معجزة الـ 2022.. كوة في جدار المصالحة الفلسطينية؟
أكثر من عشر اتفاقيات للمصالحة الفلسطينية وُقعت خلال السنوات الماضية لم تجد طريقاً حقيقياً إلى التنفيذ العملي على أرض الواقع.
أربعة عشر عاماً مرّت على وقوع الانقسام الفلسطيني بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية بأغلبية ساحقة، وُقّعت خلالها أكثر من عشر اتفاقيات للمصالحة الفلسطينية في عدد من العواصم العربية لأجل طيّ صفحة الانقسام وتحقيق المصالحة الفلسطينية، لكن جميع هذه الاتفاقيات لم تجد طريقاً حقيقياً إلى التنفيذ العملي على أرض الواقع.
في تسلسل تاريخي سريع لكل الاتفاقيات التي وُقّعت على مدار السنوات التي مضت، كان اتفاق شباط/ فبراير 2007 الذي جرى برعاية سعودية فاتحة الاتفاقات، تلته لقاءات دمشق واليمن، ثم اتفاقي القاهرة عام 2009 وعام 2011، ثم اتفاق قطر في نيسان/ إبريل عام 2014، وصولاً إلى اتفاق الشاطئ في شباط/ فبراير 2016، ثم العودة مرة أخرى إلى الدوحة في عام 2017، ثم إعلان إسطنبول بتاريخ 24 أيلول/ سبتمبر2020 الذي أسّس لاجتماع الأمناء العامّين للفصائل الفلسطينية بين رام الله وبيروت في الثالث من أيلول/ سبتمبر في العام ذاته، ولم تصمد مخرجاته كثيراً بعد إعلان السلطة الفلسطينية عودتها إلى التنسيق الأمني مع "إسرائيل" بنحو مفاجئ، ما أدى إلى نسف الاتفاق مع حركة حماس وجمود العلاقة بين الحركتين.
في التاسع من فبراير/ شباط 2021 توصّلت حركتا حماس وفتح مجدداً، برعاية مصرية، إلى اتفاق مصالحة جديد يتضمّن آليات لإجراء الانتخابات كمدخل لتحقيق المصالحة، وصدرت مراسيم رئاسية حدّدت مواعيد إجرائها، إلا أن قطار المصالحة والانتخابات توقّف مرة أخرى بعد صدور مرسوم رئاسي مفاجئ بتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمّى، لأسباب أهمها وجود انقسامات كبيرة داخل حركة فتح، والتي اتضحت أكثر بعد تشكيل ثلاث قوائم انتخابية متصارعة تعكس حقيقة الانقسام العميق داخل الحركة، تمثلت في تكتل الرئيس محمود عباس، وتكتل القيادي الأسير مروان البرغوثي، وتكتل القيادي محمد دحلان، وهو ما أضعف موقف حركة فتح الداخلي أمام قائمة انتخابية موحدة وقوية لحركة حماس.
برّر الرئيس الفلسطيني محمود عباس إفشال مسار الانتخابات بذريعة عدم موافقة "إسرائيل" على إجرائها في مدينة القدس، فيما أصرّت حركة حماس على ضرورة إجرائها في موعدها وفي مدينة القدس، وجعل الانتخابات معركة هوية ومواجهة شعبية مع "إسرائيل" داخل باحات المسجد الأقصى ومدينة القدس نسفاً وتحدياً لقرارات إدارة ترامب تجاه مدينة القدس، وهو ما رفضته حركة فتح، الأمر الذي أعاد الأوضاع الداخلية الفلسطينية إلى النقطة الصفر مرة أخرى.
في 11 أيار/ مايو 2021 خاضت حركة حماس حرباً عسكريةً مع "إسرائيل" دفاعاً عن المسجد الأقصى، عُرفت باسم معركة "سيف القدس"، حاولت بعدها القاهرة استئناف الحوار الفلسطيني. ورغم حالة التفاؤل الكبيرة التي سادت الشارع الفلسطيني، سرعان ما اصطدمت بالحائط مجدداً، وتمثل ذلك في الإعلان عن مواقف جديدة لكلتا الحركتين تجاه ملف المصالحة، وهو ما أظهر حالة التباين في المواقف، وانعكس ذلك سلباً بفشل محادثات القاهرة قبل أن تبدأ.
