مجزرة الفجر وملهاة المفاوضات.. الأهداف الكامنة وراء هذه الجولة؟
هل الإدارة الأميركية جادة بوقف الحرب المسعورة في قطاع غزة، أم أنها تتلاعب بالأوراق لتوظيف المشهد لمصلحتها وحليفتها "إسرائيل"؟
مجزرة مدرسة "التابعين" التي أدت إلى استشهاد أكثر من مئة نازح فلسطيني أثناء صلاة الفجر داخل مدرسة في حي الدرج بمدينة غزة، هي استمرار للإبادة الجماعية والتطهير العرقي اللذين ترتكبهما "إسرائيل" منذ عشرة أشهر متواصلة في قطاع غزة على مرأى العالم أجمع ومسمعه، في ظل صمت مطبق على بشاعة الجريمة وفظاعة المشاهد المروّعة التي تناقلتها وسائل الإعلام المختلفة.
نهج المجازر الذي تقوم به "إسرائيل" بحق الفلسطينيين ليس بالنهج الجديد، فهي كيان قام على القتل وسفك الدماء منذ العام 1948 وحتى يومنا هذا، في وقت روّج بعض العرب المطبّعين، عرّابي مشاريع التسوية والسلام، أن النكبة التي حلّت بالفلسطينيين قبل أكثر من خمسة وسبعين عاماً كانت ذكرى عابرة لن تتكرر، بيد أن السلوك الإسرائيلي يثبت عكس ذلك، ويؤكد في كل مرة أن "إسرائيل" تتخذ من المجازر نهجاً مستمراً، وبوحشية مفرطة تعبّر عن العقلية الإسرائيلية الحقيقية تجاه الفلسطينيين خاصة، والعرب كافة.
البيان الثلاثي الأخير الذي صدر عن ثلاث دول هي الولايات المتحدة الأميركية ومصر وقطر بشأن استئناف مفاوضات صفقة تبادل الأسرى منتصف الشهر الجاري، يفسر أنه جاء بضغط أميركي مقصود يسبق مؤتمر الحزب الديمقراطي الأميركي المزمع عقده في شيكاغو، على وسطاء يعرفون نية نتنياهو أكثر من غيرهم، ومثل هذا البيان ما هو إلا غطاء جديد يسمح لنتنياهو شراء مزيد من الوقت لاستكمال مخططه في قتل الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه.
ثمة سؤال يطرح نفسه، هل الإدارة الأميركية جادة بوقف الحرب المسعورة في قطاع غزة، أم أنها تتلاعب بالأوراق لتوظيف المشهد لمصلحتها وحليفتها "إسرائيل"؟
الإدارة الأميركية في الجانب الآخر من الصورة، من حيث التوقيت والأهداف، تريد تحريك ملف الصفقة من جديد استناداً إلى حساباتها الخاصة؛ تخوفاً من اندلاع حرب إقليمية شاملة مع إيران وحزب الله قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة وعودة الدراسة في الجامعات والمعاهد الأميركية التي كانت قد أطلقت شرارة انتفاضة طلابية مؤخراً في وجه الإدارة الأميركية؛ رفضاً للإبادة الجماعية التي تقوم بها "إسرائيل" في غزة، وهو ما يعبّر عن مخاوف حقيقية من التأثير المباشر في نتائج هذه الانتخابات.
كما تهدف إلى تبريد ساحات المواجهة التي اشتعلت كثيراً بعد التهديدات التي أطلقتها طهران وحزب الله للرد على جريمتي اغتيال القائدين إسماعيل هنية وفؤاد شكر قبل أكثر من أسبوع.
