لماذا تكره أوروبا الغربيةُ روسيا؟
يمكننا أن نصدّق فكرة مفادها أن الإعلام والبروباغندا الغربيَّين استطاعا خلق كل هذه الكراهية تجاه روسيا، لكن الفكرة تبدو ساذجة أكثر من اللازم.
في نيسان/أبريل 2016، استُشهد محمد أبو هشهش، لاعب كرة القدم الفلسطيني، في أثناء عودته من التمارين، برصاصة حيّة أصابته في الصدر. وفي أيار/مايو 2020 استُشهد معاذ الزعانين، لاعب كرة القدم الفلسطيني، بعد قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي مدينةَ بيت حانون. وفي الحالتين، لم يصدر بيان عن أيّ جهة رياضية سوى الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم.
في اليوم الرابع من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، قُتِل لاعبا كرة قدم أوكرانيان في أثناء اشتراكهما في العمليات القتالية. شاهدنا صور القتيلين في كل المواقع الرياضية، وصدرت بيانات عن الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، وتحوّل اللاعبان إلى أيقونة رياضية.
احتلّت المقارنة بين ما حدث في كثير من الدول العربية، وما يحدث في أوكرانيا، مساحة كبيرة من التغطية الإعلامية العربية للحدث الأوكراني. وتساءل إعلامي في قناة عربية مستنكراً: ماذا لو أن رئيساً عربياً، أو مسؤولاً إيرانياً، أعلن رغبة بلاده في امتلاك الأسلحة النووية، كما فعل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي؟ كانت الإجابة ترتسم في مخيلة المشاهد العربي على شكل صور من فيتنام والعراق وسوريا وليبيا واليمن.
الإجابة الغربية عن تلك المقارنة جاءت على لسان أكثر من إعلامي ومسؤول سياسي أوروبي. فهؤلاء الضحايا واللاجئون، بحسب وصف مراسل "بي بي سي"، بيض وشقر وعيونهم خضراء، ولا يشبهون، بحسب مراسل آخر، أولئك القادمين من الشرق الأوسط والعراق وأفغانستان. فسكّان ما يُسَمّى العالم الثالث، بشر من الدرجة الثانية. لكن، ماذا عن الروس الذين يمتلكون المواصفات نفسها في الشكل، ويتبنّون المعايير الليبرالية ذاتها التي تتبناها أوروبا؟
يمكننا أن نصدّق فكرة مفادها أن الإعلام والبروباغندا الغربيَّين استطاعا خلق كل هذه الكراهية تجاه روسيا، لكن الفكرة تبدو سهلة وساذجة أكثر من اللازم. فالإعلام الحربي الغربي يلتزم المبادئَ العشرة التي وضعها اللورد آرثر بونسونبي عام 1928، والتي تنصّ على أن علينا تصوير العدو بصفته "المسؤول الوحيد عن اندلاع الحرب، كما علينا أن نصف بالخيانة كلَّ الذين يشكّكون في تغطيتنا للأحداث، وفي عدالة قضيتنا". هذا بالضبط ما فعله رئيس حزب العمال البريطاني عندما هدّد بفصل أي عضو يتخذ موقفاً معادياً للناتو من عضوية الحزب.
لكن هذا لا يفسّر الحقد على مكسيم غوركي وتشيخوف وتشايكوفسكي وديستوفسكي، ولا الحملة التي يشنّها الغرب على الفنانين والرياضيين الروس، الذين يعملون في أوروبا، كما حدث مع قائد أوركسترا برلين، الذي رفض إصدار بيان إدانة لبلاده، أو اللاعب الروسي، الذي وضع شعار جيش بلاده في بطولة العالم للجمباز. هذه الصورة تتناقض مع مبدأ بونسونبي التاسع، والذي يقول: لأن قضيتنا عادلة، فكل الفنانين والمثقفين يساندونها.
لا بدّ للباحث من تحرّي السبب، أو الأسباب، الكامنة وراء الحقد الأوروبي على روسيا. البعض يضع الكنيسة في الواجهة، ويحيل الخلاف على الصراع التاريخي بين الكنيسة الأرثوذكسية وسائر الكنائس السائدة في أوروبا (الكاثوليكية والبروتستانتية). يعود ذلك إلى جذور الحروب التي خاضتها الإمبراطورية الروسية في أوروبا، ولعل أهمها حرب القرم، عندما انحازت بريطانيا وفرنسا ومملكة سردينيا (إيطاليا لاحقاً) إلى جانب العثمانيين. تلك الحرب التي اندلعت عقب اجتياح روسيا لرومانيا للمطالبة بإعادة مفاتيح كنيسة القيامة إلى الأرثوذكس، بعد أن قام العثمانيون بتسليمها إلى الكاثوليك.