رأت حركة حماس في نفسها أنها فرضت معادلات جديدة خلال معركة "سيف القدس"، وارتفعت أرصدتها، وأنها أصبحت فاعلاً سياساً أكثر حضوراً، دولياً وإقليمياً، وهو ما أعطاها رؤية ومنطلقاً مغايرين في التعاطي مع المرحلة الجديدة عبر أي دعوة إلى الحوار مع حركة فتح، انطلاقاً من أن الذي يتمتّع بشرعية عسكرية مؤثرة في المشهد الفلسطيني يجب أن يكون فاعلاً سياسياً مهماً في المعادلة السياسية الفلسطينية، وأن السلطة الفلسطينية لم تعد حكراً على حركة فتح، وأنه يجب البدء بالمصالحة الفلسطينية تنازلياً، بدءاً بمنظمة التحرير، مروراً بباقي الملفات، لا العكس.
تنازلياً أم تصاعدياً؟
قدمت حركة فتح رؤيتها على العكس تماماً، ورأت أن المصالحة الفلسطينية يجب أن تتم تصاعدياً، وطالبت بتشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية تلتزم بقرارات الشرعية الدولية أولاً، ثم بالحوار في باقي الملفات، وهو ما رفضته حركة حماس بشدة، واعتبرته محاولة من حركة فتح لجرّها إلى مربع التنازلات السياسية والاعتراف بشرعية "إسرائيل"، واعتبرت أن الصيغة التي تطالب بها حركة فتح تهدف إلى شرعنة إنتاج مسار سياسي تفاوضي مع "إسرائيل" ، كما وتعبّر عن انتقائية مطلقة في الملفات لا تنمّ عن مفهوم حقيقي للمصالحة والشراكة الوطنية، كما اعتبرت أن حركة فتح تريد حصد ثمار المرحلة على صعيدين:
-الأول/ البيئة الإقليمية الجديدة والتقرّب إلى الإدارة الأميركية برئاسة بايدن، في محاولة لتقديم نفسها على أنها تتمتع بشرعية تمثل كل الفلسطينيين عبر حكومة وحدة وطنية هدفها توفير غطاء سياسي للعودة إلى مسار المفاوضات مع "إسرائيل"، وهو ما رفضته حركة حماس بشكل مطلق.
- الثاني/ تقديم نفسها كممثل لكل الفلسطينيين أمام المجتمع الدولي والدول العربية الراعية والداعمة لمسيرة الإعمار، بهدف السيطرة على أموال الإعمار، فيما ترى حركة حماس ضرورة تشكيل هيئة وطنية عليا للإشراف على ملف الإعمار، بعد فشل حركة فتح في إدارة الملف ذاته إبّان عدوان عام 2014.
وأمام حالة الاختلاف في الرؤى والتباين في المواقف، فشلت جهود القاهرة في استئناف الحوار الفلسطيني، ومنذ ذلك الحين يعيش ملف المصالحة الفلسطينية حالة جمود كبيرة. وإزاء هذا السرد المتسلسل لتاريخ طويل من الاتفاقيات التي لم يُكتب لها النجاح، والتي بقيت جميعها حبراً على ورق، لم تستطع أن تطوي صفحة الانقسام الفلسطيني، وبعد تعثر مسار المصالحة الفلسطينية إثر معركة "سيف القدس" في حزيران/ يونيو عام 2021، يكون بذلك قطار المصالحة الفلسطينية قد دخل في نفق مظلم.
السؤال المهم الذي يطرح نفسه، مع نهاية العام 2021: كيف سيكون المشهد في عام 2022 تجاه ملف المصالحة الفلسطينية؟ وأي مسارات جديدة يمكن التعويل عليها في ملف يراوح مكانه منذ سنوات، بعد أن أصبح الانقسام الفلسطيني أشبه بحالة مستدامة يعيشها الفلسطينيون؟
بزغ ضوء جديد في نفق المصالحة المظلم مرة أخرى، بعد دخول الجزائر على الخط، إثر دعوة وجّهها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون للفصائل الفلسطينية لأجل تحقيق المصالحة قبيل انعقاد القمة العربية في آذار/ مارس من العام المقبل في الجزائر، والتي لاقت ترحيباً فلسطينياً، وربّ أسئلة تطرح نفسها تجاه قيمة هذه الدعوة ومدى فاعليتها في المشهد الفلسطيني، وهل ستجدّد الأمل للفلسطينيين نحو تحقيق المصالحة؟ أم أنها ستكون كسابقاتها من الدعوات والحوارات، وسيبقى ملف المصالحة يراوح مكانه؟ والسؤال الأهم، هل ستنجح الجزائر في ما فشلت فيه القاهرة وعواصم عربية أخرى، على مدار أربعة عشر عاماً مضت؟
لتشريح البيئة السياسية الفلسطينية بشكل عام وبيئة حركتي حماس وفتح على وجه الخصوص، إبّان الدعوة الجزائرية الجديدة، علينا أن نثبّت رؤية كل طرف من الأطراف ذات العلاقة والبناء عليها، في استقراء المشهد المقبل تجاه ملف المصالحة الفلسطينية، ومدى إمكان تحقيقها واقعاً عملياً، إذ إن الشعب الفلسطيني يتوق للحظة إنجاز مصالحة وطيّ صفحة الانقسام والخلاص من حالة التيه السياسي الفلسطيني الذي يعيشه.
