مآلات الأزمة السياسية في السودان

غياب اسم رئيس الوزراء في السودان فسّره البعض بوجود رهان لدى السلطة الحاكمة على تهدئة الأوضاع، عبر تكليف وزارة مصغّرة تتولّى تصريف الأعمال.

  • تتم مناقشة مبادرات عديدة مقدمة ومطروحة للحلّ في السودان
    تتم مناقشة مبادرات عديدة مقدمة ومطروحة للحلّ في السودان

منذ استقالة رئيس مجلس وزراء الحكومة الانتقالية المؤقتة عبد الله حمدوك ليل 2 كانون الثاني/يناير الجاري، يزداد المشهد السياسي في السودان تعقيداً مع استمرار الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تضرب كلّ مجالات الحياة، وسط تضارب التصريحات وتداخل المبادرات المقدمة والرؤى المطروحة داخلياً وخارجياً، في محاولة لإيجاد مناخ مناسب وملائم لاستعادة ثقة متهاوية بين أطراف الأزمة منذ انقلاب تشرين الأول/أكتوبر2021م وتبعاته، فما هي تطورات الأحداث؟

إجراءات جديدة وأزمة مستمرّة

ليل الخميس الماضي، وفي وقت متأخّر، أُعلن قرار صادر عن رئيس مجلس السيادة (الانتقالي) الذي تشكّل عقب الانقلاب بتكليف وزارة تسييرية لتصريف الأعمال، كان اللافت فيها غياب اسم العضو الأهم: رئيس الوزراء؛ المنصب الحساس الذي ظلَّ في حالة شغور منذ استقالة حمدوك المتوقعة قبل قرابة أسبوعين، منصب لا يقتصر تعيين اسم شاغله على المكون العسكري حصراً وفقاً للوثيقة الدستورية، ووفقاً للاتفاق الإطاري الموقع في 21 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، الذي يقضي بأن يشكّل رئيس الوزراء حكومته على أساس الكفاءات المستقلة "تكنوقراط"، وهو ما يجعل القرار الأخير بتكليف الوزارة التسييرية توسيعاً لصلاحيات الوكلاء والأمناء العاملين في الوزارات، الموجودين على رأس العمل، والمكلفين بتسيير وتصريف أعمال وزاراتهم، ما يمكن أن يمنحهم مرونة أكبر في العمل لمحاولة معالجة الأوضاع المتردية، إلى حين الاتفاق على اسم لرئيس الوزراء، فيما يتصرف مجلس السيادة كمشرف على أداء الوزراء.

غياب اسم رئيس الوزراء فسّره البعض بوجود رهان لدى السلطة الحاكمة على تهدئة الأوضاع، عبر تكليف وزارة مصغّرة تتولّى تصريف الأعمال، في حين يستمر الأخذ والرد مع المبادرات المقدمة من طرف الأمم المتحدة ودول الجوار والاتحاد الأفريقي، إضافة إلى مبادرات "الإدارة الأهليّة"؛ المكوّن الأكثر سلطة في أرياف السودان الشاسعة، وصاحب النفوذ الإرثي الواضحة على سكّانها.

تضمّنت الوزارة المكلّفة حديثاً أسماء بدت غير معروفة للرأي العام المحلّي، باستثناء بضعة أسماء طُرحت من قبل، وكلّف بعضها فعلاً في وقت سابق بمهام وزارية، مثل جراهام عبد القادر، الذي عاد مكلفّاً بوزارة الثقافة والإعلام المركزية، التي كلّف بها إثر انقلاب تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

وتضمنّت الوزارة المكونة من 15 شخصاً 4 سيدات كلّفن بوزارات الصناعة، والتجارة والتموين، والاستثمار والتعاون الدولي، والعمل والإصلاح الإداري. هذه الأسماء غلب على معظمها الطابع الإداري، إذ كان معظمها يشغل مواقع إدارية رفيعة كوكلاء وزارات وأمناء عامين، بينما تحدّثت أوساط عن ارتباطات سابقة أو حالية لبعضهم بنظام البشير المعزول ومؤسساته الإدارية والحزبية.

