في ذكرى "طوفان الأقصى": نألَمُ ويألَمون.. ونرجو ما لا يرجون
يدرك بعض العقلاء في العواصم الغربية أن اليمين الإسرائيلي يقود الكيان نحو الانتحار، رغم ذلك هناك دعم يصل من أوروبا وأميركا الشمالية إلى "تل أبيب"، والسبب أن "إسرائيل" هي القاعدة التي تنفّذ نيابةً عنهم أهدافهم في المنطقة.
امتازت فصائل المقاومة التي تسيّدت المشهد عربياً خلال العقود الأخيرة بالصدق مع الجمهور، فلم تلجأ يوماً لخداع مؤيديها عبر بياناتٍ غير دقيقة تُوهمهم بتحقيق انتصارٍ ما أو كسب جولة قتالية معيّنة في معركةٍ، كان الجميع يترقّب نتائجها؛ بل على العكس كانت الشفافية مع الأنصار هي العنوان الدائم لكلّ البيانات الإعلامية والخطابات التي يلقيها القادة.
من يتأمّل خطابات سماحة الشهيد نصر الله، منذ توليه قيادة حزب الله في عام 1992، سيلحظ مدى الأمانة التي التزمها مع تلامذته ومحبيه وعموم جمهور المِحور، فكم من مرةٍ أشار السيّد حسن إلى ثقل الضربة التي تلقّتها المقاومة بعد استشهاد أحد عناصرها البارزين، أو بصعوبة المهمات المُلقاة على عاتق الفصائل المقاتلة في بعض الفترات بسبب الضغوط التي تواجهها من الداخل والخارج، في مقابل الدعم المُفرط الذي تتلقّاه "تل أبيب" من مختلف العواصم الغربية.
لكن الفارق هنا، أنّ قادة المقاومة المُخلصين لسبيلهم الرامي إلى تحرير الأرض الفلسطينية المسلوبة، كانوا يصنعون من تلك الجِراح والصعوبات طاقةً دافعة نحو مزيدٍ من العمل الجاد في سبيل تحقيق مُراد من استشهدوا، وللثأر لمن ظُلموا، ولتحدي من يسعون إلى الاستطالةِ على التنظيمات المعادية للوجود الصهيوني. هذا يدلُّ على أن الفارق بين خطاب المقاومة الطَموح وبين خطاب الهزيمة الذي يتبناه خصومها، كان دوماً يدور حول المعالجة والتوظيف، وليس شيئاً آخر يتعلّق بأمانة نشر المعلومة أو بثّ الخبر.
عامٌ على يومٍ من أيامِ الله: عندما غزونا "إسرائيل" للمرة الأولى منذ 1948
مرّ عامٌ على الإنجاز غير المسبوق الذي قامت به الفصائل الغزيّة أوّل ساعات صباح يوم السبت الموافق السابع من تشرين الأول/أكتوبر، إذ عبرَ المسلّحون الفلسطينيون من القطاع المحاصر إلى داخل "إسرائيل"، بواسطة السيارات والدراجات الناريّة والطائرات الشراعيّة، مُخترقين الحاجز الحدودي الذي تبنيه قوات الاحتلال وتطوّره منذ 1971، مَدعومين بقصفٍ صَاروخيٍ وَاسع النطاق، طال مختلف المستوطنات الصهيونية من “ديمونا” في الجنوب إلى “هود هشارون” في الشمال.
كانت العملية بمثابة الزلزال الذي هزّ الأعمدة التي تأسس عليها الكيان الإسرائيلي، وأهمها ذلك المتعلق بتعهّد مؤسسي "إسرائيل" بأنهم يضمنون "الأمان الكامل للمهاجرين"؛ فإذا بطوفان الأقصى يحطّم هذا السيناريو الإسرائيلي، في وقتٍ كانت "تل أبيب" تتصوّر أن موعد الحصاد الدبلوماسي قد حان، وأنها في طريقها لعقد المزيد من اتفاقيات التطبيع مع العواصم العربية، وأن الاعتراف بها في المنطقة بات قضيةً لا تحتمل النقاش؛ فإذا بالمناضلين الفلسطينيين يسيطرون على مركز الشرطة في “سديروت”، ويخوضون قتالاً في مستوطنات غلاف غزة، ويأسرون عدداً من الجنود و"المدنيين" ويقتادونهم إلى داخل قطاع غزة.