تُعَدّ حرب القرم البدايةَ الحقيقية لما يُعرف اليوم الإعلامَ الحربي، إذ أرسل كثيرٌ من الصحف الأوروبية مراسلين إلى منطقة القرم من أجل تغطية أخبار الحرب. ظلت روسيا محطَّ اهتمام الإعلام على الرغم من الأحداث المهولة التي رافقت الحرب العالمية الأولى. ففي موسكو، حدثت ثورة غيّرت مجرى التاريخ، وألقت القفاز في وجه القوى الرأسمالية الصاعدة، التي حسمت الحرب العالمية الأولى لمصلحتها. استُهدِف الاتحاد السوفياتي بأكبر حملة إعلامية سلبية منظَّمة في التاريخ. شاركت فيها دول غربية، أسست، على سبيل المثال، إذاعة أوروبا الحرة، بمساعدة من الصحافتين، الرسمية والخاصة. وكانت مساهمة هوليوود واحدة من أهم هذه المساهمات، إذ صورت الروسي شخصاً جلفاً يميل إلى العنف من دون مبرر، ويبذل ما في وسعه لتدمير الغرب الرأسمالي عبر استخدام القنابل النووية، أو الغزو. فالمهم بالنسبة إلى الروسي، كما قال أكثر من رئيس غربي، هو تدمير نمط الحياة الغربي الرأسمالي.
الرأسمالية؛ كلمة السر التي تُلخص علاقة الانسان الأبيض الغربي الرأسمالي بالعالم. يمكن اختصار أثر الرأسمالية الاجتماعي، داخل المجتمعات الغربية، في نقطتين: نظرية الخلاص الفردي، ونظرية تفوق الإنسان الأبيض الغربي.
يتدرّج الخلاص الفردي من خلاص الإنسان كفرد، إلى خلاص جماعته (البيض)، إلى خلاص قوميته، ليتوقف عند حدود خلاص النظام الرأسمالي. أي طرف خارج هذه المنظومة يشكّل تهديداً، ليس لنمط الحياة فحسب، بل للحياة نفسها أيضاً. لذلك، فإن كل ما يفعله الغربيون من أجل ضمان خلاصهم مبرَّر ومشروع، سواء كان بتوسيع الناتو، أو بغزو دول بعيدة عنه آلاف الأميال، أو عبر إنزال العقوبات بمن يحاول أن يخرج من تحت سيطرته. في هذه الحالة، يتساوى الروسي الأبيض مع الإيراني والكوبي والعربي، إذا اختاروا الإضرار بمصالح الغرب.
والإنسان الأبيض الرأسمالي متفوق لأن آلته هي التي صنعت الحضارة، كما نعرفها اليوم، وهو الذي يقود العالم في درب "الديمقراطية والحرية". هذا التفوق يمنحه حق تصنيف الأمم وتقييمها، سياسياً وحضارياً. لقد تحولت المجتمعات الغربية الرأسمالية إلى مجتمعات عنصرية متعصبة. حتى المنظمات التي تذهب بعيداً في تبنيها مبادئ الليبرالية، لا تقل عنصرية عن المنظمات النازية، فهي تختار القضايا التي تتفق مع فكر الأوروبي المتفوق، كالمثلية، وحقوق الأقليات، وتغض الطرف، بل يمكن أن تدين وتتهم بالإرهاب طفلاً فلسطينياً في أبو ديس أطلق عليه الصهاينة النار وتركوه ينزف حتى الموت. ويمكن لها أن تقبل اعتذار توني بلير وجورج بوش الابن عن قتل أكثر من مليون عراقي، وتدمير البنية التحتية للبلاد، وتحولهما إلى سفيرين أمميين للنيّات الحسنة، لكن جمال عبد الناصر وبشار الأسد وفيديل كاسترو سيبقون ديكتاتوريين إلى الأبد.
الروسي أبيض، أشقر، عيناه خضراوان، تماماً كما وصف مراسل "بي بي سي" الأوكرانيين، لكنه شذّ عن القاعدة، ولم يقبل التبعية الذيلية لأوروبا الغربية، كما فعلت أغلبية الدول الاشتراكية السابقة. لقد امتلك مشروعاً قومياً اقتصادياً يقوم على الاستقلال والسيادة. تتصدى روسيا لدور تقدمي تاريخياً، من خلال تدميرها سلطة المركز الأوروبي الرأسمالي، وتفتح أبواب التاريخ أمام الشعوب لتصنع مستقبلها وتنفذ مشاريعها. لذلك، يسود الذعر الشارع الأوروبي، في حين تكاد المظاهرات لا تُرى في المدن الأميركية.
هذا الروسي يهدّد تفوق الأبيض الغربي الرأسمالي وسيطرته. لذلك، ترسم له الدوائر الغربية صورةً تشبه أولئك الذين تكرههم. فهو ديكتاتور، يمنع شعبه من حرية التعبير عن الرأي، وليس ديمقراطياً... فهو، إذاً، يشبه أولئك الصينيين والفيتناميين والأميركيين الجنوبيين، وأصحاب الملامح الشرق أوسطية. ومن هنا يحق لنا أن نكرهه.