لهذا لم تتم الاستفادة من كتب المؤرّخ رشيد الخالدي؟
أهدى البروفيسور رشيد الخالدي كتابه "وسطاء الخداع" إلى أعضاء الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن عام 1991، وهم الذين تنبهوا إلى الهاوية التي نعيش جحيمها اليوم، شعباً وقضية.
البروفيسور رشيد الخالدي، أستاذ أكاديمي يشغل كرسي إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا الأميركية، وهو رئيس قسم التاريخ فيها. فلسطيني ينتمي إلى واحدة من أعرق عائلات القدس التي أنجبت شخصيات متميزة، منها ابن عمه المؤرخ الكبير البروفيسور وليد الخالدي.
شغل رشيد الخالدي موقع مستشار للوفد الفلسطيني إلى مفاوضات "السلام" (العربية - الإسرائيلية) في مدريد وواشنطن 1991-1993. عام 2013، أصدر كتابه المهم جداً "وسطاء الخداع"، باللغة الإنكليزية، والذي نقلته إلى العربية سارة ح. عبد الحليم عام 2015، وصدر عن منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
النسخة العربية عنوانها "وسطاء الخداع" بخط كبير أحمر، وتحته: "كيف قوّضت الولايات المتحدة الأميركية عملية السلام في الشرق الأوسط؟".
بعد سنوات، تُرجم كتابه "حرب المائة عام على فلسطين"، وتحت العنوان الرئيس: "قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917-2017 ترجمة د. عامر شيخوني". صدر هذا الكتاب المهم عن منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون 2021، وكانت الطبعة الإنكليزية قد صدرت عام 2020.
شخصياً، نصحت بعض معارفي بقراءة كتاب "وسطاء الخداع"، لعلّهم يتعرفون إلى دور ممثلي الولايات المتحدة الأميركية في المفاوضات، وخداعهم المفاوضين الفلسطينيين، وانحيازهم إلى المفاوض الإسرائيلي، وتشجيعهم المفاوضين الإسرائيليين على التصلّب أكثر.
يبدأ الكتاب بإهداء: "إلى د. حيدر عبد الشافي، فيصل الحسيني، إقبال أحمد، إدوارد سعيد، إبراهيم أبولغد: إليهم جميعاً، كلهم رأوا الهاوية التي كنّا سنسقط فيها". إنه إهداء خطر يتضمن موقفاً، فهو موجه إلى أعضاء الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن، وخصوصاً الدكتور حيدر عبد الشافي رئيس الوفد، والمناضل فيصل الحسيني، مع إهداء للبروفيسور إدوارد سعيد، والمفكر الباكستاني إقبال أحمد، والبروفيسور إبراهيم أبولغد.
للأسف، الهاوية التي نبّه، وتنبه إليها، من أهداهم الخالدي الكتاب، وجميعهم رحلوا، ها نحن نعيش جحيمها، شعباً وقضية. يتكون الكتاب من مقدمة بعنوان: وسطاء غير نزيهين. ثم: بيغن والحكم الذاتي الفلسطيني (1982). المنعطف الثاني: مفاوضات مدريد- واشنطن (1991-1993). المنعطف الثالث: باراك أوباما وفلسطين (2009-2012). الخاتمة: محامي "إسرائيل"، وفي الختام: شكر وتقدير.. والهوامش.
في المقدمة، يأخذ البروفيسور رشيد الخالدي مقطعاً من كتاب جورج أورويل، الروائي البريطاني صاحب الرواية المشهورة 1984، "السياسة واللغة الإنكليزية" (1946): "إن كون لغتنا رثّة ليُسهّل علينا تبني أفكار حمقاء.. وإذا كانت الأفكار تفسد اللغة، فإنّ اللغة تستطيع أيضاً أن تفسد الفكر. ومن شأن الاستخدام السيئ أن ينتشر عبر العرف والتقليد، حتى في أوساط الناس الذين يجب أن يكونوا أعقل من أن يقوموا بذلك، وهم بالفعل كذلك".
