لبنان بين "توزيع الخسائر" وحُكم "الكابيتال كونترول"
لم ينتهِ بعدُ المشروع المرسوم للبنان، فلا يزال أمام الدولة العميقة عدة إجراءات تسعى لبسطها.
بدأ العد العكسي للانتخابات النيابية في لبنان، ومعه دخلنا مرحلة القلق من القرارات التي يمكن أن تُتَّخَذ قبل تاريخ الاستحقاق، ويدفع ثمنها البلد في الأعوام المقبلة، في كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. هذه القرارات التي تقطع الطريق على أي خيارات يمكن أن تُتَّخَذ خارج إطار النظام الريعي، كخطة توزيع الخسائر وصيغة طرح قانون "الكابيتال كونترول"، التي تحمي المصارف من الدعاوى القضائية، وإقرار موازنة رهن الاقتصاد اللبناني، والتوقيع على شروط صندوق النقد الدولي.
لم ينتهِ بعدُ المشروع المرسوم للبنان، فلا يزال أمام الدولة العميقة عدة إجراءات تسعى لبسطها على البلاد والعباد، لا تطرح من خلالها أي برامج إنقاذية، ولا تتحمّل فيها أي مسؤولية عن الأزمة، بل الهدف الوحيد منها هو تجديد شباب هذه المنظومة الفاسدة على حساب الاقتصاد.
ومن ضمن الإجراءات هذه ما يُسمى "خطة توزيع الخسائر"، التي أفضت التسريبات إلى أنها ستكون على النحو التالي:
1- "صندوق النقد الدولي" هو عنوان الخطة دائماً وأبداً، من دون البحث في أي رؤية اقتصادية أو بدائل أخرى، وتحديداً مع الشرق.
2- ضمان الودائع حتى 100 ألف دولار، تُسدَّد خلال ثمانية أعوام وباستنسابية مصرفية، من دون تحديد العملة التي سيتم فيها دفع المستحقات.
3- شطب 60 مليار دولار (من أصل 86 مليار دولار) من الأموال التي أودعها الناس في المصارف، وقامت هذه البنوك بدورها بإيداعها في مصرف لبنان المركزي، في مقابل فوائد مرتفعة، من دون محاسبة المسؤولين عن المغامرة التي ارتُكِبت عبر وضع الأموال في مكان واحد، بحيث لم يؤخذ في الاعتبار مبدأ توزيع المخاطر.
4- إنقاذ مصرف لبنان على حساب المودعين. فمطلوبات المركزي تبلغ 86 مليار دولار، وموجوداته، بحسب تقاريره، 11 مليار دولار، بالإضافة إلى احتياطي الذهب بقيمة 18 مليار دولار. ومع شطب 60 مليار دولار، وتحميله خسائر بقيمة 5 مليارات دولار، على مدى خمسة أعوام، يصبح لديه فائض من المال.
5- تثبيت الدولار الجمركي وإقراره، من دون الأخذ في الاعتبار تداعيات ذلك على الاقتصاد.
6- رفع الضريبة على القيمة المضافة (TVA) من 11% إلى15%، من دون إجراء أي تصحيح ضريبي.
7- إقرار قانون الـ"كابيتال كونترول" بعد أن طار البلد في خطة متقنة، أبطالها حزب المصارف من السياسيين الذين دمَّروا الليرة إرضاء لأوليائهم في الخارج. وربط خطة الخسائر بـ"الكابيتال كونترول" للهروب منها، بدلاً من معالجة الأمر عبر خطة اقتصادية مفيدة.
إنّ إقرار قانون "الكابيتال كونترول" في عام 2019، لو تمّ، لَكان منع إخراج 20 مليار دولار على الأقل من لبنان، ولتمت المحافظة على 40% من أموال المودعين، ولحظينا بفرصة في إعادة بناء الاقتصاد وإجراء إصلاحات خارج وصاية الدولة العميقة. وبالتأكيد، لم يكن سيصل انهيار الليرة إلى هذا الحد اللامعقول.
ونتيجة الامتناع عن إقرار هذا القانون آنذاك، كانت كالتالي:
1- خسارة الليرة 90% من قيمتها في الربع الأول من عام 2021، لتدخل بعد انهيارها مرحلة الإفلاس المنظَّم.
2- بلوغ الفقر نسبة 75%.
3- ارتفاع الهجرة إلى 33%.
4- ضياع مصير ودائع قيمتها 104 مليارات دولار.
5- انهيار في قطاعي التعليم العام والتعليم الخاص، وخصوصاً الجامعة اللبنانية.
6- أزمة كبيرة في القطاعين الصحي والخدماتي، وخسارة مباشرة للناتج المحلي من إيرادات السياحة الطبية.
7- ازدياد معدل البطالة، الذي فاقت نسبته 40%.
أمّا لو تمّ إقرار "الكابيتال كونترول" في بداية الأزمة، ومُنعت مليارات من الخروج وأخرى من التبديد داخلياً على خطط غير مدروسة، لكان يمكن استخدام ملياري دولار من هذه الأموال لإنتاج معامل توفّر الكهرباء 24/24. ونتيجة ذلك على الاقتصاد:
- توفير فاتورة مازوت تبلغ 2.5 مليار دولار.
- توفير فاتورة فيول تبلغ 1.5 مليار دولار.
- توفير فاتورة مولدات كهرباء تبلغ 1.2 مليار دولار.
إلى ذلك، كان في الإمكان إنشاء شبكة نقل حديثة تغطي كل لبنان، وشبكة أمان، اجتماعياً وصحياً، وتغطية صحية شاملة، بالإضافة إلى المحافظة على قدرات القطاع الصحية.
وأيضاً، كان في الإمكان إقرار تحفيزات صناعية مدعومة، يمكنها توفير 900 مليون دولار من فاتورة الأدوية المستوردة، و900 مليون دولار أخرى من استيراد المواد الغذائية.
وعلى صعيد الزراعة، كنا نستطيع على الأقل استثمار المساحات الشاسعة في البقاع لزراعة القمح، وتأمين مياه الري لتحقيق الاستمرارية.
كل هذه المشاريع لم تكن لتبلغ تكلفتها الإجمالية 4 مليارات دولار خلال سنة و6 أشهر.
ونتيجة السياسات الاقتصادية الخاطئة، والكيدية والتبعية والحمايات الطائفية والسياسية والاحتكارات، أضف إلى ذلك خطة الخسائر التي صاغتها الدولة العميقة، أضحينا اليوم أمام واقع مأسَوي: فلا استرجاع للأموال المنهوبة والمُهرَّبة، ولا اقتطاع من الفوائد الخيالية التي وصلت إلى 93 مليار دولار، ولا استعادة لـ6.5 مليارات دولار من أموال "الهندسات المالية"، وعدم اكتراث لخسائر الاقتصاد التي وصلت إلى 60%.
ختاماً، إنّ الدولة العميقة، ممثَّلةً بجناحيها، أي حزب المصارف ورعاته من خارج الحدود، تعمل على تبرئة النظام الريعي ومنظومته المكوّنة من المصرف المركزي والمصارف وأعضاء لجنة الرقابة والمصرفيين، من المجزرة الاقتصادية التي أصابت البلاد، وتحميل المودع والاقتصاد اللبنانيّ المسؤولية والنتيجة والخسائر، في مقابل وعود وهميّة للاقتصاد اللبناني بـ3 مليارات دولار من صندوق النقد، و20 مليار دولار من صناديق ودول وجهات مانحة. فيا تُرى، لمصلحة من تعمل هذه الدولة العميقة؟