ماذا وراء محاولة التغلغل الصهيوني في دول الاتحاد المغاربي؟

تتشكَّل البنية العرقية لدول الاتحاد المغاربي من نسيجين رئيسيين هما الأمازيغ - الذين يناضلون منذ سنوات للحصول على حقوقهم والاعتراف بوجودهم كشعب أصيل - والعرب.

  • المنطقة المغاربية، بحكم موقعها الاستراتيجي، تعد بوابة عبور إلى غرب القارة الأفريقية
    المنطقة المغاربية، بحكم موقعها الاستراتيجي، تعد بوابة عبور إلى غرب القارة الأفريقية

في 14 شباط/فبراير 1982، وفي ذروة انشغال العالم ومنطقة الشرق الأوسط بالحرب العراقية الإيرانية، نشرت مجلة "كيفونيم" التي تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية في القدس المحتلة، وثيقةً بعنوان "مخططات إسرائيل الاستراتيجية خلال الثمانينيات"، تتضمّن تصوراتٍ لما سيكون عليه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال السنوات التالية، وخصَّت بالذكر العراق والسودان ولبنان وسوريا وليبيا ومصر. 

عندما اندلعت أحداث ما سُمي بـ"الربيع العربي"، أدرك الجميع، باستثناء البعض، أنَّ ما يحصل هو تطبيقٌ فعليٌّ لتلك التصورات الرهيبة المنشورة منذ سنين في هذه المجلة، وأن العالم الإسلامي والعربي مقبلٌ على عدة هزاتٍ عنيفةٍ تهدد وجوده وكيانه، خدمةً لـ"إسرائيل الكبرى" أو مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي بشرت به وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في عهد إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، غير أنَّ المثير في المخطط المذكور هو ما تضمَّنته هذه الفقرة: "بمجرد تفكيك مصر وحرمانها من السلطة المركزية، ستعرف دول، مثل ليبيا والسودان، ودول أخرى أكثر بعداً، المصير نفسه"، فماذا يقصد بالدول الأكثر بعداً؟ 

ربما انتبه بعض المهتمّين فقط إلى أن هذه العبارة تحيلنا إلى الدول المغاربية، لأنَّها أقرب إلى تطبيق هذا المخطّط عليها، ومردّ عدم انتباه البعض الآخر هو أن الدول المغاربية ليست على خطّ المواجهة مع الكيان الإسرائيلي، بسبب البعد الجغرافي، لكنها كانت جزءاً من الصراع، بدعمها دول المواجهة في جميع حروبها مع الكيان الصهيوني. 

ولأنَّ "إسرائيل" كيانٌ وظيفيٌّ، فقد أُوجِدَت لخدمة الأجنداتِ الإمبريالية الراميةِ إلى تقطيع أوصال العالم الإسلامي والعربي وحرمانه من أي نزعة وحدويٍة ونهضويٍة. لذا، تحاول التمدد نحو الدول المغاربية في محاولة للتطبيع معها، ومن ثم التغلغل في مجتمعاتها بواسطة اليهود المغاربيين الذين عاشوا ردحاً من الزمن هناك، ويعرفون أدقّ تفاصيل حياة شعوب المنطقة ونمطها وثقافتها، بحكم الاحتكاك والتعايش مع المسلمين المغاربيين. لذا، يرى الكيان الصهيوني في التطبيع مع الدول المغاربية فرصة قد تمكّنه من تحقيق عدة أهداف على المدى البعيد، فكيف ذلك؟

تتشكَّل البنية العرقية لدول الاتحاد المغاربي من نسيجين رئيسيين هما الأمازيغ - الذين يناضلون منذ سنوات للحصول على حقوقهم والاعتراف بوجودهم كشعب أصيل - والعرب. وإذا كان العرب والأمازيغ عاشوا جنباً إلى جنب لقرون عديدةٍ تحت راية الوطن والدين الإسلامي، فـ"إسرائيل" لن تتردّد في اللعب على وتر العرقية، كما فعلت في العديد من الدول العربية والإسلامية، ولا يُستبعد أن تدعم بعض الجمعيات الثقافية التي تنشط هنا وهناك، لدق إسفين التفرقة وإشعال بذور الفتنة، للدفع نحو الاقتتال بين أبناء الشعب الواحد، لأنها تجيد مثل هذه الألاعيب. والأكثر دلالة على ذلك هو التصريحات التي أطلقها رئيس الموساد السابق عاموس يادلين، حين قال إنَّه "أرسى شبكةً من العملاء في تونس والجزائر والمغرب، جاهزة للتأثير والتخريب في أية لحظةٍ".

