لبنان على أبواب الانتخابات: ظواهر وأوهام سياسيّة

قبل أقل من أسبوعين على الانتخابات، يبدو أنَّ حظوظ التأجيل تراجعت، وبات الجميع يتصرف كأن الانتخابات حاصلة لا محالة.

  • شعارات التغيير الشامل التي يطلقها البعض كوعود انتخابية، سرعان ما ستتبدّد على مذبح الواقعية السياسية.
    شعارات التغيير الشامل التي يطلقها البعض كوعود انتخابية، سرعان ما ستتبدّد على مذبح الواقعية السياسية.

سرى العديد من التكهنات بأنَّ هناك أطرافاً خارجية وداخلية تسعى لتأجيل الانتخابات النيابية، بسبب تأكدها من عدم القدرة على إحداث تغيير فعلي في نتائج الانتخابات النيابية، وعدم القدرة على قلب موازين القوى لمصلحتها.

وقد تبادلت الأطراف السياسية الاتهامات بالسعي لهذا التأجيل، وذكر العديد من التقارير الصحافية أنَّ الفوضى الأمنية باتت أمراً مطلوباً لهذا الغرض. وقد ردّ حزب الله -المتهم من قبل قوى 14 آذار والسفارات الغربية بأنه يسعى لتأجيل الانتخابات- بأن الانتخابات "يجب أن تحصل، وفي موعدها"، وأن التأجيل (المرغوب أميركياً بحسب رأيه) لا يمكن أن يمر. 

اليوم، وقبل أقل من أسبوعين على الانتخابات، يبدو أنَّ حظوظ التأجيل تراجعت، وبات الجميع يتصرف كأن الانتخابات حاصلة لا محالة، وأنَّ التأجيل ليس خياراً مطروحاً على الطاولة. وفي خضمّ هذه الحماوة الانتخابية، تسيطر على المشهد الانتخابي الظواهر السياسية التالية: 

1-    تشظّي تيار المستقبل

على الرّغم من قرار تيار المستقبل ورئيسه سعد الحريري مقاطعة الانتخابات ترشيحاً واقتراعاً، فإنَّ العديد من قيادات المستقبل تمرّدت على قرار قيادتها، وأعلنت ترشحها، وشكّلت لوائح خاصة بها، وقام السنيورة بتشكيل لوائح (بالتحالف مع القوات اللبنانية) ودعمها في جميع المناطق التي ضمت كتلاً سنّية وازنة.

بناءً عليه، يبدو أنَّ تصويت الناخبين السنّة سيتوزع بين لوائح شخصيات تيار المستقبل السابقة، كمصطفى علوش وسواه، ولوائح القيادات السنيّة ضمن 8 آذار، ولوائح المجتمع المدني، ولوائح القوات المدعومة من السنيورة... ما يعني أن هذه الانتخابات (بغض النظر عن الأرقام والأحجام) ستفرز تعددية في مراكز القرار داخل الطائفة السنية، وأن زمن هيمنة قوى سياسية معينة على الغالبية العظمى من مقاعد الطائفة السنية واحتكار قرارها السياسي ولّى.

2-    تضخيم حجم القوات اللبنانية

لا شكّ في أنَّ القوات اللبنانيّة تتمتّع بفائض مالي وإعلامي كبير جداً، يسمح لها بهامش إعلاني ضخم حول قوتها واتساع نفوذها على مساحة الوطن. وقد بدأت حملة تضخيم حجم القوات منذ ما بعد انتخابات العام 2018 من قبل القوات أنفسهم، بالاشتراك مع بعض إعلاميي وقوى 8 آذار، حين اعتبروا أنَّ حصول القوات وحلفائها على 16 مقعداً هو فوز ساحق لها، فيما يعد حصول التيار الوطني الحر وحلفائه على 29 مقعداً خسارة مدوية.

اليوم، تطغى على المشهد الإعلامي صورة مضخّمة للقوات وحجمها، علماً أن التدقيق في تحالفات القوات اللبنانية يشير إلى أن مَن تحالفوا معها من القوى السياسية (الاشتراكي والسنيورة) قاموا بذلك بناءً على رغبة المملكة العربية السعودية، في حين تنصَّل الاشتراكي من هذا التحالف حيث استطاع، ورفضت قيادات المستقبل التحالف معها في المناطق، على الرغم من كل الضغوط. 