ردود أفعال متباينة وتظاهرات مستمرّة

وقد جاءت الرّدود باهتة عبر صمت المعارضة التي لم تعلّق بشكل رسميّ حتى الآن، ممثّلة بتحالف "قوى الحرية والتغيير"، الواجهة الأبرز للكتلة المدنية، فيما لم تعلق عليه حتى الآن القوى المؤيدة للانقلاب، المتجمعة تحت إطار "قوى الحراك الوطني"، والمكونة من أحزاب فرعية وحركات مسلحة موقعة على اتفاق "جوبا" للسلام، ووجوه قبليّة ورجال أعمال، بينما انتشرت دعوات فردية من إعلاميين ومحازبين معارضين، ومن نشطاء في منظمات "المجتمع المدني"، وبعض لجان المقاومة، ولجان نقابية، لرفض القرار والاستمرار في التظاهر، بينما جاء أول رد خارجي عبر سفارة الولايات المتحدة الأميركية في الخرطوم، عبر بيان رسمي نشرته وجاء فيه أنَّ حكومة واشنطن ليست بصدد استئناف مساعداتها الاقتصادية للخرطوم، المتوقفة منذ الانقلاب، رابطة استئناف تقديم المساعدات بتوقف العنف.

هذا القرار من شأنه أن يولد مزيداً من الضغوط على الداخل. وقد أعقبه تحرك أوروبي مشابه للتحرك الأميركي، ما زال قيد الإقرار (يوم الإثنين القادم)، إذ استخدمت القوى الأوروبية لأول مرة كلمة الانقلاب لوصف ما جرى في 21 تشرين الأول/أكتوبر الماضي خلال اجتماع الأربعاء، ما يوحي بضغوط خارجية على السلطة القائمة بحكم الأمر الواقع في السودان، ما قد يدفع قوى تلتزم الصمت إلى الانضمام إلى معسكر السلطة الحاكمة تحت طائلة رفض التدخل الأجنبي في البلاد، نسبةً إلى الرفض الشعبي والسخط المتوارث والمتراكم عبر العقود في أوساط السودانيين تجاه سياسات الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة ككلّ، والسودان بصفة خاصّة.

توتّر العاصمة وتحركات الولايات

يأتي كلّ هذا في الوقت الذي ما زال الاصطفاف والاستقطاب يتسيّد المشهد، وأزمة لاجئين حادة تستمرّ عقب الاضطراب الأمني في الجنوب والغرب والشرق على الحدود مع إثيوبيا، في ظلّ التظاهرات اليومية والاعتصامات المتكررة والوقفات الاحتجاجية المطلبية، ووسط غيابٍ لحكومات الولايات، وإغلاق جزئي لبعض الشوارع، ودعوة إلى عصيان مدني نُفذ جزئياً الأسبوع الماضي، واضطرابات أمنية في بعض المناطق، وخصوصاً في الشرق والشمال، الَّذي يوصف بأنه جمر تحت الرماد، بينما جاء إغلاق طريق "شريان الشمال"، وهو طريق بري دولي قاري يربط السودان بمصر عند الولاية الشمالية، أكبر ولايات البلاد، ضربة موجعة للاقتصاد المحلي ولدول الجوار بدرجة أخف، إلا أنّه دقّ ناقوس خطر لدى المواطنين والمسؤولين على حدّ سواء في العاصمة، إذ إنَّه أهمّ الشرايين الرافدة للاقتصاد السوداني، وتم إغلاقه بصورة مخففة بواسطة مزارعي الشمال الغاضبين من قرار حكومي مركزي غير مدروس من وزير المالية، برفع تعرفة الكهرباء للقطاع الصناعي والزراعي والسكني في الولاية، صدر قبل أسبوع، ولقي استهجاناً واسعاً ورفضاً مطلقاً من كل شرائح الشعب السوداني، مشكلاً لهم صدمة وهاجساً، نظراً إلى ما سيتسبّب به من تضخيم لارتفاع متزايد أصلاً لتكلفة الزراعة: المورد الأولي والمهنة الأساسية لأغلب سكان الولاية الشمالية ومعظم السودان. 

