قراءة موضوعية في انتخابات لبنان
يُتوقع أن يكون هناك خلط كبير للأوراق واصطفافات تتوسع وتضيق بحسب الموضوع ورغبة الداعمين الخارجيين.
انتهت الانتخابات النيابية اللبنانية بهدوء سياسي وشعبي وأمني لافت، يؤكد قدرة لبنان والدولة اللبنانية على تخطي الانهيار وعودة الانتظام إلى المؤسسات في ما لو كان هناك إرادة سياسية بذلك.
واقعياً، وبالرغم من كل التضليل الإعلامي والاهتمام العالمي بالانتخابات النيابية اللبنانية، ومسارعة وسائل الإعلام اللبنانية والغربية والعربية إلى إعطاء نتائج وتحليلات وإسقاطات سياسية، حتى قبل صدور النتائج، فإن قراءة دقيقة للنتائج والأصوات وحجم الكتل، تعطي المؤشرات التالية:
1- خسارة الغالبية النيابية
حصد حزب الله والتيار الوطني الحر والحلفاء، عام 2018 غالبية نيابية قوامها 71 مقعداً، تراجعت هذه الحصة اليوم إلى 61 نائباً (تختلف التقديرات، البعض يقول 64).
في النتائج، لقد احتكر الثنائي (حزب الله، حركة أمل) المقاعد الشيعية بشكل كامل، وخسر حلف المقاومة الحلفاء الدروز بشكل كامل، فيما حافظ الحليف المسيحي على قوته، كما حافظ حلف المقاومة على نسبة مقبولة من الحلفاء السنّة. بالمقابل، ازدادت قوة معارضي المقاومة من المسيحيين والسنّة، واحتفظ جنبلاط بكتلته من دون تغيير.
وبين تلك القوى السياسية التقليدية المتصارعة، تشكّلت كتلة وازنة قوامها 15 نائباً من المجتمع المدني، لكنها متباينة فكرياً وسياسياً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن مطالبين بنزع سلاح المقاومة إلى مؤيدين لبقائه إلى منخرطين بالمقاومة.
في تحليل الأرقام، خسرت الغالبية النيابية السابقة بعضاً من مقاعدها، لكن لا يمكن القول إن الغالبية النيابية تلك قد خسرت 10 مقاعد بالكامل. عملياً، تناقصت الغالبية قبل الانتخابات بكثير، تحديداً بعد "ثورة" 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، حيث انسحب العديد من النواب ممن كانوا يُحسبون من ضمن هذه الغالبية (على الأقل 5 نواب) وانضموا إلى صفوف "الثورة"، ما يعني أن الغالبية النيابية لم تنطلق في هذه الانتخابات من رقم 71 بل من رقم 66. علماً أن جميع النواب الذين انسحبوا وانضموا إلى "الثورة" (باستثناء شامل روكز) قد عادوا ونجحوا في هذه الانتخابات، واحتسبوا ضمن "الشخصيات السياسية المستقلة".
2- مفاجأة التيار الوطني الحر
لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أن يحافظ التيار الوطني الحر على كتلة وازنة كبيرة، بل كان التقدير أن التيار لن يصمد في حساب الشعب اللبناني وأنه سينهار كلياً في انتخابات تمّ التمهيد لها عبر "ثورة"، وسنوات من الحرب الإعلامية والتنمر والوشايات، وصرف الأموال والضغوط الاقتصادية والدولية والعالمية، بالإضافة إلى انهيار اقتصادي ومالي وانفجار المرفأ، وتحميل رئيس الجمهورية والعهد مسؤولية خراب نتيجة 30 سنة من سياسات الفساد والنهب المنظّم للخزينة العامة.
المفاجأة تمثلت بأن التيار لم يصمد فحسب بل حصد كتلة وازنة قوامها 21 نائباً، وهي تعد الكتلة الأكبر في البرلمان اللبناني.
