ما الذي عاشه محمد صلاح قبل أن يقتحم حدود فلسطين؟
بعيداً عن الفرضيّة الرسمية للعملية، يبقى العامل الشخصي الذاتي هو جوهر الحدث، وهنا محضن القضية، فما هو الحافز أو الشعور الذي تشكل في وعي محمد صلاح.
أجمع الطرفان المصري والإسرائيلي، كما جميع المتابعين، على كون العملية الفدائية المصرية محض فردية، فلا تنظيم يقف خلفها، ولم يأخذ منفذها المصري مساعدة من أحد، في تقرير ختامي لعملية ما زالت تداعياتها النفسية والشعبية والميدانية ترى. فهل كانت بالفعل عملية فردية؟ وإذا كانت كذلك فما الذي جال في عقل محمد صلاح وقلبه قبل أن يندفع نحو فلسطين اندفاعته الأخيرة؟
اختلف البيان المصري الرسمي عن البيان الإسرائيلي خلافاً جوهرياً؛ فالأول عدّ العملية ملاحقة من جندي مصري لعصابة مخدرات، فيما عدّها الإسرائيلي عملية هجومية على مرحلتين، قصد من خلالها هذا الجندي إيقاع أكبر عدد من القتلى في صفوف الإسرائيليين، ولكنهما اتفقا في النهاية على تجاوز القضية ولملمة أطرافها، بل وتم تسليم جثمان الشهيد.
جاءت العملية في وقت وصول قادة حركتَي "الجهاد الإسلامي" و"حماس" إلى القاهرة، بعد أقل من شهر على معركة "ثأر الأحرار" التي وقعت غداة الغدر الإسرائيلي بالتطمين المصري لقادة "الجهاد" لزيارة القاهرة، بُعيْد جولة الرد على اغتيال الشيخ خضر عدنان في محبسه، ليتم بعد التطمين المصري اغتيال بعض قادة "الجهاد".
فهل بلع المصري وقتها هذا الغدر الذي نال من اعتباره كوسيط من جهة، ومسّ موثوقيته كدولة هي النافذة الوحيدة مع غزة، من جهة أخرى، وهي الضامن الدائم للتطورات الأمنية التي تقض مضجع الإسرائيلي في غزة؟
منذ "كامب ديفيد" عام 1978 والسلام بين القاهرة و"تل أبيب"، حبيس المستويين السياسي والأمني الرسميين، من دون أن يخترق النسيج الشعبي، رغم المحاولات الحثيثة من جانب شريحة معزولة، والأهم أن هذا السلام الموهوم لم يؤثر جوهرياً في عقيدة الجيش المصري، ولا في ثقافته التدريبية في المعسكرات، فما زال العدو التقليدي الذي يتدرب الجنود المصريون على محاربته مستقبلاً هو المحتل الإسرائيلي، رغم الارتهان الرسمي للسياسة الأميركية.
مرت العلاقة الميدانية بين الطرفين المصري والإسرائيلي بخروقات محدودة ومتباعدة، كان أبرزها عملية الجندي الشهيد سليمان خاطر عام 1986 والتي قتل فيها سبعة إسرائيليين، عقب الهجوم الإسرائيلي على حمام الشط في تونس، ثم عملية الجندي أيمن حسن والتي قتل فيها أربعة ضباط وجنود إسرائيليين عام 1990 عقب مجزرة إسرائيلية في المسجد الأقصى، وفي أعوام 2004 و2006 و2011 استشهد ما مجموعه عشرة ضباط وجنود مصريين بالرصاص الإسرائيلي بذريعة استهداف خاطئ، وفي عام 2012 قتل وأصيب عدة جنود إسرائيليين باشتباك مع مجموعة فدائية، وقتل عامل إسرائيلي عام 2016 برصاص مصري.
جاءت عملية الجندي محمد صلاح، من حيث التوقيت، لتحمل مضمونيْن متداخليْن هما: مضمون فرديّ كتعبير رمزيّ عن غضب الأمة ضد تصاعد الوحشية الإسرائيلية، ومضمون رسميّ كتعبير عن محاولة مصر استعادة مكانتها وهيبتها، والإسرائيلي يستبيحها مرة تلو الأخرى، وهو مضمون تحقق ضمناً، حتى لو ثبت انتفاؤه بشكل قطعيّ، فالإسرائيلي بطبيعته يأخذ في الاعتبار هذا البعد، وربما أدرك أنه اشتط في ضلاله السياسي والأمني، وهو يستغل الطرف المصري بما يفقده أصل دوره الراهن في محاولة تطويع غزة بعيداً عن دورها كرأس حربة في المشروع المقاوم.
