محدودية الدبلوماسية الدينية: "اتفاقيات أبراهام"

لطالما كانت الدبلوماسية الدينية من أبرز الوسائل التي طورها الأميركيون لحلّ النزاعات ذات البعد الديني أو لاستخدام الدين في العمل الدبلوماسي والسياسي الخارجي.

  • محدودية الدبلوماسية الدينية:
    محدودية الدبلوماسية الدينية: "اتفاقيات أبراهام"

منذ منتصف القرن الماضي وبعده، ومع التطور التقني والتكنولوجي والانفتاح العالمي، بدأت الدبلوماسية تشهد توسعاً في الآفاق والسبل، وتجنح نحو تعددية المسارات، فبات العالم يعرف "الدبلوماسية المتعددة المسارات".

كان الأميركيون السباقون إلى تطوير ما يسمّى الدبلوماسية الموازية أو الدبلوماسية المتعددة المسارات، أي استخدام أدوات اقتصادية أو ثقافية أو رياضية كأدوات دبلوماسية تسمح لهم بتطوير وسائل الإقناع التي يستخدمونها في العلاقات الدولية، ولتحقيق مصالح الولايات المتحدة الأميركية. ويمكن تعريف الدبلوماسية المتعددة المسارات أنها اعتماد آليات غير حكومية وغير رسمية تستخدم في العمل الدبلوماسي وتشكّل آليات موازية للدبلوماسية الرسمية.

- الدبلوماسية الدينية:

وبعد دخول الدين إلى قاموس العلاقات الدولية بقوة مباشرة بعد أحداث 11 أيلول / سبتمبر من عام 2001، وباتت المفردات الدينية جزءاً من خطابات الحرب على الإرهاب التي أطلقتها الولايات المتحدة الأميركية، تطورت فكرة دولية موازية مفادها كيف يمكن استخدام الدين للسعي نحو السلام العالمي بدلاً من اعتباره محرضاً على العنف والحرب والاقتتال.

وكانت "الدبلوماسية الدينية religious" أو "الدبلوماسية الروحية spiritual " من أبرز الوسائل التي طورها الأميركيون لحلّ النزاعات ذات البعد الديني أو لاستخدام الدين في العمل الدبلوماسي والسياسي الخارجي، وذلك عبر تأسيس "المركز الدولي للدين والدبلوماسية" عام 1999 خلال عهد كلينتون. وتزامناً مع بدء الحرب على الإرهاب، أنشأت إدارة جورج بوش الابن مركز "مبادرات الإيمان والفرص" وألحقته بالوكالة الأميركية للتنمية USAID عام 2002، ثم تطورت تلك الآليات وتوسعت فيما بعد.

- اتفاقيات التطبيع بين العرب و"إسرائيل":

ناقش عدد من المفكرين ومراكز التفكير الأميركية أهمية إشراك المجتمعات والقوى الدينية والروحية في عمليات السلام، أو في تحقيق مصالح الولايات المتحدة الأميركية في الخارج، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت دعوات لرؤساء الطوائف الروحية الإسلامية والمسيحية إلى مؤتمرات حول التغيير في سوريا (خلال السنوات الأولى للحرب)، ويتم استخدام حقوق الأقليات الإيغور الصينية للتركيز على حقوق الإنسان في الصين وسواها.

ولا تشذّ اتفاقيات التطبيع التي وقعتها "إسرائيل" مع الدول العربية عن هذا الإطار، فسمّيت "اتفاقات أبراهام" وذلك بهدف استخدام الدين في عملية السلام في الشرق الأوسط، وتماشياً مع رؤية إدارة ترامب للقضية الفلسطينية، إذ يتم تحويلها إلى قضية "اقتصادية – دينية" (صفقة القرن- اتفاقيات التطبيع)، وحرفها عن أن تكون قضية احتلال لأرض وتهجير لشعب.

أعتقد الإسرائيليون أن اتفاقيات التطبيع الموقّعة مع بعض الدول العربية سوف تكون مدخلاً لطمس القضية الفلسطينية في وجدان الشعوب العربية، لكن كشف حساب السنوات التي تلت توقيع تلك الاتفاقيات، يشي بأن الأمر أبعد وأعقد مما كان يعوّل عليه الإسرائيليون والأميركيون، ونورد بعض الأمثلة:

- بحسب وكالة الأسوشيتد برس، فإن أرقام وزارة السياحة الإسرائيلية غير مشجعة، فعلى مدى عامين منذ توقيع الاتفاقيات مع الإمارات والبحرين لم يكن تدفق السياح الخليجيين كما يتمناه الإسرائيليون، وأوردت الوكالة أنه "على الرغم من تدفق أكثر من نصف مليون إسرائيلي إلى أبو ظبي الغنية بالنفط ودبي المرصعة بناطحات السحاب، فقط 1600 مواطن إماراتي زاروا إسرائيل منذ أن رفعت القيود المفروضة على السفر بسبب فيروس كورونا العام الماضي"، بينما لا تعرف الوزارة عدد البحرينيين الذين زاروا "إسرائيل"؛ "الأعداد قليلة للغاية".

- وفقاً لاستطلاع أجراه معهد واشنطن للشرق الأدنى، انخفضت نسبة تأييد "اتفاقيات أبراهام" في الدول العربية: في الإمارات العربية المتحدة، انخفضت نسبة التأييد من 47% إلى 25٪ في العامين الماضيين. وفي البحرين، انخفضت النسبة المؤيدة من 45% إلى 20٪ فقط من السكان.

- عقدت كل من مصر والأردن اتفاقيات سلام مع "إسرائيل" في وقت سابق، وبالرغم من مرور عقود على تلك الاتفاقيات فإن التطبيع الحقيقي بين الشعوب لم يحصل. 

- كان مونديال قطر المكان الأكثر تعبيراً عن حقيقة الشعور العربي تجاه قضية فلسطين، فلقد عبّر العرب بغالبية شعوبهم وانتماءاتهم أمام الهواء مباشرة وعلى مرأى العالم ومسمعه، عن أن قضية فلسطين ما زالت حيّة في وجدانهم وهي جزء من هويتهم القومية والوطنية، وأنه لا يمكن لأي اتفاقيات أن تبدد أو تلغي هذه الهوية.

في النتيجة، لقد استطاعت الدبلوماسية الموازية الأميركية أو ما يسمّى الدبلوماسية الدينية أن تدفع إلى توقيع اتفاقيات التطبيع بين حكومة نتنياهو وعدد من الدول العربية، وهو نجاح مشهود لتلك الدبلوماسية، لكن فعاليتها على الأرض في السنوات المنصرمة لم تأتِ بحسب التوقعات الإسرائيلية والأميركية. واليوم، كيف يمكن "تفعيل" هذه الاتفاقيات و"تطويرها" كما يعد عدد من المسؤولين الإسرائيليين مع وصول حكومة جديدة تعدّ الأكثر قومية والأكثر تطرفاً في تاريخ "إسرائيل"، يهلل المتطرفون فيها باقتحام المسجد الأقصى، وتتعهد بتوسيع المستوطنات وقضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، وتستمر باقتلاع الفلسطينيين من القدس؟.