أعادت العملية القضيةَ الفلسطينية مرةً أخرى إلى الواجهة بعد سنوات من الخفوت، وأشعلت الحماسة داخل المجتمع العربي، ودفعت الجماهير مجدداً إلى الميادين يحملون أعلام فلسطين ويهتفون للمقاومة، والأهم أن البيانات الصادرة من غزة، ربطت عمليتها بالانتهاكات الإسرائيلية للمَسْجد الأقصى واعتداء المُستوطنين على الفلسطينيين في القُدس والضّفّة والدّاخل المُحتَل، بما يعني أن العملية لا تتعلّق بدوافع غزيّة خالصة، بل هي تتعلق بفلسطين (كلّ فلسطين) من نهرها إلى بحرها.
ساحات محور المقاومة لم تتخلّف عن الدخول في المعركة، ما إن أعلنت حكومة بنيامين نتنياهو استعدادها للردّ العنيف، وعلى مدار عامٍ كامل اتحدت الساحات بهدف إسناد غزة شعباً ومقاومةً، وتقديم كل ما يلزم من عونٍ ودعم. حزب الله بحُكم الجغرافيا والخبرة القتالية وجلاء العقيدة، كان في المقدمة، وانخرط في القتال، باعتبار المعركة معركته منذ اليوم الأول، وصنع معادلته التي حاول عبرها إجبار الحكومة اليمينية داخل "إسرائيل" على الرضوخ لمطلب المقاومة الفلسطينية بالخروج من غزة، وذلك مقابل التوقّف عن إطلاق الصواريخ نحو شمال الأراضي المحتلة، بما يسمح للمستوطنين الفارّين بالعودة إلى مساكنهم.
لا أحد يُهوّن من حجم الضريبة التي دفعها محور المقاومة (جمهور وعناصر وقادة) في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن، فعشرات الآلاف من أهالي غزة قد استشهدوا، ومئات الآلاف نزحوا وتشرّدوا، والضربات الإسرائيلية طالت الساحات كافة، والدماءُ قد سالت، كبرهانٍ قاطع على مدى الوفاء وصدق الولاء؛ لكن في المقابل أحدثت المقاومة خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة داخل الكيان، ومن العبث عقد مقارنات بالأرقام المُجرّدة، فمقتل نحو 1700 إسرائيلي منذ السابع من أكتوبر، بخلاف عشرات الآلاف من المصابين، إضافة إلى من تم إجبارهم على الفرار من مساكنهم، هو أمر كافٍ لضعضعة أركان المجتمع الإسرائيلي، الذي يتأكد لديه يوماً بعد آخر أن الهجرة العكسية من أراضي فلسطين التاريخية أمرٌ حتمي.
الحرب النفسيّة: الهزيمة قرينة انهيار الروح المعنويّة
يبحث قادة الاحتلال منذ مساء السابع من أكتوبر 2023 عن "نصرٍ استثنائي" يُطمئن الشارع الإسرائيلي، ويعيد له اتزانه النفسي، ويُعادل من حيث الفرَادة عملية "طوفان الأقصى"، لهذا السبب كان الاجتياح البري لقطاع غزة، وارتكاب نحو 3654 مجزرة، مع السعي نحو اجتثاث المقاومة من جذورها، ولهذا السبب أيضاً كان اغتيال الشهيد إسماعيل هنية في طهران بآخر أيام شهر تموز/يوليو الماضي، ثمّ اغتيال سماحة الشهيد نصر الله في السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر، مع تكثيف الضربات الجوية للضاحية الجنوبية ببيروت، ومحاولة اجتياح جنوب لبنان برياً.
منذ اليوم الأول، كانت المقاومة على وعيٍ بأنّ خسارة جمهورها لروحه المعنوية، في مقابل استرداد الإسرائيليين ثقتهم بذواتهم، هي الهزيمة، وما عكس ذلك هو النصر، لأن معركة التحرير ممتدة، والغَلَبة لأصحاب النفس الطويل؛ لذا كانت وصيّة الشهيد نصر الله دوماً التشبث بالأمل، والثقة في النصر، واليقين بأن المقاومة قادرة على تحرير الأقصى، وأن الكيان يُخفي ضعفه ووهنه خلف تلك الحالة من الوحشية أحياناً والتبختر أحياناً أخرى.
صمدت فصائل المقاومة الفلسطينية في وجه قوات الاحتلال على مدار عامٍ كامل، ورغم الضربات العنيفة لا تزال قادرة على إعادة تنظيم صفوفها في كل بقعة أعلن "جيش" الاحتلال "تطهيرها"، وغالباً ما يصاب الإسرائيليون البعيدون عن ساحات القتال بالصدمة، عندما يعرفون أن سرايا القدس وكتائب عز الدين القسام، لا تزال قادرة على التصدي للتوغل الإسرائيلي في مخيم جباليا، وتنفيذ عمليات قنص لجنود إسرائيليين، وأنّ عمليات الاستهداف لدبابات الميركافا وناقلات الجند والجرّافات العسكرية بالكمائن المركّبة في خان يونس ورفح جنوبي قطاع غزة، مُستمرة ولم تتوقّف إلى الآن.