المؤكد أن الفائض الكبير في القوة المالية والدعم السياسي الخليجي يسمح للقوات بهامش جيد في الانتخابات، علماً أنَّ القوات تعرضت لعدّة نكسات انتخابية، منها انسحاب المرشحين الشيعة من لائحة بعلبك الهرمل، وعدم قبول لائحة الاشتراكي – القرعاوي ضمّ القوات في دائرة البقاع الغربي - راشيا، وانسحاب القوات ترشيحاً واقتراعاً من دوائر الجنوب الثانية والثالثة، ودعوتها الناس لمقاطعة في تلك الدوائر، في الوقت الذي تقول أوساط المجتمع المدني إن دعوة القوات للمقاطعة ستكون ضدها، وليست ضد الثنائي الشيعي.

3-    انعدام فرص "التغيير المدني" 

أظهرت الانتخابات أنَّ ما قيل عن "قيادات مدنية تغييرية" ستغيّر في مسار السياسة في لبنان، وتؤسس لبناء دولة مدنية قوية وعادلة تحفظ حقوق مواطنيها، ما هي إلا شعارات "ثورية" إعلامية سرعان ما انكشفت على حقيقتها.

لقد أظهرت فترة التحضير للانتخابات أنّ ما يُسمى "قوى الثورة" لم تستطع أن تتفاهم مع بعضها البعض على تشكيل لوائح موحدة، بسبب تباين الرؤى السياسية الجذري بينها من جهة، وطمعها بالمقاعد النيابية من جهة أخرى، واختراقها من قبل الأحزاب السياسية من جهة ثالثة.

إنَّ اقتتال مرشحي المجتمع المدني في معارك طاحنة بين بعضهم البعض وبينهم وبين القوى السياسية، وانكشاف المطامع والارتهان السياسي والخارجي للبعض منهم، يجعل القدرة على "الاستثمار في الحنق الشعبي ضد القوى السياسية" للحصول على مقاعد نيابية ولتحقيق خروقات انتخابية صعباً جداً.

4-    تراجع شعبي (مفترض) للتيار الوطني الحر والحزب الاشتراكي 

ما انفكَّ الإعلام اللبناني والعربي، وحتى الأجنبي، منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، يسوّق لمقولة "خسارة التيار الوطني الحر شعبيته في مناطقه، وأن قوى الثورة سحبت البساط من التيار، وأنه لم يعد يتمتع بالشعبية في المناطق المسيحية". ومؤخراً، وبالتزامن مع التحضير للانتخابات، أوردت بعض التقارير الصحافية أن الحزب الاشتراكي خسر أيضاً جزءاً من قواعده لمصلحة الثورة.

واقعياً، لا يمكن قياس صحة هذه الأخبار ودقتها في نتائج هذه الانتخابات، فالتحالفات وشخصيات المرشحين/ات والمال الانتخابي يؤدي كله دوراً كبيراً في حجم الأصوات التي تحصل عليها اللوائح والمرشحون أنفسهم. 

لكن يمكن أن نشير الى أن أياً من الحزبين لم يشهدا انشقاقات مهمة بعد 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، بل إنَّ ما شهده التيار الوطني الحر من انفكاك بعض الشخصيات السياسية من التحالف معه وانسحابهم من التكتل لا يعكس بالضرورة قواعده الشعبية في الأقضية، بل يعكس مصالح تلك الشخصيات بشكل أساسي، وارتهان بعضها لرغبة السفارات الأجنبية.

في النتيجة، مهما كان أمر هذه الانتخابات، من المؤكّد أن وعود التغيير الشامل التي يطلقها البعض كوعود انتخابية، سرعان ما ستتبدّد على مذبح الواقعية السياسية وموازين القوى اللبنانية، وسيعود اللبنانيون إلى التسويات، كما في كلِّ تاريخهم، على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب".

انتخابات تشريعية مصيرية يشهدها لبنان، بعد ما يزيد على العامين من أزمة اقتصادية سياسية غير مسبوقة، تشابك فيها المحلي مع الإقليمي والدولي، فكيف سيكون وجه لبنان بعد هذه الانتخابات؟