في مواجهة الصين.. خيارات أميركية قاصرة

يمكن تصنيف الرسالة الصينية، إن صدق المعطى الأميركي، في إطار لفت نظر الولايات المتحدة إلى إمكانات الصين وخياراتها المتعددة، والتي من الممكن أن تلجأ إليها.

  • في مواجهة الصين... خيارات أميركية قاصرة
    في مواجهة الصين.. خيارات أميركية قاصرة

بعد رصدها منطاداً تنقّل فوق أراضيها مدةً تزيد على خمسة أيام، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، السبت الماضي، نجاحها في إسقاطه عبر صاروخ أطلقته طائرة أف 18 فوق مياه الأطلسي من دون وقوع أي أضرار جانبية، غير أن النجاح الذي حققته تلك الطائرة لم ينسحب اطمئناناً داخل أروقة الإدارة الأميركية، بحيث إن التعقيدات التي خلّفها ذلك المنطاد لم تنحصر ضمن إطار تقديم عملية إسقاطه كرد الفعل الأميركي على سلوك صيني، وإنما انسحبت تعقيداً على مستوى العلاقة بين البلدين، بحيث قابلت الصين إلغاء زيارة وزير الخارجية الأميركية لبكين برفض طلب أميركي إجراءَ اتصال آمن بين وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ونظيره الصيني وي فنغي، بعد أن أعلنت أن عملية إسقاط المنطاد المدني لن تمر من دون رد.  

إذا كان رد الفعل المباشر على الاعتداء الأميركي تَمَثّل برفض إجراء اتصال آمن بين وزيري دفاع البلدين، فإن هذا القرار لم يأخذ في الحسبان إمكان أن يكون حادث إسقاط المنطاد محصوراً ضمن إطار رفض الولايات المتحدة الأميركية أيَّ خرق لأجوائها.

وبطبيعة الحال، تُسقط الاعتبارات الجيوسياسية أي إمكان في ترجيح فرضية الحادث العرضي بين الدولتين العظميين، بحيث إن العلاقة بينهما محكومة بحسابات دقيقة وخطوط حمراء معقّدة لا يمكن أن تسمح بتفسير حادثة أو فعل معين وفق مبدأ حسن النية، أو حتى الامتناع عن استغلال أي حادث في عملية التحشيد، داخلياً وخارجياً. فالقرار الأميركي تجاه إدانة الصين لم ينتظر أي تبرير أو شرح صيني.

فحتى لو قدم الجانب الصيني من الدلائل ما يؤكد طبيعة المنطاد البحثية، وخروجه عن سيطرة مشغّليه، فإن العقل الأميركي لن يكون ملزَماً باستيعاب فكرة خرق الصين سيادته في لحظة تتسم العلاقة بين الطرفين بالتعقيد والتوتر نتيجة قضية تايوان والأحلاف العسكرية الأميركية عند حدود الصين، ونتيجة قناعة أميركية بتهديد الصين أسسَ النظام العالمي الأحادي الأميركي. وبالتالي، قابلت الصين الموقف الأميركي بمستوى معادل، بحيث إن الاحتفاظ بحق الرد اقترن بسلوك سلبي تجاه طلب وزارة الدفاع.

في هذا الإطار، تُفترض الإشارة إلى الأسباب التي دعت الولايات المتحدة إلى مقاربة الملف العلاقة بالصين وفق فرضية تهديد الأمن القومي الأميركي، مع الإشارة إلى أن اختراق المنطاد الصيني للأجواء الأميركية لم يكن الأول. فشبكة "سي أن أن" تحدثت عن تقرير استخباري، صادر عن الاستخبارات الأميركية، كشف أن ثلاثة مناطيد صينية حلقت فوق الولايات المتحدة الأميركية في عهد دونالد ترامب.

وإذا كان من غير المنطقي تكذيب هذا التقرير، لسبب يتعلق بالجهة التي أصدرته، بحيث يُفترض أنها تتمتع بالحيادية وعدم الانحياز إلى أي من الحزبين الحاكمين، فإن في ذلك إشارة إلى ضرورة تحليل أسباب إثارة هذا الأمر، وتحويله إلى سبب مباشر لتوتير العلاقة بين البلدين في هذه اللحظة.

فإذا كان أول المناطيد المكتشفة فوق الولايات المتحدة الأميركية، بحسب التقرير الاستخباري، يعود إلى عام 2019، مع احتمال وجود حوادث غير معلَنة من قبل، فإن الإشكالية بالنسبة إلى المنطاد الأخير لا تتعلق باختراق خطوط حمراء أميركية لأول مرة، أو بتقنية صينية حديثة ستشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي، بحيث إن هذه المناطيد، مع عدم التقليل من قدراتها، لا تشكّل قيمة مضافة إلى ما تمتلكه الصين من قدرات عالية في مجال التجسس والمراقبة، بالإضافة إلى أن الاستنفار الأميركي وحالة الهلع التي أثارتها السلطات الأميركية والحزبان الجمهوري والديمقراطي، نتيجة اختراق السيادة الأميركية وتهديد أمنها القومي، سيصبحان غير مبرَّرين، بحيث إن حادثة الخرق الأخيرة لم تكن الأولى.

