مشاريع للانتخابات اللبنانية.. نزع قناع الإصلاح واستهداف شرعية المقاومة
في الوقت الذي حرص حزب الله وحلفاؤه على التركيز على المواضيع الحياتية والاقتصادية في الحملات الانتخابية، أصرَّ الطرف الآخر على تحويل المعركة إلى استفتاء على السلاح.
تكمن أهمية الانتخابات النيابية الحالية في توقيتها، إذ إنها تحصل في ظل أزمة اقتصادية ومالية حادة يتعرّض لها الشعب اللبناني، مع الإشارة إلى غياب أي أفق لحل واقعي يتخطى حدود البروباغندا الإعلامية التي يواظب عليها جزء كبير من الأطياف السياسية اللبنانية.
وفي غياب الاستقرار المعيشي والاجتماعي، يمكن القول إن الفرصة كانت سانحة لتكريس مشروع تغييري ينسف أطر النظام الطائفي الذي استقر على ركيزتين؛ أولهما محاصصة لا تراعي أسس الدولة الحديثة التي يُنظّر لها علم الاجتماع السياسي، تحت عنوان دولة القانون والمؤسسات، وثانيهما ديمقراطية توافقية تشكل أداة لعرقلة أي إصلاح، تحت حجة خصوصيات الطوائف.
استبشر بعض اللبنانيين خيراً بحراك 17 تشرين الأول الشهير، إذ اعتبروا أنه سيهدم أسس الدولة الفاشلة، عبر تقدير يفترض حتمية رفضه خصوصيات الطوائف، وتركيزه على إصلاح مفاصل الدولة اللبنانية وتركيبة النظام فيها، غير أن مزاج أكثر المجموعات المنتشرة على الأرض سرعان ما تغير، إذ نجحت بعض الأحزاب السياسية، إضافة إلى مجموعات المجتمع المدني والجمعيات غير الحكومية، المجهولة سبل تمويلها، في ربط مشروع بعض ما يسمى بالثوار بأجندات سياسية تعبر عن الانقسام السياسي الذي فرض نفسه على الساحة السياسية اللبنانية منذ العام 2005.
وبدلاً من أن يكون الجهد "الثوري" موجهاً نحو تكريس أسس لبناء دولة حديثة والدفع باتجاه محاربة الفساد عبر مشروع إصلاحي عصري يحقق ما يرجوه المواطن والمجتمع من دولته، تحول خطابهم اليومي وتطبيقاته على الأرض، عبر إغلاق الطرقات العامة والتجمعات الشعبية المحدودة العدد في أكثرها، إلى أداة لمهاجمة خط سياسي لبناني شكل طرفاً نقيضاً لما يسمى ثورة الأرز ومشروعها المتجلي بنزع سلاح المقاومة، وتحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في السنوات الثلاث الأخيرة من انهيار اقتصادي ومالي خطر.
وفي خلال أكثر من سنتين، تم التخطيط، عبر جهات داخلية وخارجية، لتطبيق خطة تربط أجندات هذه المجموعات التي من المفترض أنها تطالب بالإصلاح وبناء دولة حديثة بالخط السياسي للقوى المعروفة بقوى 14 آذار أو ثورة الأرز.
وبناءً عليه، إذا كان المسار السياسي الذي شهده لبنان يفترض وجود اتجاه سياسي إصلاحي يناهض قوى 8 و14 آذار، فإن واقع الخارطة الانتخابية بيّن نوعاً من التماهي بين أكثر قوى الحراك وبعض أطياف ما يسمى بثورة الأرز، إذ أمكن لمسه في العديد من الدوائر الانتخابية.
أما على مستوى التنظيم والتوجيه، فقد ظهر واضحاً اهتمام الجمعيات غير الحكومية بمسار الحراك، وعملهم على ضمان علاقة عضوية مع جزء كبير منهم، عبر تمويل نشاطهم وتأمين متطلباتهم، إضافةً إلى تنظيم إطلالاتهم الإعلامية، بحيث ظهر جلياً انقسام الحراك إلى مجموعات، يتميز بعضها عن البعض الآخر بالإمكانيات والقدرات التي أدت فيما بعد دوراً فاعلاً عند انطلاق السباق الانتخابي. وفي هذا الإطار، عملت أكثر مجموعات الحراك، بتوجيه من هذه الجمعيات، على تعميم فكرة تقبل الأغلبية الساحقة من اللبنانيين سلوكهم وتوصيفاتهم وأجنداتهم.
وبالعودة إلى أجندات مجموعات الحراك المنسقة عبر الجمعيات غير الحكومية، يفترض الإشارة إلى تأثير الدول والجهات الممولة لهذه الجمعيات، حتى نتمكن من استيعاب مسارها على المسرح السياسي اللبناني، فالواضح أن الولايات المتحدة الأميركية تؤدي دوراً أساسياً في هذا المجال، إذ لم يخفِ وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، إضافةً إلى ديفيد هيل وديفيد شينكر وجفري فلتمان، تمويل الإدارة الأميركية لهذه المنظمات.