أُصبت بالكآبة بعد قراءتي الكتابين الفائقي الأهمية والخطورة، أقصد "وسطاء الخداع"، و"حرب المائة عام على فلسطين"، ولم تكفّ الأسئلة عن الإلحاح والتسبب بالقهر والغضب والحزن، بل والشعور باليأس من إمكانية أن يستفيد من تاريخ المفاوضات، من يقودون ويتحكّمون في مصير القضية الفلسطينية ومآلها، منذ أوسلو وحتى اليوم.
لا بد من العودة بالذاكرة إلى تلك الفترة التي كنا نقيم خلالها في تونس، تحديداً سنوات ما بعد مدريد، ومتابعة ما يحدث مع الوفد الفلسطيني في واشنطن برئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي، ومعه فيصل الحسيني والدكتورة حنان عشرواي. لم نكن نعرف أن مفاوضات تجري في العتم من وراء وفد واشنطن، ومن دون علم الشعب الفلسطيني وقيادات الفصائل وكفاءات شعبنا المتميزة بخبرات كبيرة عالمياً، ولكننا، وأنا واحد من هؤلاء المقيمين في تونس حتى المغادرة عام 1994، أي ما بعد انكشاف أو افتضاح صفقة أوسلو، والتوقيع في حدائق البيت الأبيض بتاريخ 13 أيلول/سبتمبر 1993، كنا مندهشين من الحملة على وفد واشنطن، وعلى الدكتور حيدر والمناضل فيصل الحسيني، وهو ابن القائد الفلسطيني شهيد القسطل، بطل فلسطين عبد القدر الحسيني... والدكتورة حنان عشرواي، مع الترويج أنّ وفد واشنطن سيصل إلى حلول، ومن ثم نبقى في الشتات..
تحت حملة التحريض تلك، ومن وراء ظهر وفد واشنطن المتمترس برفض مواصلة الاستيطان أثناء المفاوضات، والفترة الانتقالية، والاستعصاء الذي تسبب به المفاوضون الإسرائيليون الذين يتغطون بدعم وسطاء الخداع الأميركيين، تمّ فتح مسار أوسلو، وهكذا أُنهيت مهمة وفد واشنطن، ومضى مفاوضو (القيادة) المقيمة في تونس في تقديم التنازلات، وتأجيل كل القضايا المهمة: التوقف عن سياسة الاستيطان، والقدس، والدولة، وعودة اللاجئين، والماء، ووضع الاقتصاد الفلسطيني بيد الاحتلال الذي سيقبض أموال الجمارك والضرائب، بحسب اتفاقية باريس، ناهيك بالتنسيق الأمني، وإشراف الجنرال دايتون على بناء أجهزة أمن السلطة بالترافق مع استبعاد كل القدامى وإحلال "جيل" لا يعرف شيئاً عن القضية الفلسطينية والثورة الفلسطينية، وخصوصاً بعد انتفاضة الأقصى التي شارك فيها رجال الأمن بالبنادق التي بين أيديهم عندما رأوا وحشية الاحتلال.
في أوساط القيادة الفلسطينية في تونس، انتشرت "دعاية" تحريضية استهدفت الوفد المفاوض في واشنطن بأنه سيشكل السلطة ويحتكرها في حال توصل إلى حل مع الإسرائيليين والأميركيين، وسيبقى من هم في الخارج حيث هم، وهكذا تكون قد "راحت عليهم"!
هكذا برروا التفافهم من وراء ظهر وفد الدكتور حيدر عبد الشافي. وللفوز بقبولهم، قدّموا كل التنازلات في أوسلو، وأغرقوا القضية معهم في مصيدة نصبها الرعاة الأميركيون، وأغلبهم يهود صهاينة، لم يعترض عليهم مفاوضو أوسلو حتى لا ينفروهم منهم وينهوا المفاوضات!
فلسطينياً، هناك من لا يريدون أن يتعلموا أو يعرفوا، وهؤلاء يديرون ظهورهم لكل من يفكّر ويكتب ويطرح رأياً، وهم لا يصغون إلى من يرفعون أصواتهم مطالبين بإعادة النظر في مسيرة أوسلو، داعين للسّعي الجدي في إيجاد مخارج تنقذ القضية، وتوحد صفوف شعبنا الفلسطيني في الداخل والخارج.