رؤيتان متعارضتان
القاعدة التي سأنطلق منها هي أنه لا يختلف فلسطينيان مطلقاً على ضرورة تحقيق المصالحة الفلسطينية؛ فالحالة الفلسطينية تواجه انعداماً لأي أفق سياسي قريب، وانقسام غزة وحصارها مستمران، والاستيطان يبتلع الأرض الفلسطينية، و"إسرائيل" تواصل نهجها في تكريس عقلية السيطرة على الأرض والمقدسات، والسلطة الفلسطينية وحركة فتح تعيشان في مأزق حقيقي، بل تمرّان في أسوأ حالاتهما، لا على الصعيد الداخلي الفلسطيني فحسب، بل أيضاً على الصعيد الخارجي هناك انغلاق تام لأي مسار سياسي تراهنان عليه، والإدارة الأميركية أدارت ظهرها ولم تُبدِ أي إشارات تحمل في طيّاتها نية لإحياء مسار سياسي، ومنشغلة في ملفات ذات أولوية لها، كالملف النووي الإيراني وملفّي الصين وروسيا، وغيرها من الملفات. في المقابل "إسرائيل" تواصل مخططاتها التي تلتهم الأرض والمقدسات، وتكرّس مشروعها التوسعي الاستيطاني.
حركة حماس لا تزال تصرّ على مواقفها الثابتة ورؤيتها تجاه تحقيق المصالحة، وترى أهمية كبيرة في إعادة تشكيل القيادة الوطنية العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية، بحيث تضم جميع القوى والفصائل والشخصيات الوطنية، من خلال الانتخابات، أو يتم التوافق وطنياً على تشكيل قيادة وطنية مؤقتة لمدة محددة يتم الاتفاق عليها كمرحلة انتقالية، لتهيئة الأجواء للانتخابات السياسية العامة، والاتفاق على استراتيجية وطنية وبرنامج سياسي وطني يتوافق عليه الجميع.
حركة حماس حدّدت خيارين اعتبرتهما مدخلاً لتحقيق المصالحة، يتمثلان في البدء من حيث انتهت جولة الحوارات الأخيرة في القاهرة، واستكمال المشوار في الانتخابات المتفق عليها في مراحلها الثلاث، التشريعية والمجلس الوطني والرئاسة، ورأت أن تكون هذه الانتخابات في القدس أولاً على قاعدة أن تكون معركة إرادة وطنية وموحدة لتثبيت حق الفلسطينيين في القدس، وأهمية بناء المؤسسات الوطنية الفلسطينية على أساس الإرادة الشعبية الوطنية الحرة، وعلى قاعدة الشراكة والوحدة الوطنية، من دون إقصاء أو استحواذ.
رهانات حركة فتح وأولوياتها خلال المرحلة المقبلة تنصبّ باتجاه خيارات قديمة جديدة متمثلة في أملها بالعودة إلى مسار المفاوضات، إذ بعثت بورقة إلى إدارة بايدن مؤخراً تضمنت مقترحات اقتصادية اعتبرتها أرضية ومقدمة لإحياء المسار السياسي مجدداً، فضلاً عن خطاب الرئيس محمود عباس الأخير في الأمم المتحدة الذي عكس بشكل واضح أنه ما زال ملتزماً استراتيجياً بعملية السلام، وهذا معناه أنه ما زال يراهن على مسار المفاوضات والمفاوضات فقط، من دون امتلاك أي أوراق قوة، وبالتالي فإن ورقة المصالحة التي كانت تحتل أولوية كبيرة في أجندة حركة فتح في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لم تعد كذلك في عهد إدارة بايدن.
السقف الأميركي تجاه الملف الفلسطيني لن يتعدّى إدارة الصراع، ولن يقفز إلى إيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي في ظل حكومة إسرائيلية غير متجانسة وهشّة، وغير قادرة على اتخاذ أي قرارات سياسية مصيرية سوى الاستمرار في الاستيطان وسرقة الأراضي وتهويد المقدسات والاعتداءات على الأسرى، وبالتالي ليس من المنطق أن ترهن حركة فتح تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية بمسار مفاوضات لم يعد له أي أفق واضح، وتعلّق آمال الشعب الفلسطيني على أوهام جديدة، على أمل أن تكشف الإدارة الأميركية عن نيّاتها تجاه الملف الفلسطيني، وربما لا يتحقق ذلك مطلقاً أو سيقتصر على حلول اقتصادية فقط، على قاعدة الأمن مقابل الاقتصاد (السلام الاقتصادي).