3- تقدم القوات اللبنانية
تقدمت القوات اللبنانية في هذه الانتخابات وحصدت كتلة نيابية وازنة تنافس كتلة التيار الوطني الحر وتوازيها تقريباً.
لكن الأمر لم يشكّل مفاجأة للمراقبين والمطلعين على سير الانتخابات في لبنان، فلقد كانت القوات الحزب الأكثر تمويلاً في الانتخابات النيابية، بالإضافة إلى تلقيها دعماً علنياً ومباشراً من السفير السعودي وليد البخاري الذي استخدم علاقاته ونفوذ المملكة مع السياسيين ورجال الدين السنّة لدعم القوات، ثم جال بنفسه على الأقضية لحصد الدعم للوائح القوات، وإجبار المرشحين السنّة على اللوائح المقابلة على الانسحاب تأميناً لحواصل أكبر للكتلة القواتية.
عملياً، استفادت القوات من تغييب الرئيس سعد الحريري عن الساحة السياسية، إذ لم تكن تستطيع أن تحصد هذا الكمّ من الأصوات السنية الداعمة للوائحها، لو كان هناك لوائح منافسة لتيار المستقبل. اللافت أن السنيورة الذي أوكلت إليه مهمة إنهاء دور آل الحريري في السياسة اللبنانية، قد تلقى خسارة مدوية إذ لم تستطع لوائحه أن تحصد أي مقعد نيابي.
4- الثنائي: حزب الله وحركة أمل
انتشرت في الإعلام الغربي والمحلي تقارير تفيد بتراجع حزب الله في هذه الانتخابات وأن النتائج تشير إلى فقدانه الدعم الشعبي.
إن التدقيق بأرقام المقاعد والأصوات التي نالها حزب الله، تشير إلى أن كتلته زادت عددياً هذا العام عن العام 2018، بالإضافة إلى حصوله على أعلى نسبة أصوات تفضيلية على صعيد لبنان، وعلى عدد أصوات أكثر من عام 2018.
لقد استطاع الحزب أن يحوّل المعركة إلى معركة "حماية المقاومة" وتصويت "ضد حرب تموز سياسية"، فاستنفر الجمهور الشيعي للتصويت بكثافة. أما حركة أمل فلقد خسرت مقعدين، وخسر الرئيس بري حلفاءه من خارج كتلة حركة أمل، فسقط الفرزلي وفيصل كرامي وابراهيم عازار وأسعد حردان، والصيرفي مروان خير الدين وغيرهم.
5- مفاجآت الساحتين السنية والدرزية
بالطبع، حصل خلط كبير للأوراق في الساحتين السنية والدرزية، إذ إن غياب تيار المستقبل سمح بوصول فسيفساء من الاتجاهات الفكرية والسياسية إلى الندوة البرلمانية ضمن المقاعد السنّية. بشكل عام، لقد توسّع حجم التيار العروبي في هذه الانتخابات في كل الدوائر ذات الغالبية السنّية... أكبر المفاجآت كانت في صيدا، حيث حققت لائحة أسامة سعد وعبد الرحمن البزري انتصاراً كبيراً بحصولها على 3 مقاعد في دائرة صيدا- جزين.
أما على الساحة الدرزية، فلقد استطاع المجتمع المدني إخراج قيادات درزية عريقة من البرلمان اللبناني (طلال إرسلان ووئام وهاب)، وهكذا خسرت المقاومة حلفاءها في الساحة الدرزية بالكامل.
في الخلاصة، يبدو أن تركيبة البرلمان اللبناني المتنوعة ودخول قوى جديدة إليه، ستعطي دفعاً أكبر لقوى المجتمع المدني للترشح عام 2026. لكن على الصعيد السياسي، يُتوقع أن يكون هناك خلط كبير للأوراق واصطفافات سياسية تتوسع وتضيق بحسب الموضوع ورغبة الداعمين الخارجيين.