لست عربيًا أنا من إنسانِستان
نحن أمام نافذة تاريخية تمّ فتحها بطوفان. لو أردنا فتحها بمواجهة تقليدية لكلّفنا ذلك أضعافاً وأضعافاً أكثر من شهداء الطوفان.
لا نشكّك في أننا كنّا ذات يومٍ عرباً. المسألة لا تكمن في مراجعة انتماءٍ قديم،ولا هي مسألة نزق أو هَوَس في تعديل جيناتنا تيمّناً بالهرطقة الجندرية الرائجة في أيامنا.
المسألة تكمن فيما إذا كنا ما زلنا نريد أن نكون عرباً. أن تكره عروبتَكَ فهذا يحتّمُ عليك أن تُعالَجَ عند اختصاصي باستئصال الغدَد القومية.
"سجِّل أنا عربي" قالها محمود درويش. شيءٌ من التحدي الممزوج بالزهو في طلب التسجيل هذا. كان درويش يخاطب السَّجّان والعالَم المتعاطف معه ضدَّ المسجون. شَهَرَ درويش عروبَتَهُ كما يشهر المقاتل سلاحه الأبيض من المسافة صفر. لو كان درويش في قيد الحياة اليوم، فهل كان سيرفع تحديه بالإصرار نفسه؟ أتخيله يصرخ: سجِّل، لم أعد عربياً.
العرب أمة ابتلَعَها التاريخ. كل ما تبقّى منها بالكاد يملأ ديوان شعر من صدر الإسلام. العروبة ستكون بعد سنوات قليلة معروضة في متاحف العالم على شكل مخطوطات لا تهمّ سوى علماء التاريخ والأرخيولوجيا.
طوفان الأقصى ليس عربياً. على العكس من ذلك. الطوفان أغرق العروبة قبل أن يغرق الصهاينة، لا لسبب إلا لأنَّ العرب تصهينوا. هذه حقيقة مؤلمة، وإنما البوح بها مقدمة ضرورية للتعايش مع الآتي من الأيام.
جينات قومية جديدة أنبَتَها طوفان الأقصى. لا يصح حتى أن نَصِفها بِـ "نيو عروبة" أو عروبة محدثة.
الأصح أن نعلن مع الطوفان قومية جديدة هي قومية الإنسانية، وهي أشمل وأعمّ وأكثر صدقاً من العروبة. مع الإنسانية كانتماء أنت خارج احتمالات التطبيع. أن تكون إنساناً هو بكل بساطة أن تكون مقاوماًلأعداء الإنسانية. أن تتحول الإنسانية إلى جنسية. إلى وطن. إلى قطر. أن نبدل بها كل بطاقات هوياتنا وجوازات سفرنا السابقة. الجنسية: إنساني. الوطن: إنسانستان.
من المستحيل لهذا العالم، الذي كان عربياً منذ فترة وجيزة، أن يخلع عنه سترَة التطبيع. يمكن للشعوب هناك أن تعتنق مذهب الإنسانية وجنسيتها فتتحرر من لعنةُ العروبة والعرب. عندها، تصبح الأنظمة المطبّعة مضادّة الإنسانية، ويمكن مقاضاتها، ويصح أن تثور عليها الشعوب.
أما أن تبقى الشعوب على عروبتها والأنظمة على صهيونيتها فذلك لن يورث سوى العنف والفوضى، أي بالتحديد ما تريده "إسرائيل" من التطبيع.
على الشعوب العربية أن تَعُدّ، بعد اعتناقها جنسيّة الإنسانية، أن العروبة مثل السنسكريتية، قومية ميتة. الهيروغليفية ميتة آثارها ماثلة في بعض الكهوف والمتاحف، وعلى العروبة أن تحذو حذو الهيروغليفية، فتسهّل ولادة القومية الجديدة، أي اللغة القابلة للتواصل والحاملة للقيم، وبالطبع ما كان في إمكانناأن نأمل دفن العروبة وولادة قومية الإنسانية من دون طوفان الأقصى.
لا يمكن إعلان ولادة جنسية جديدة هي الإنسانية من دون إعلان وفاة الصهيونية. الأولى مؤجّلَة الطَّلق والثانية منتظرَة أن تموت. نحن في حالة ما، بين القبر وقيام الساعة.
نحن أمام نافذة تاريخية تمّ فتحها بطوفان. لو أردنا فتحها بمواجهة تقليدية لكلّفنا ذلك أضعافاً وأضعافاً أكثر من شهداء الطوفان. بهذه المعادلة يجب أن نردّ منطق الذين يقولون إنه ما نفع تبادل أعداد من الأسرى الفلسطينيين إذا كناتكلّفنا أضعافهم شهداء، بالإضافة إلى دمار غزة.
الجواب أن الصراع تاريخي،ولا يمكن ان يُحسَم إلا بالدماء. السيد المسيح سُفِكَ دمه على أيدي أعداء الإنسانية وفداء للبشرية جمعاء. يبدو عدد شهداء غزة في هذا السياق قطرة واحدة من دم المسيح. صعب هذا الكلام من بعيد. صحيح.
لكن المسافة لا تعني أننا لسنا على الرصيف الصحيح من التاريخ. كل بيت مقصوف في غزَّةَ يشبه قبر المسيح. قريباً سيذهب الصهاينة ليستكشفوا ماذا جنت أيديهم، وسيجدون البيوت فارغة من الجثامين. كلها رفعها الله لتتشبه بالفادي. دم الفلسطينيين مؤسِّس لديانة الإنسانية. ديانة تتماهى مع حُكم الله على القتلة: التشتت والتشرّد والضياع في أرض الله الواسعة.