مقام يوسف من الأسطورة التوراتية إلى بؤرة للتحدّي الفلسطيني
المجد اليوم في نابلس للطلقة، إذ تتبدد عبر صداها كلّ القداسات المفتعلة، وكل الاتفاقيات الملفقة، من كامب ديفيد حتى أوسلو.
يحتاج "جيش" الاحتلال الإسرائيلي إلى ساعتين لقطع مسافة 7 كم من حوارة حتى مقام يوسف، ترافقه 3 جرافات وعشرات الآليات المدرعة. هذا ما حصل منذ يومين، وهذا ما يحصل منذ سنة خلت، وقد تدحرجت صخرة الكتيبة بكل عنادها من جنين حتى نابلس في زحف تحت نار لا يتوقف أوارها، وهو ما دفع الصحافة العبرية إلى السخرية مما يجري في نابلس، والتساؤل: "هل هذا هو جيشنا الذي سيضرب إيران وحزب الله وغزة؟!".
"هنا كرامة شعب إسرائيل وميعاد نسل إبراهيم. لذا، لا نعمل اليوم كاللصوص، إنما كأبناء الملوك، لأن الوقت حان ليتوقّف الشعب عن الانحناء، ويأتي لمعانقة يوسف في وضح النهار، ويوسف مفتاح العودة إلى أرض إسرائيل".
هذه هي رؤية روعي تسفايغ، قائد لواء السامرة في "جيش" الاحتلال، وهي أيضاً رؤية حاخام أقدم مستوطنة في الضفة الغربية، كما أنها رؤية توراتية استجلبت عظام نبيّ الله يوسف (عليه السلام) من أقاصي مصر إلى "شخيم"/نابلس.
هو يوسف إذاً، ولكنه ليس نبي الله في الذاكرة الفلسطينية المطرزة بحقائق الواقع المشاهد، بل الرجل الصالح يوسف دويكات، وإن لم يكن ثمة فرق في الاعتقاد الإسلامي الفلسطيني، فإن كان نبيّ الله يوسف الذي يجلّه اليهود، فله إجلال تامّ عند كل مسلم، ولكنها الحقيقة التاريخية المتمثلة بأنّ نبيّ الله يوسف مات ودفن في مصر، ولم يكن ثمة إمكانية لنقل رفاته إلى فلسطين، ولو ثبت مدفنه هنا لاستحقّ التبجيل فلسطينياً بما يفوق الصالح يوسف دويكات.
نقل رفات يوسف عام 1976 أو لنقل أول تنبّه يهودي إلى هذا النقل الذي تم عبر قرون خلت، وتحويله إلى مزار يهودي عام 1982، ليتحوّل إلى بؤرة ساخنة للتحدي والمواجهة، وخصوصاً بعد تثبيت اتفاقية أوسلو لاعتباره مزاراً يهودياً، رغم أنه مسجل قبل ذلك في وثائق أوقاف نابلس باعتباره مقاماً إسلامياً منذ العصر المملوكي الذي طهّر المنطقة من المغول والصليبيين، وهو العصر الذي شاعت فيه مقامات الأولياء.
شعور تسفايغ الملوكي الذي تبجح به في نيسان/أبريل 2022، تبخّر بعد شهرين على التمام، حين نفش ريشه وخالف تعليمات قائد المنطقة الوسطى في "جيش" الاحتلال، وقد أمره بأن يواصل دخول "شخيم"/نابلس كاللص، متجنباً ضوء النهار، إلى عتمة الليل.
وقد أصرّ تسفايغ على تفاخره الملوكي، فاستحقَّ رصاصة في بطنه عبر كمين محكم لكتيبة نابلس في "سرايا القدس"، وشاهد الملوك واللصوص كلهم نحيب 300 مستوطن وهم يختبئون خلف جنبات تراثنا المملوكي الذي أعاد ترميمه شباب بلاطة قبل التنبه الاستيطاني عام 1976، ليكون مكاناً للتعليم والزيارة.
قريباً من نابلس، نحو جنين، كانت مستوطنة "حومش" وقدسيتها المفتعلة قد تبددت عام 2005 حين أمر شارون بإخلائها، وصدر بموجب ذلك قانون فك الارتباط، إضافة إلى عدد من مستوطنات غزة والضفة، ليعود المستوطنون عام 2009 إلى "حومش" المقامة على جبل القبيبات قرب قريتي برقة وسيلة الظهر لافتتاح مدرسة توراتية، وهي المدرسة التي تطلب استمرار وجودها إقامة عدة نقاط عسكرية بعد العملية التي نفذتها مجموعة من شباب "الجهاد الإسلامي" في جنين، والتي قتل وأصيب فيها 3 مستوطنين، أحدهم كان يعمل حارساً للمدرسة منذ افتتاحها.
عند إخلاء "حومش" عام 2005، حاول بعض الجنود التمرد، ورفعوا شعار "حومش" مثل "تل أبيب"، وهو ما يتكرر اليوم بعد صعود غلاة اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في الكيان العبري. وقد اعتبر نتنياهو أنَّ "حومش" أرض الأجداد، وأن مستوطنيها رواد الصهاينة، في وقت سبق لهؤلاء الروّاد أن تعاطوا منذ أشهر مع صفقة عرضها عليهم وزير الحرب غانتس لإخلائها في مقابل تثبيت مستوطنة "أفيتار" على جبل صبيح المجاور لنابلس أيضاً، وهو الجبل الذي يكافح أصحابه سلمياً منذ أعوام. وقد ارتقى منهم 10 شهداء في هذا الكفاح السلمي.
تناقضات القداسة التوراتية عند الزعامة السياسية والعسكرية في الكيان العبري تتغيّر وفق تطورات الميدان، فما هو مقدس اليوم، قد يصبح خطراً أمنياً في الغد القريب أو مصلحة قومية للكيان، وما يهدد حياة الإسرائيلي حرام وفق الشريعة اليهودية.
شارون الذي أخلى مستوطنة "ياميت" في سيناء عام 1982، بعدما كانت مرشّحة بعد "تل أبيب" وحيفا لأن تكون ثالث أكبر مدينة ساحلية، هو ذاته الذي حوّل مقام يوسف في السنة نفسها إلى مزار يهودي مقدس، وهو ذاته الذي أخلى "حومش"، فهل تدفع مراهقات نتنياهو وحلفائه بن غفير وسموتريتش في الضفة الغربية نحو ميدان كسر عظام، يجعل "عرين أسود" نابلس وكتيبتها المظفرة تُنسي المستوطنين قداسة العظام المزعومة في نابلس وما حولها من جبل صبيح حتى "حومش"؟
كانت نابلس منذ أن تشابهت مع دمشق جبلاً للنار، أو هي مقياس النبض الفلسطيني، بحسب ما استشف فتحي الشقاقي يوماً وهو يتنسم عبير جبليْها، لينفث عبر شموخهما براعم للوعي والثورة، أثمرت بارودة إبراهيم النابلسي التي أوصى هذا الجيل الفتيّ بأن يحفظ قدسيتها، فالمجد اليوم في نابلس للطلقة، إذ تتبدد عبر صداها كل القداسات المفتعلة، وكل الاتفاقيات الملفقة، من كامب ديفيد حتى أوسلو.