وعليه، يصبح من المنطقي ربط الضجة التي أثارتها الولايات المتحدة الأميركية في الفترة الأخيرة بالاتجاه الأميركي إلى تصعيد الموقف مع الصين، انطلاقاً مما نصت عليه استراتيجية الأمن القومي الأميركي الأخيرة.

فإثارة قضية التجسس عبر المنطاد، مع ما صرحت به المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيار، ومفاده أن مناطيد صينية رُصدت فوق دول في القارات الخمس، أمرٌ يتقاطع مع التقدير الأميركي الذي تسعى الإدارة الأميركية لتسويقه حول العالم، والذي يحاول أن يُظهر الصين دولةً استبدادية تحاول تغليف سياستها الخارجية بطابع تحريفي يهدف إلى تشكيل مجال للنفوذ، في حين أن الولايات المتحدة الأميركية آثرت، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، منع أي قوة من تشكيل إطار أو نفوذ خاص بها.

عام 2009، قال جون بايدن، وكان حينها نائباً للرئيس الأميركي، إن الولايات المتحدة الأميركية لن تعترف بأي دولة تمتلك مجالاً من مجالات النفوذ. وأضاف أنه من الممكن أن تكون للحكومة الصينية أفكار أخرى، إذ تهدف الصين، في منطقة شرقي آسيا وغيرها من الأماكن الأخرى، إلى حيازة مجال نفوذ تقليدي إلى درجة ما، بحيث إن الواقع الذي لمسه جون بايدن عام 2009 لم يتغير، إذ يرى أن المشروع الصيني لم يخرج عن دائرة التخطيط لتكريس شبكة من العلاقات الاقتصادية والمالية تجعل اقتصادات بعض الدول تدور حول بكين.

ومن ناحية أخرى، يركز الرئيس الأميركي بايدن على القوة العسكرية الصينية وأهدافها في تايوان وفي بحر الصين الجنوبي، بحيث يرى أنها تهدف إلى دفع دول تلك المنطقة إلى التفكير بحذر قبل أي محاولة قد تُغضب الصين.

منذ عهد باراك أوباما، وصولاً إلى جون بايدن، أمكن لمس نوع من العدائية الأميركية تجاه الصين، بحيث إن محاولة احتوائها، عبر سلسلة من الأحلاف العسكرية، تم تتويجها في الفترة الأخيرة بأوكوس AUKUS  وكواد QUAD، بالإضافة إلى اتفاقيات ثنائية كرّست اليابان وكوريا، ومؤخَّراً الفلبين، قواعدَ عسكرية أميركية ضخمة عند الحدود اللصيقة بالدولة الصينية. بالإضافة إلى ذلك، لم تكتفِ إدارة بايدن بالأحلاف العسكرية، بل سلكت مساراً آخر لا يقل خطورة بالنسبة إلى الأمن القومي الصيني.

فالزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة، نانسي بيلوسي، لتايوان، واستعداد الرئيس الحالي لمجلس النواب، كيفن ماكرثي، لتكرار تجربة بيلوسي، يؤكدان القرار الأميركي القاضي بالتصعيد.

ويُفترض أن نشير إلى أن أجهزة التجسس الأميركية على العالم عموماً، والصين بصورة خاصة، تبقى الأكثر فعالية وتعقيداً، بدءاً بوكالة الاستخبارات المركزية والأمن القومي، وصولاً إلى العدد غير المحدود من المكاتب الاستخبارية العسكرية والمدنية، وما تملكه من أدوات متطورة، بدءاً بتكنولوجيا المعلومات، وصولا إلى الأقمار الاصطناعية التجسّسية العسكرية.

من ناحيتها، لم تتعاطَ الصين تاريخياً مع السلوك الأميركي بطريقة حادة، بدليل ردها التقليدي على زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة نانسي بيلوسي لتايوان. ففهمها التقليدي لمبدأ رد الفعل ينطلق من رؤية تتباين، في جوهرها، عن الضجيج الذي تتعمده الولايات المتحدة الأميركية.

وعليه، يصبح الموقف الصيني الأخير متقدماً. فتبنّي خطوات غير معهودة في القاموس الصيني يؤكد أن الأحداث الأخيرة لا تنفصل عن تقييم صيني لمسار أميركي متعدد الأذرع، يبدأ بالأحلاف العسكرية وتغيير الموقف من قضية تايوان، ولا ينتهي باستراتيجية الأمن القومي الأخيرة، والتي صنّفت الصين هدفاً أول للتحييد أو الاحتواء.

وفي هذا الإطار، يمكن تصنيف الرسالة الصينية، إن صدق المعطى الأميركي، في إطار لفت نظر الولايات المتحدة إلى إمكانات الصين وخياراتها المتعددة، والتي من الممكن أن تلجأ إليها. فالاعتقاد الأميركي أن الرد الصيني لن يخرج عن إطاره المعهود اصطدم بواقع جديد، يؤكد قدرة الصين على المبادرة ضد الأحادية الأميركية. وعليه، أصبح لزاماً على الإدارة الأميركية أن تعيد تقييم خياراتها القاصرة في ظل قوة صينية قادرة على التخلي عن صمتها وهدوئها متى أرادت.