ما محددات السلوك الانتخابي في تركيا؟
الناخب التركي يستجيب بوضوح للمتغيرات الاقتصادية والتقلبات التي قد تشهدها البلاد، ومع ذلك، تبقى هذه الاستجابة عصيةً على تجاوز الانتماء الحزبي والهوية.
تتضح شيئاً فشيئاً خريطة التحالفات الحزبية لخوض الانتخابات العامة المقبلة في تركيا. على الساحة اليوم يبرز تحالف الجمهور (على رأسه حزب العدالة والتنمية)، تحالف العمل والحرية (على رأسه حزب الشعوب الديمقراطي) وتحالف طاولة الستة (لم يعلن التحالف رسمياً بعد ولكنه إطار موسع لتحالف الأمة الذي رأسه في انتخابات سابقة حزب الشعب الجمهوري).
ولهذا الاستحقاق أكثر من خصوصية، أولاً: تزامنه والذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية عام 1923، ثانياً: ظهور تحالف للمعارضة يصهر اليساري مع الإسلامي والقومي (خلفيات متباعدة حد التناقض)، وثالثاً: وليس آخراً بالتأكيد، ما كشفته المعلومات عن توجه كردي إلى إعلان تحالف كردستاني موسع.
ولكن بدايةُ، ما محدّدات السلوك الانتخابي؟
في الواقع هناك أكثر من نموذج لفهم التوجهات الانتخابية سنحاول التطرق إلى أبرزها: النموذج الاجتماعي، النموذج النفسي-الاجتماعي، الاختيار العقلاني–الاقتصادي، ونموذج أو المقاربة البيولوجية -جينية.
النموذج الاجتماعي (sociological model) أو مدرسة كولومبيا: يركز هذا النموذج على تأثيرات العوامل الاجتماعية ويرى أن الانتخاب هو فعل اجتماعي. وبحكم أن الناس ينتمون إلى مجموعات اجتماعية مختلفة (كالدين، الإثنيات، الطبقة الاجتماعية، جغرافيا السكن إلخ)، تصبح هذه المجموعات بمثابة الهوية التي تحدد خيار الناخب.
وبينما يقول مؤيدو هذا النموذج إن الانتخابات في هذه الحال ليست إلا تعبيراً عن الانقسامات الاجتماعية، يذهب آخرون أبعد من ذلك فيقولون إنه عندما تستند غالبية الناخبين إلى الهوية الاجتماعية، لا الى هوية المترشح، ولا الى الأحزاب والسياسات الموضوعة تصبح الانتخابات تعداداً سكانياً لا انتخابات نزيهة بهدف اختيار الأفضل والأنسب.
النموذج النفسي-الاجتماعي (Psychosocial model) أو مدرسة ميشيغان: يجادل منظرو هذا النموذج بأن الهوية الحزبية التي غالباً ما تُكتسب من خلال الأهل، هي التي تؤثر في عملية الاختيار بعيداً من هوية المترشح وبرنامجه حتى، وإن لم يكن الناخب عضواً في الحزب الذي سيمنحه صوته.
الاختيار العقلاني أو الاقتصادي: هؤلاء يرون أن التصويت عملية عقلانية انطلاقاً من أن البشر عقلانيون، واختيارهم تالياً لا بد أن يمثل مصالحهم الاقتصادية. ومن هذا النموذج تتفرع تساؤلات عدة:
- من هو الناخب الاقتصادي؟
- بماذا يتأثر؟ هل يتأثر بمعطيات الاقتصاد الكلي؟ وهم من يُطلق عليهم sociotropic voters؟
- أم يتأثر بما يمس جيبه بشكل أساسي كالراتب وأسعار السلع؟ وهم من يُطلق عليهم egotropic voters؟
- هل يتأثر بأثر رجعي بالسياسات الاقتصادية السابقة retrospective voters أم يتأثر بما هو مرتقب اقتصادياً prospective voters؟
أخيراً، النموذج البيولوجي: يقول رواد هذا النموذج إن لاتجاهات الأفراد السياسية جذوراً جينية، كأن تكون الأسرة إما ليبرالية، وإما محافظة. وفي الحالة التركية، إما دينية وإما علمانية.
ولكن ماذا عن الناخب التركي؟
كثر ممن عملوا على دراسة سلوك الناخب التركي في الانتخابات المحلية والانتخابات العامة، فوجدوا رابطاً قوياً بين انخفاض نسبة التصويت لحزب العدالة والتنمية وانخفاض نصيب الفرد من الناتج القومي، إذا قورنت انتخابات عام 2007 بانتخابات عام 2009.
أما الملاحظة الأهم فإن من هجروا حزب العدالة والتنمية انتخابياً لم يخرجوا خارج نطاق الأحزاب الأيديولوجية الشقيقة كحزب الحركة القومية وحزب السعادة وحزب الاتحاد الكبير، إذ إن الأحزاب الأربعة تقع ضمن الأحزاب اليمينية، إما بخلفية دينية وإما بخلفية قومية.
في تحليل لنتائج الانتخابات، أجراه علي أكراجا (Ali Akarca ) وأيست تانسل (Aysit Tansel) (حلّل أكراجا وتانسل ما لا يقل عن 25 دورة انتخابية بين عامي 1950 و2004) جرى التوصل إلى أن مؤشر الاقتصاد الكلي هو العامل الأبرز لناحية اختيار الحزب الذي سيُصوت له في الانتخابات العامة.
المؤشر الذي وافق عليه أيضاً عميد كلية العلوم الإدارية والاقتصاد في جامعة "كوتش" في إسطنبول علي شارك أوغلو (Ali Çarkoğlu)الذي يضيف أنه على الرغم من أن الاقتصاد الكلي وبمنظار رجعي يبقى المؤشر والعامل الأهم في الانتخابات إلا أن الأيديولوجيا لا يمكن الاستهانة بها.
وفي الحالة التركية يجب الحديث عن العلمانية في مقابل التدين، وهو عامل مهم في مجتمع كالمجتمع التركي.
أما الخلاصة فهي: الناخب التركي يستجيب بوضوح للمتغيرات الاقتصادية والتقلبات التي قد تشهدها البلاد (إجمالي الناتج القومي، البطالة، التضخم..). ومع ذلك، تبقى هذه الاستجابة عصيةً على تجاوز الانتماء الحزبي والهوية (تركي-كردي) والأيديولوجي (علماني-متدين)، وربما من هنا نفهم مسعى حزب الشعوب الديمقراطي لتشكيل أكبر تحالف يكون بمثابة المظلة الواسعة للمكون الكردي التركي.
فهل يشكل استحقاق 2023 علامة فارقة لناحية السلوك الانتخابي؟ سننتظر ونرى فالمشهد الانتخابي قيد التشكّل بعد.