلَ البَطنَ اللَعينا
أَنَّهم قالوا وَخَير القَول قَول العارفينا
مخطئٌ مَن ظَنَّ يَوماً أَنَّ للثَعلَب دينا