بعيداً عن الفرضيّة الرسمية للعملية، يبقى العامل الشخصي الذاتي هو جوهر الحدث، وهنا محضن القضية، فما هو الحافز أو الشعور الذي تشكل في وعي محمد صلاح، وضغط على أعصابه ليخطط أولاً، ثم لينفذ في صبيحة ذلك اليوم الصحراوي الصافي من كل أدران الدنيا وحطامها؟
يمكننا تقمص مخيلة هذا الجندي المصري المرابط على حدود أم الدنيا، وقد نهض صباحاً لينشد في معسكره مع زملائه النشيد الوطني وهو يقول:
بلادي بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي
مصر يا أم البلاد أنت غايتي والمراد
يا بلادي عيشي حُرَّة واسلمي رغم الأعادي
مقصدي دفع الغريم وعلى الله اعتمادي
مصر أولادك كرام أوفياء يرعوا الزمام
نحن حرب وسلام وفداكِ يا بلادي.
ثم أدى صلاة الفجر جماعة، وهي تدعوه إلى صراط الله المستقيم، وتلحّ عليه في كل ركعة، أن يأخذ طريق الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالّين.
لعل محمد صلاح سأل نفسه هنا، وهو مستغرق بين ما استقر في وعيه من النشيد الوطني المفدّى، وقد أغرق فؤاده بحب وطنه ليعيش حرّاً سالماً رغم الأعادي والغرماء، ورأى أن يأخذ الزمام، زمام المبادرة وهو لا يرى حوله سلاماً، بل هي حرب ضد إخوته المؤمنين؛ أشعلها هؤلاء المغضوب عليهم، وأحرقوا في لظاها أبناء الصراط المستقيم في غزة، وهو يقرأ قوله تعالى (وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ إِلَّآ أَن يُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ * ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ * إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَتُوبُواْ فَلَهُمۡ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمۡ عَذَابُ ٱلۡحَرِيقِ).
تقمص هذا الجندي الملتزم بجوهر القيم العسكرية، صراط الذين أنعم الله عليهم؛ فما رأى في المشهد الإيماني الميدانيّ، غير زميله الشهيد سليمان خاطر، وقد استحضر وصيته الأساس وهو يودّع الدنيا في زنزانته بعد أن قال في محضر التحقيق "أنا لا أخشى الموت ولا أهابه، إنه قضاء الله وقدره، لكني أخشى أن تكون للحكم الذي سوف يصدر ضدي آثار سيئة على زملائي، تصيبهم بالخوف وتقتل فيهم وطنيّتهم".
وقبل أن يختم صلاة الفجر، علم يقيناً أن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم، ولا سبيل لعزة وطنه غير سبيلهم، هم الذين حددهم الله له في خاتمة صلاته "اللهم صلّ على محمد وآل محمد، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم"، نظر في الذاكرة المختزنة ليرى من آل إبراهيم ولده إسماعيل وهو يمد رقبته للذبح طوعاً لأمر الله، ولكنه رأى من آل محمد واسطة عقدهم؛ عليّ بن أبي طالب، وهو يمد سيفه ذا الفقار ليحطم باب اليهود في خيبر، وخيبر المعاصرة هنا على مسافة استغاثة غزة من جحيمها، وهي هنا عبر سلك شائك، وما زال في الفجر بقية عتمة قبل أن ينبلج الصباح.
وانبلج الصباح على محمد صلاح، وقد اعتلى منصة الميدان، فلا صوت حينئذ يعلو فوق صوت مظفر النواب وهو يقول:
ليس بين الرصاص مسافة
أنت مصر التي تتحدى
وهذا هو الوعي حدّ الخرافة
تفيض وأنت من النيل
ولست أُبَرِئُ إلّا الذي يحمل البندقية قلباً
ويطوي عليها شغافه.
طوى محمد صلاح شغاف قلبه على مصر وغزة والقدس، واعتنق بندقيته لساعات من الفجر حتى صلّى الظهر حرباً، وهو يفيض بأنفاسه الأخيرة شهيداً.