هذا الصمود الغزّي ما كان ليحصل لولا صواريخ ساحات الإسناد، التي طالت كل بقعة في "إسرائيل"، بما يشمل يافا المحتلة، مقبلةً من جنوب لبنان واليمن وجنوب العراق.. ومن إيران ذاتها، لتطير مرتين خلال عامٍ واحد نحو 2000 كم، الأولى في نيسان/أبريل ردّاً على الغارة الجوية الإسرائيلية على القنصليَّة الإيرانية في دمشق، والثانية في مطلع الشهر الجاري ردّاً على اغتيال العدو لقادة المقاومة. الصمود الفلسطيني اليوم أيضاً، صار توأماً لصمود مجاهدي حزب الله في الجنوب، وهم يتصدّون لمحاولات "جيش" الاحتلال تنفيذ عملية احتياج بري، فإذا بالجنود الإسرائيليين يعودون محمولين في طائرات الإسعاف الجوي بين قتيلٍ وجريح.
العدوّ مُنتشٍ لكنّ أنينه مسموع
يشعر العدو الإسرائيلي بالنشوة منذ اغتيال السيّد نصر الله، لأنه يدرك قيمة الشهيد وحجم ما يمثّله لدى جمهور المقاومة، لكن في الآن ذاته بات المجتمع الإسرائيلي يدرك مدى ضعفه، وأنه لا يستطيع النهوض بذاته، بل هو مُجبر على الاعتماد على الدعم الأميركي، وأنه من دون واشنطن وطابور العواصم الغربية المطمورة تحت عباءتها، لن يقدر على الصمود في وجه فصائل المقاومة التي باتت تحيط به من كل جانب.
بخلاف حالة الانكشاف التي تعيشها "إسرائيل" على المستوى العسكري، هناك وضع اقتصادي يتأزّم مع مرور الوقت، وتكاليف الحرب تتفاقم مع إصرار حكومة الاحتلال على توسيع رقعة الحرب، ما ينذر بمزيد من الانكماش، وبالتالي مزيد من خفض التصنيف الائتماني، ومن المعلوم أن بنك "إسرائيل" كان قد قدّر منتصف العام الجاري أن التكاليف الناجمة عن الحرب قد تبلغ 66 مليار دولار حتى نهاية العام المقبل، وهذا يعادل نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي.
لكن المهم في مسألة تفاقم أزمات "إسرائيل" الاقتصادية، هو الشق المتعلّقة بغياب الثقة، فالعديد من أصحاب رؤوس الأموال المحليين والأجانب يحجمون الآن عن الاستثمار داخل الكيان بسبب الحرب والمخاطر المتعلقة بصواريخ وعمليات المقاومة، إذ تُقدّر شركة كوفاس بي دي آي، وهي شركة تحليلات أعمال كبرى في "إسرائيل"، أن 60 ألف شركة ستغلق أبوابها هذا العام، ومعظم هذه الشركات صغيرة، تضم ما يصل إلى 5 موظفين.
يدرك بعض العقلاء في العواصم الغربية أن اليمين الإسرائيلي يقود الكيان نحو الانتحار، رغم ذلك هناك دعم يصل من أوروبا وأميركا الشمالية إلى "تل أبيب"، والسبب أن "إسرائيل" هي القاعدة التي تنفّذ نيابةً عنهم أهدافهم في المنطقة، وغايتهم اليوم التخلص من الثورة الإيرانية بمشروعها المناهض للاستعمار وبالمحور الذي تشكّل في الوطن العربي متحالفاً معها منذ مطلع الثمانينيات تقريباً.
يطمح الغرب إلى ذلك من دون مواربة، بالضبط كما أراد يوماً التخلص من الاتحاد السوفياتي بمشروعه وأفكاره وحلفائه. نتنياهو يفهم ما تريده قوى الاستكبار الغربي منه، ويستثمر في ذلك، لكنه قد فاته أن العالم يمر بمرحلة مخاض وفى انتظار ميلاد خارطة جديدة، لن تتمتع فيها واشنطن بالمكانة نفسها التي لها منذ الحرب العالمية الثانية، وهذا كلّه سينعكس إيجاباً على الشرق الأوسط، الذي ستظهر حينها خرائطه بصورتها الطبيعية خالية من "إسرائيل".