لا يصدق عاقل أن هناك رغبة أميركية جادة لوقف شلال الدم ومجازر الإبادة الجماعية، فهي التي فتحت جسراً برياً منذ السابع من أكتوبر ولا تزال؛ لإمداد "إسرائيل" بكل أنواع السلاح وأشكاله لقتل الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء في غزة، وكان آخر هذا الدعم الذي منحته لـ"إسرائيل" بقيمة 2.3 مليار دولار كدعم عسكري مباشر لمواجهة أي توسع محتمل للحرب في المنطقة، وهذا يكشف حقيقة أميركا وشراكتها في قتل الشعب الفلسطيني، ويؤكد أن ما قامت وتقوم به "إسرائيل" في غزة هو حرب أميركية بالوكالة هدفها قتل الشعب الفلسطيني وذبحه من الوريد إلى الوريد بسلاح واحد، وأن الحديث عن جولة مفاوضات جديدة ما هو إلا ملهاة جديدة باستمرار القتل، أما "إسرائيل" فلديها كل الوقت والمال والسلاح والغطاء والضوء الأخضر لمزيد من الجرائم والقتل لإرضاء سفاحي الصهيونية الدينية المتعطشين لقتل الفلسطيني.
سلوك "إسرائيل" يشي بكل وضوح أن كل أشكال القتل والإبادة والتطهير تنمّ عن غريزة إسرائيلية في العقل الإسرائيلي الذي يجنح يوماً تلو الآخر إلى التطرف أكثر، وبذلك تهدف "إسرائيل" لأن تكون مفاوضات هذه الجولة لإخضاع المقاومة الفلسطينية، وهذا واضح من خلال رفع فاتورة قتل المدنيين لإجبارها على الاستسلام وفرض الشروط التي تنسجم مع توجهاتها الأمنية ومحاولة استعادة شيء من صورة الردع المفقود.
ما يعطي "إسرائيل" شرعية الولوغ في الدم الفلسطيني أكثر وارتكاب المجازر ويجعلها ترفض وقف جرائمها ويشجعها على التمادي أكثر هو الموقف العربي المتخاذل الذي لم يقدم سوى الإدانات والشجب والاستنكار، وبات مكبّلاً في اتخاذ القرارات الجريئة والصحيحة لوقف آلة القتل الإسرائيلي المستمرة، وحري أن نستحضر على الجانب الآخر من الصورة موقف إيران وحزب الله وقوى محور المقاومة في دعمها للقضية الفلسطينية وإسنادها قطاع غزة في معركة "طوفان الأقصى"، وقد دفعت أثماناً في اغتيال كوادرها وقياداتها ضريبة لهذا الموقف، في ظل انغماس دول خليجية بعينها في مشروع التطبيع وتنتظر ترتيبات اليوم التالي للحرب إرضاءً لأميركا.
ورغم غياب الموقف العربي الجامع الذي من المفترض أنه لو كان حاضراً لأوقف هذه الحرب الوحشية في وقت قياسي، فإن الحقيقة الراسخة في قاموس مقاومة الشعب الفلسطيني أن هذا الشعب ومن خلفه مقاومة متجذرة لم يسجل يوماً من الأيام أنه وقع أو استسلم أو رفع الراية البيضاء.
تاريخياً، وكقاعدة عامة، لم يسجل في التاريخ أن قوة احتلال انتصرت بإمعانها في قتل المدنيين ورفع فاتورة القتل لتركيع أي شعب يرزح تحت الاحتلال، بل وبصورة أوضح وأدق، فإن "إسرائيل" كقوة احتلال لن تكون مستثناة من هذه القاعدة حتى لو كانت المجازر أكثر ترويعاً مما كانت عليه في مجزرة "التابعين" بمدينة غزة، والحقيقة الراسخة في مثل هذا المشهد أن كل مجزرة ترتكبها "إسرائيل" تقربها من الهزيمة أكثر وهي ترسخ بذلك صورة كيان خارج عن القانون لا أخلاق له، قادته مجرمو حرب، كيان يعيش عزلة دولية غير مسبوقة في تاريخه، وحالة من القلق والتوتر والرعب والشلل التام منذ اغتيال القائدين هنية وشكر؛ خوفاً من التهديدات بالانتقام في وقت باتت كل الشواهد تؤكد أن رد محور المقاومة قادم لا محالة، وأن ما يسمى بجولة مفاوضات ما هو إلا حبل إنقاذ لنتنياهو وملهاة جديدة تريد من ورائها الإدارة الأميركية حمايته من الانتقام المرتقب.