أما السفيرة الأميركية الحالية دوروثي شيا، فتفاخرها الدائم بإنجازات "USAID" ومشروع "BALADI CAP" المعني بتمويل أكثر من 50 منظمة من المجتمع المدني، إضافة إلى علاقاتها العميقة مع حزب القوات اللبنانية، يظهر أسس مشروعها السياسي.
لقد كان لافتاً عبر أكثر من سنتين من عمر الحراك، أنّ سقف الخطاب السياسي الداعي إلى محاربة الفساد وإسقاط ما اعتبروه سلطة فاسدة، لم يكن متناسباً في حدته مع الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تفتك بلبنان.
وعلى الرغم من عدم تجاوب الدولة العميقة بأطرافها المالية والطائفية مع مطالبه، لم يشهد الشارع اللبناني تصعيداً يوازي تفاقم الأزمة، إذ بدأ يظهر تحول ما يمكن اعتباره حراكاً شعبياً إلى نوع من حراك الصالونات المعنية ببعض العناوين التي تمثل صلب أجندة ما يُسمى بثورة الأرز.
في تفصيل مرتكزات برامج المرشحين "الثوار"، المرتبطين بالجمعيات غير الحكومية، للانتخابات النيابية، والذين يشكل أبناء النواب السابقين والحاليين جزءاً كبيراً منهم، نلمس إهمالاً للشؤون المعيشية والسيادية، إذ تغيب أي خطة إصلاحية أو مالية أو حتى دستورية عن خطاباتهم، ويمتنعون عن التعليق على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة في البر والبحر والجو، بل يسعون إلى تظهيرها كرد فعل طبيعي على وجود سلاح المقاومة، الموصوف لديهم بغير الشرعي، في حين نشهد تكراراً لخطابات طغت على الساحة الإعلامية في الجولات السابقة منذ العام 2005.
إنَّ مصطلحات التحرر من الاحتلال الإيراني، وسلطة السلاح غير الشرعي، وتحرير البلد من سطوة حزب الله، تشكل مجتمعةً صلب مواقف هؤلاء. وإذا أضفنا إلى ذلك الحركة النشطة للسفراء، وخصوصاً السفير السعودي الذي حرص على تزكية اللوائح المناهضة للمقاومة، وإلغاء مفاعيل دعوة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري إلى المقاطعة، إضافةً إلى محاولاته الحثيثة لتحويل العملية الانتخابية إلى نوع من التعبير عن رفض مشروع المقاومة، يمكن بسهولة إثبات الهوية الحقيقية لهذا الخيار وارتباطاته الخارجية.
وإذا كان هذا التحليل قد استهدف "ثوار" الجمعيات غير الحكومية والأحزاب المناوئة للمقاومة ومشروعها، فإنّ جزءاً منه يمكن تحييده عن هذا التصنيف، إذ إنه حافظ على الثوابت الوطنية والسيادة والمقاومة، غير أن تمسك هؤلاء بهذه الثوابت ساهم في إقصائهم، وحرّم عليهم التمتع بالإمكانيات اللامحدودة لتلك الجمعيات، بل كانوا في كثير من الأحيان متهمين بالتواطؤ مع الطرف الآخر.
لقد ساهمت الأزمة الاقتصادية والمالية في إفقار الشعب اللبناني، وتدمير السبل والإمكانيات التي تضمن له حياة كريمة. وإذا كان من المفترض أن يكون لهذه الانتخابات عنوان، فسيكون الإصلاح والنهوض مناسباً.
وفي الوقت الذي حرص حزب الله وحلفاؤه على التركيز على المواضيع الحياتية والاقتصادية، انطلاقاً من الكابيتال كونترول والتحقيق الجنائي، وصولاً إلى التنقيب عن النفط بقوة المقاومة وإمكاناتها الردعية، أصرَّ الطرف الآخر على تحويل المعركة إلى استفتاء على السلاح، بما قد يؤدي في حال نجاحه بالأكثرية النيابية إلى سحب الشرعية عن المقاومة أو حتى تدويل القضية، كما حصل يوم اغتيال الشهيد رفيق الحريري.
في الختام، لم ينتبه "ثوار" الجمعيات غير الحكومية إلى الحساسية والريبة التي تحيط بأي مشروع معادٍ للمقاومة في بيئتها، إذ يمكن بسهولة أن يحث الكتلة المترددة على التصويت للوائح المقاومة، حتى لا تجد نفسها في 16 أيار/مايو مساهمة في مشروع لا يناسب توجهاتها العقائدية.
وبعيداً من توازن القوى الذي ستكرسه الانتخابات النيابية، يمكن القول إنَّ المعركة الانتخابية لثوار الجمعيات غير الحكومية أهملت الإصلاح السياسي والمالي، وجعلت شرعية سلاح المقاومة همّها الأساسي، بما يؤكد جوهرهم كأداة يستخدمها الداخل والخارج في مشروعه المناهض للمقاومة، بحيث يمكن المساومة عليهم إذا اقتضت الحاجة.