هذا الإغلاق أوقف مؤقتاً بعد قرار الحكومة المركزية، وجاء مذكراً بإغلاق طريق بورت سودان الحيوي الرابط بين العاصمة والمرفأ الرئيسي للبلاد، والذي سدد ضربة قاضية لحكومة عبد الله حمدوك خريف العام الماضي، سرعت في وقوع الانقلاب.

مبادرات متتالية وجمود مستفحل

في ظلِّ كلِّ هذا التوتر والترقّب، تتم مناقشة مبادرات عديدة مقدمة ومطروحة للحلّ، منها مبادرة أساتذة جامعة الخرطوم الجامعة الأقدم في البلاد، ومبادرات الطرق الصوفية، الجهة الروحية الأكثر قبولاً في أوساط الشعب، والإدارات الأهلية، وبعض المبادرات الفردية من شخصيات اعتبارية، ومبادرة دولة جنوب السودان، ومبادرة "أصدقاء السودان" التي عُقد اجتماعها مؤخراً في العاصمة السعودية الرياض، ومبادرات حزبية من مختلف الأحزاب.

تتمحور غالبية المبادرات حول الدعوة إلى الحوار وتقديم تنازلات بضمانات لجميع الأطراف، وهي مبادرات قد لا تخلو من ترجمة لأجندات خارجية إقليمية ودولية، وانعكاس لاصطفافات ومحاور يراد جر السودان إليها في ظل الصراع على الشرق الأوسط؛ صراع يدخل مرحلة حساسة وفارقة في وجود إلحاح من الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني على الهرولة إلى التطبيع، وهو أمر يجد رفضاً واسعاً لدى الغالبية الساحقة من السودانيين.

ومما يرشح من هذه المبادرات أنَّ هناك تمترساً من جميع الأطراف المعنيّة في التمسّك بمواقفها وعدم تقديم تنازلات تفضي إلى التوافق المطلوب في هذه المرحلة الحسّاسة التي يمر بها السودان والإقليم، لتجنيبه مخاطر الانزلاق إلى العنف وعسكرة كلّ الأطراف، الأمر الذي قد يؤدي، في حال حدوثه، إلى سيناريوهات مدمرة، أخطرها تمزيق ما تبقّى من السودان، بما ذلك من تداعيات كارثية على المنطقة برمتها.

حلول لاستكمال أهداف الثورة

إزاء هذا الوضع، وبالنظر إلى تعدد الرؤى السياسية للفرقاء بجميع طوائفهم، والاختلاف الجوهري بين هذه الرؤى، قد يكون من المفيد استدعاء تجارب الماضي في السودان مع استحضار متغيرات الواقع المعيش اليوم، للتوافق على حكومة تكنوقراط في هذه المرحلة للإعداد لانتخابات عامة في الموعد المحدد لها طبقاً للوثيقة الدستورية.

 وسيكون من الضّروري العمل على متطلبات المرحلة الانتقالية، من استكمال لبناء هياكل الدولة، ومفوضية للانتخابات تبدأ بإعداد سليم للانتخابات، وإجراء تعداد سكاني، وتحديد الدوائر الانتخابية، وتوفير المتطلبات اللوجستية، وقبل ذلك استكمال هياكل جهاز القضاء لتحقيق أحد أهم مطالب الثوار، وهو تحقيق العدالة، ومحاسبة المتورطين في الجرائم والتجاوزات، وتكوين المجلس التشريعي الانتقالي لوضع اللبنة الأساسية لإعداد مشروع دستور دائم تتم مناقشته وإجازته من قبل البرلمان المنتخب، الأمر الذي قد يحدث تهدئة ويوجد شعوراً بالتقدم والأمل في إحراز أهداف الثوار ومطالبهم لدى المواطنين، وخصوصاً فئة الشباب - الفئة الأكثر تحركاً ونشاطاً في الميدان - بغالبيتها غير المنتمية إلى الأحزاب.