ولا يُستبعد أيضاً أن تستعمل "إسرائيل" هذه الورقة مستقبلاً لابتزاز هذه الدول مالياً، وخصوصاً بعد تصاعد الأصوات فيها بتعويض اليهود العرب الذين هاجروا إليها وتركوا ممتلكاتهم، بزعم أنهم أُجبروا على الهجرة إليها، رغم أن الأحداث التاريخية تشهدُ على زيف ادعاءات "إسرائيل". وقد قُدر مجموع الممتلكات المتروكة بحوالى 250 مليار دولار، وكان نصيب تونس وليبيا على التوالي 35 مليار دولار و15 مليار دولار. 

لا يغيب عن إدراك أصحاب القرار السياسي في كيان الاحتلال الأهمية الاقتصادية لدول الاتحاد المغاربي، إذ تعد الأسواق المغاربية سوقاً واعدةً بالنسبة إليه لتصريف فائض منتجاته، سواء في قطاع الخدمات والتكنولوجيا أو المنتجات الزراعية وغيرها، فضلاً عن وجود يدٍ عاملةٍ رخيصةٍ تتقاضى أجوراً أقل مما يتقاضاه العمال في "إسرائيل". 

ليس هذا فحسب، فالمنطقة المغاربية، بحكم موقعها الاستراتيجي، تعد بوابة عبور إلى غرب القارة الأفريقية التي تزخر بموارد طبيعية هائلة، تتمثل بالنفط والألماس واليورانيوم والغاز الطبيعي والنحاس والمنغنيز، ما جعلها محل أطماع الدول الكبرى، لكونها تعدّ عامل جذب استثماري، نظراً إلى الامتيازات الضريبية ومناخ الأعمال التي توفّرها تلك الدول للشركات الأجنبية، ما يجعلها قبلة للمستثمرين الأجانب. 

ورغم مزايا بلدان غرب القارة الأفريقية - الساحل والصحراء - فإنها تعاني من عدم الاستقرار بسبب المشاكل الأمنية، نتيجة الجماعات الإرهابية المسلحة التي تنشط في أراضيها، وتتنافس حولها مجموعةٌ من الدول الكبرى، مثل روسيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا. لهذا، تحاول "إسرائيل" إيجاد موطئ قدم لها فيها، ما يتيح للشركات الأمنية الإسرائيلية التغلغل هناك، بذريعة مواجهة الحركات الإسلامية المتشددة. 

وما يميّز هذه الدول، رغم وجود مسلمين ومسيحيين فيها، أنَّ ارتباطها الروحي مع دول الاتحاد المغاربي، وخصوصاً المغرب والجزائر، متين، من خلال الزوايا الصوفية المتجذرة في مجتمعات تلك الدول، إذ يعدّ التصوف إحدى ركائزه الفكرية التي تعمل على إرساء دعائم الإسلام السّني الوسطي وترسيخ قيم التسامح والاعتدال التي تحظى بدعم البلدين. كما أنَّ بعض شعوب هذه الدول يتضامن مع القضية الفلسطينية في مواجهة الهمجيّة الصهيونية.

وعلى هذا الأساس، لن تتردّد "إسرائيل" في اختراق المجتمعات - الغرب أفريقية - من خلال تحريض المسيحيين على المسلمين، عبر القيام بحملات دعائية تحذر من خطر الإسلام، وإدخال الطرفين في اقتتال داخلي، وبالتالي قطع الصلات الروحية مع دول الشمال، ما يساهم في تقزيم دول العالم الاسلامي، كما هو حاصل في بعض البلدان الأفريقية.

في النهاية، نصل إلى استنتاج مفاده أنَّ الكيان الإسرائيلي يبني استراتيجيته على محاولة التغلغل في المجتمعات المغاربية وتثبيت وجوده فيها، ومن ثم الانطلاق نحو دول غرب الساحل والصحراء، لتنفيذ أجندات تتمثّل بقطع الصلات الروحية مع دول الاتحاد المغاربي، عبر إشعال حروب دينية بين مسيحيي تلك الدول ومسلميها مع استغلال ثرواتها. كل هذا لتقطيع أوصال العالم الإسلامي وتحجيمه، لكنَّ مخطط "إسرائيل" سيصطدم بصخرة وعي شعوب المنطقة.