لا بيت ولا حديقة.. لماذا تهتم "إسرائيل" بالوقت أكثر من الهدف في جنين؟
ما الذي يريده الاحتلال الإسرائيلي في جنين؟ بمعنى أوضح، هل الأمر مرتبط بالاستيلاء على عبوات ناسفة؟ وطمأنة المستوطنين؟
يدرك الاحتلال الإسرائيلي جيداً أن حالة المقاومة، التي تعبّر عنها مدينة جنين ومخيمها، هي حالة شعبية تجدّد نفسها جيلاً بعد جيل. هذا الأمر تلاحظه مؤسسات الاحتلال، الأمنية والسياسية والعسكرية، بكونه تهديداً مستمراً لا يمكن القضاء عليه بصورة حاسمة.
في الحديث عمّا تريده حكومة بنيامين نتنياهو من جنين، فإن المسألة تتعلق أكثر بما تريده جنين ومقاوموها. وإذا كان الاحتلال يسعى لإنهاء حالة المقاومة داخل المخيم، فإن المسألة بالنسبة إلى المقاومين هي المحافظة على الأرضية الصلبة، التي تمكّنهم من مواصلة الكفاح المسلح.
المسارات لتحقيق تلك الأهداف تتباين، ليس فقط بسبب اختلال موازين القوى بين الاحتلال والمقاومة في المخيم، بل أيضاً نتيجة القدرة على تحقيق الهدف. بالنسبة إلى المقاومة، فإن ارتباطها بالحالة الشعبية يجعلها محميّة منها وحامية لها. لذا، فالمحافظة عليها هي المعيار في تحديد مستويات الربح والخسارة. وبالنسبة إلى "إسرائيل"، فإن إنهاء المقاومة يتطلب ضرب بنيتها الشعبية.
تحديداً، ما الذي يريده الاحتلال الإسرائيلي؟ بمعنى أوضح، هل الأمر مرتبط بالاستيلاء على عبوات ناسفة؟ وقتل مقاومين؟ وطمأنة المستوطنين؟
في الصورة، فإن "الجيش" الإسرائيلي، بمدرعاته وجرّافاته وجنوده المدججين، اقتحم مخيم جنين، واستولى على عبوات ناسفة كانت المقاومة أعدّتها وصنعتها، ويمكنها إعادة تصنيع مثلها، بأعداد أكبر. أمّا قتلُ المقاومين، فإن الأمر لا يتجاوز كونه حلقة من حلقات الصراع، اعتادت "إسرائيل" فعله، واعتادت الحالة المقاوِمة التأقلم معه والبناء عليه أيضاً، وهذا الأمر عبّر عنه الإعلام الإسرائيلي، عبر إشارته إلى أنه "لو كانت العمليات السابقة ناجحة لما احتجنا إلى العملية الحالية".
أمّا بالنسبة إلى طمأنة المستوطنين، فإن أبرز ما يمكن الحديث عنه هو العملية الفدائية في "تل أبيب"، في عمق الاحتلال، والتي نفذها الشابّ المجاهد عبد الوهاب خلايلة (23 عاماً)، من بلدة السموع في الخليل، رداً على العدوان ضد جنين. جاءت العملية بينما كانت الأجهزة الأمنية للاحتلال في أعلى مستوى من التأهب والاستنفار، وفي وقتٍ تقوم حكومة نتنياهو بترويج، مفاده أن عدوانها على جنين هو لمنع عمليات كهذه! وبما أن المستويات الأمنية للاحتلال كانت تتوقع ما قالت إنه "عمليات فلسطينية انتقامية"، فإن نجاح العملية يتجاوز الإصابات والتخطيط والوصول إلى الهدف، إلى حدوث ما يخشاه الاحتلال ويتوقعه ويدّعي جاهزيته له، بل إنه، أكثر من ذلك، يتزامن مع شن عملية عسكرية لمنعه.
توجّه المقاومة رسائلها، ليس من باب الردع فقط، بل من أجل إثبات أن الاحتلال فشل في تحقيق هدفه من العملية العسكرية. وفي داخل المخيم، وعلى الرغم من "وقاحة" الاحتلال في استخدام هذا الكم الهائل من الأسلحة والقوة والآليات، في وجه جنين (الوقاحة ضمن ميزان القوّة)، فإن المقاومة لا تزال - وستبقى ما بقي الاحتلال - تصدر بيانات عن عبوات ناسفة، وعن مواجهات، وعن إفشال تقدّم. هذا ليس من باب رفع المعنويات، وإن كان لا بد منه طبعاً، بل هو، بصورة أساسية، إدارة لمعركة غير متكافئة، يزعم الاحتلال ضرب مراكز عملها منذ الساعات الأولى.