المسارات السياسية الممكنة
علينا أن نثبت جملة من المفاهيم والمرتكزات المهمة في سياق المسارات السياسية الممكنة للفلسطينيين، سنعرف حينها إلى أين سيمضي مسار المصالحة الفلسطينية خلال العام 2022:
- الانقسام الحاصل بين حركتي فتح وحماس ليس وليد لحظة فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية، بل هو تعبير عن وجود برنامجين على الساحة الفلسطينية، برنامج يحمل مشروع المقاومة سبيلاً لتحرير فلسطين، وآخر ينتهج التسوية والمفاوضات سبيلاً أوحد، وأن ما جرى عام 2007 يمثّل اتساع فجوة الخلاف بين البرنامجين.
- من حيث الواقع والضرورة، هناك ضرورة لأن تذهب حركتا حماس وفتح وكل الفصائل نحو خيار تحقيق المصالحة الفلسطينية، فليس أمامهما سواه لمواجهة كل التحديات التي تعصف بالقضية الفلسطينية ومواجهة حكومة الائتلاف الإسرائيلي، صاحبة المواقف الواضحة تجاه الفلسطينيين.
- تحقيق المصالحة الفلسطينية والوحدة الوطنية ليس بالمعجزة، فستتحققان حال توافرت الإرادة والايمان بالشراكة السياسية، وهناك تجارب سابقة وحّدت الشعب الفلسطيني بشكل حقيقي منها وثيقة الأسرى أو ما يُعرف بوثيقة الوفاق الوطني التي شكّلت ولا تزال منطلقاً للوحدة الوطنية وقاعدة قواسم مشتركة يمكن أن يجتمع عليها الكل الفلسطيني.
- عقلية حركة فتح لا تسمح بتسليم السلطة حال خسرت أي انتخابات ستُجرى، وبإعادة شرعنة قيادة حماس مرة أخرى أو السماح لها بدخول منظمة التحرير الفلسطينية للمزاحمة على التمثيل الدولي للشعب الفلسطيني، فهذا ما لا ترضاه "إسرائيل" من جهة، ولا حتى البيئات العربية والدولية الحالية التي صنّفت حركة حماس مؤخراً منظمة إرهابية.
- حركة فتح لا تزال مستمرة في الرهان على إعادة إحياء مسار المفاوضات كخيار أول لها بديل من خيار المصالحة الفلسطينية، وهذا يشكل استمراراً للعبث بالشأن الفلسطيني، واستمرار التعويل على الحلول السياسية مع "إسرائيل" لن يعيد أيّاً من الحقوق للفلسطينيين، ولن يوقف الاستيطان أو التغوّل على الأسرى والمقدسات، وإن تحقيق المصالحة يتوقف الآن على طبيعة موقف السلطة من المفاوضات، فإن كانت رافضة للطروحات التي يجري الحديث عنها فستكون المصالحة أقرب وفرصها أقوى، والعكس صحيح.
- استمرار حركة فتح وأجهزتها الأمنية في السير في نهج التنسيق الأمني مع "إسرائيل" ومحاربة المقاومة وملاحقتها في محافظات الضفة الغربية وسَّعت الفجوة أكثر ورسّخت ركائز الانقسام، وتعزّز بذلك انعدام رغبة حركة فتح في التجاوب بشكل حقيقي مع أي حراك يمكن أن يحقق المصالحة الفلسطينية على أسس وطنية، ويطوي صفحة الانقسام إلى الأبد.
- استناداً إلى كل ما سبق، وأمام قراءة البيئة السياسية الفلسطينية، فإن كل المعطيات تشير إلى أن مساعي تحقيق المصالحة الفلسطينية ستكون بعيدة المنال، وتكاد تكون معدومة في المنظور القريب، وإن فرص نجاح دعوة الجزائر المرتقبة في تحقيق المصالحة ضعيفة جداً، ولن تتعدى أكثر من احتفالية بروتوكولية في حال تمت، فما فشلت فيه القاهرة لن تستطيع الجزائر تحقيقه، وإن إنجاز المصالحة الفلسطينية مرهون بشكل أساسي بتغيير حركة فتح أولوياتها ومواقفها، وإن تركيز السلطة الفلسطينية وحركة فتح خلال المرحلة المقبلة سينصبّ على الطروحات الاقتصادية التي تعزّز دورهما ومكانتهما وتحافظ على كيانهما ووظيفتهما، أملاً في فتح مسار سياسي تفاوضي مع "إسرائيل"، بعيداً عن الالتفات إلى ملف المصالحة الفلسطينية.