أيضاً، من المهم الإشارة إلى أن العمل المقاوم في جنين ليس عشوائياً أو عفوياً، بل هو عمل منظَّم، ضمن كتائب وتسلسل قيادة. وهذا، بطبيعة الحال، من أساسيات العمل العسكري. لكن، في منطقة محاصَرة وتتعرض لاقتحامات واعتداءات شبه يومية، ويُغتال قادتها، فإن المقاومة في جنين تقدّم نموذجاً نادراً عن الإدارة والتنسيق في أكثر الظروف صعوبة.
في المقابل، يجد الاحتلال صعوبة في ضرب قنوات التواصل والتنسيق. وهنا، لا نتحدث عن "الأمور المادية"، من هواتف وتقنيات غيرها، والتي تمتلك في تعقبها "إسرائيل" تكنولوجيا تُعَدّ الأحدث في العالم، بل عن العقول المقاومِة، التي تدير كل ذلك، وتوزّع المجاهدين وتُفشل الاقتحامات أو تكشفها، وفي الحد الأدنى تعوّق التقدم المريح لقوات الاحتلال ومدرعاته، وخصوصاً أن مجموعة من العبوات، انفجرت بآليات الاحتلال، كانت مزروعة عند مدخل المخيم، وليس فقط في مناطق غير مرئية نوعاً ما. وهذا يعني ما يعنيه من قدرات وتخطيط في اختراق الرقابة الإسرائيلية، مع إمكان أن يكون عمل تلك العبوات سلكياً في ظل قدرة الاحتلال على تشويش مختلف أشكال الاتصالات اللاسكلية.
أيضاً، منذ بداية العدوان الإسرائيلي، فإنه غالباً ما يتم تحديد العمليات العسكرية لأي قوّة وفق الأهداف بصورة أساسية، ويحدَّد معها الوقت كتصوّر عن المدة التي ستأخذها العملية لتحقيق الهدف. وفي الحالة الإسرائيلية، فإن الوقت تم تحديده بـ 72 ساعة، ثم 48 ساعة، من دون تصوّر واضح عن الهدف. هل فعلاً يريد الاحتلال القضاء على المقاومة في جنين بـ 72 ساعة، كحد أقصى؟
بمعزل عما إذا كان ذلك صحيحاً، أم لا، فإن تحديد العملية في الوقت لا الهدف، يشي بأن الاحتلال خائف من التصعيد ومرتبك مما يمكن أن تصل إليه الأمور، على صعيد الضفة الغربية بأكملها، وعلى صعيد غزة. بمعنى أدق، إن الاحتلال يحسب حساباً لـ"وحدة الساحات"، بينما يسعى لاستهداف إنجازاتها. وفي هذه الحالة، فإن الوقت لا يرتبط بهدف حكومة نتنياهو، بل بما يمكن للمقاومة أن تقوم به إذا استمرت العملية. وهنا، حقق المجاهدون في جنين إنجازهم الأول منذ لحظة إعلان العملية العسكرية.
ينفذ الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على جنين بدعمٍ غربي واضح، عبّرت عنه تلك الدول بقولها "إن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها... مع عدم استهداف الأبرياء". وجهة نظر الغرب، القائلة إن "إسرائيل" تدافع عن نفسها، هي سياسة ليست فقط متوقعة، بل مطلوبة غربياً، لأن الغرب ينظر إلى الصراع انطلاقاً من كونه "دفاع إسرائيل" عن مصالحه تحديداً، ويعني ذلك أن من غير الممكن مطالبته بموقف مغاير. لكن، ما قصة "الأبرياء"؟ المقصود بهم، في التصريحات، أولئك الذين لا يشكلون ضرراً على "إسرائيل" في دفاعها عن نفسها. إذاً، من هم؟ في حال أخذنا الأمر من وجهة نظر الغرب، فإن "لا أبرياء في جنين"، فكل جنين اليوم تقاتل، لأنها ترى أن الاحتلال لا يمتلك لا البيت ولا الحديقة ليدافع عنهما، ولأن المقاومة في جنين حالة شعبية شاملة، لا يمكن اجتثاثها.
تنسحب قوات الاحتلال الإسرائيلي من جنين، من دون الإعلان عن تحقيق أهداف واضحة. لكن إذا قرر الاحتلال الذهاب بعيداً في جرف الحالة الشعبية (حاول ذلك عام 2002 وفشل) ومحو جنين عن الخريطة، من أجل محو المقاومة كحالة، فإن الوقت ليس في مصلحته، لسبب محدد: أن جنين جبهة من الجبهات المتعددة التي يخشاها الاحتلال، وساحة من ساحات موحدة، ونصل سيف القدس الـمُصْلَت عليه.